شهادات الكتب السابقة
لا يخلو زمن من قائم لله بالحجة.. كان ذلك في القديم، وهو كذلك في الحديث.. وإلى أن تقوم القيامة، يقوم القائمون بالحجة لله تبارك وتعالى.
لقد قال الله -سبحانه وتعالى- في كتابه الخالد: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} [فصلت: 53]، وإن من مقتضيات خلود هذا الكتاب أن تظل كلمة {سنريهم} قائمة دائمة، تمثل الحالة المتجددة من الآيات التي تبين للناس أين يكون الحق.. وبتراكم الأيام تتراكم الآيات وتتجدد.

بشارات النبي في التوراة
أدلة وبراهين وبشارات كثيرة تلك التي تضمنتها كتب التوراة الموجودة الآن بين يدي أتباعها؛ بما يؤكد صدق النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعواه ورسالته، وأنه خاتم المرسلين والمبعوث رحمة للعالمين؛ مما يقيم الحجة على أهل هذه الكتب، ويثبت إيمان المؤمنين.

ولقد أراد اليهود بكل عزمهم وقوتهم وجهدهم أن يطمسوا النور الذي بين أيديهم، فحرفوا وبدلوا في كتاب الله التوراة، وكان من جملة ما طمسوا حقيقته وشوهوا صورته البشارات الإلهية بقدوم خاتم الأنبياء محمد -صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لعدم إيمانهم بقدرة أية أمة غيرهم على النهضة العالمية المرجوة لطريق الله القويم، ولما كان النبي الخاتم من ولد إسماعيل -عليه السلام، وليس من ولد إسحاق -عليه السلام- كما اعتادوا؛ فقد زادهم ذلك حقدا فوق حقدهم، فعملوا بكل ما أوتوا من قوة على تشويه حقيقة النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم، والدين الحق الإسلام.

البشارة الأولى
- قوله في الفصل التاسع من السفر الأول من التوراة: "إن هاجر لما فارقت سارة وخاطبها الملك فقال: يا هاجر، من أين أقبلت؟ وإلى أين تريدين؟ فلما شرحت له الحال، قال: ارجعي، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا اسمه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع ذلك وخضوعك، وولدك يكون وحش الناس، يده فوق يد الجميع، ويد الكل به، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته" (1). يقول ابن القيم: "... ومعلوم أن يد بني إسماعيل قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم- لم تكن فوق أيدي بني إسحاق؛ بل كان في أيدي بني إسحاق النبوة والكتاب، وقد دخلوا مصر زمن يوسف مع يعقوب، فلم يكن لبني إسماعيل فوقهم يد، ثم خرجوا منها لما بعث موسى، وكانوا مع موسى من أعز أهل الأرض، ولم يكن لأحد عليهم يد؛ ولذلك كانوا مع يوشع إلى زمن داود وملك سليمان، الملك الذي لم يؤت أحد مثله، فلم تكن يد بني إسماعيل عليهم، ثم بعث الله المسيح فكفروا به وكذبوه، فدمر عليهم تكذيبهم إياه، وزال ملكهم، ولم تقم لهم بعده قائمة، وقطعهم الله في الأرض أمما، وكانوا تحت حكم الروم والفرس، وغيرهم، ولم تكن يد ولد إسماعيل عليهم في هذا الحال، ولا كانت فوق يد الجميع إلى أن بعث الله محمدا -صلى الله عليه وسلم- برسالته، وأكرمه الله بنبوته، فصارت بمبعثه يد بني إسماعيل فوق الجميع، فلم يبق في الأرض سلطان أعز من سلطانهم؛ بحيث قهروا سلطان فارس والروم والترك والديلم، وقهروا اليهود والنصارى والمجوس والصابئة وعباد الأصنام؛ فظهر بذلك تأويل قوله في التوراة: "ويكون يده فوق يد الجميع ويد الكل". وهذا أمر مستمر إلى آخر الدهر. قالت اليهود: نحن لا ننكر هذا؛ ولكن إن هذه بشارة بملكه وظهوره وقهره لا برسالته ونبوته. قال المسلمون: الملك ملكان؛ ملك ليس معه نبوة بل ملك جبار متسلط، وملك نفسه نبوة؛ والبشارة لم تقع بالملك الأول، ولا سيما إن ادعى صاحبه النبوة والرسالة وهو كاذب مفتر على الله؛ فهو من شر الخلق وأفجرهم وأكفرهم، فهذا لا تقع البشارة بملكه، وإنما يقع التحذير من فتنته، كما وقع التحذير من فتنة الدجال، بل هذا شر من سنحاريب وبختنصر (2)، والملوك الظلمة الفجرة الذين يكذبون على الله. فالأخبار لا تكون بشارة، ولا تفرح به هاجر وإبراهيم، ولا بشر أحد بذلك، ولا يكون ذلك إثابة لها من خضوعها وذلها، وأن الله قد سمع ذلك ويعظم هذا المولود ويجعله لأمة عظيمة، وهذا عند الجاحدين بمنزلة أن يقال: إنك ستلدين جبارا ظالما طاغيا يقهر الناس بالباطل، ويقتل أولياء الله، ويسبي حريمهم، ويأخذ أموالهم بالباطل، ويبدل أديان الأنبياء، ويكذب على الله. ونحو ذلك، فمن حمل هذه البشارة على هذا، فهو من أعظم الخلق بهتانا وفرية على الله؛ وليس هذا بمستنكر لأمة الغضب، وقتلة الأنبياء، وقوم البهت" (3).

ورغم هذه التشويهات المتعاقبة عبر العصور المتلاحقة في التوراة، فقد بقيت هناك بعض النصوص التي تدلل بوضوح على وجود النبي الخاتم الذي بشر به موسى -عليه السلام- ، بل وأراد أن يكون من أمته!

يقول ابن تيمية: "قد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- باسمه، ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر ذلك فيها، وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ليس في أخرى" (4).

البشارة الثانية
وإذا أردنا بعضا من هذه التصريحات أو البشارات، فإنه عندما سقطت بابل في يد ملك الفرس عام (538 ق. م)، سمح لليهود بالعودة إلى فلسطين -بعد أن أسرهم الزعيم الكلداني الشهير بختنصر- كما سمح لهم بإعادة بناء القدس والهيكل، وعندما وضعت الأساسات لبناء المعبد الجديد ارتفعت صيحات الفرح بين اليهود، وفي أثناء هذه المناسبة بعث الله النبي (حجي)، الذي قال لهم في هذه المناسبة: "وسوف أزلزل كل الأمم، وسوف يأتي (حمده) لكل الأمم، وسوف أملأ هذا البيت بالمجد، كذلك قال رب الجنود، لي الفضة ولي الذهب، هكذا قال رب الجنود، وإن مجد ذلك البيت الأخير يكون أعظم من مجد الأول، هكذا قال رب الجنود، وفي هذا المكان أعطي (شالوم)، هكذا قال رب الجنود" (5).
لقد أعطى المعلقون اليهود والنصارى أهمية قصوى للوعد المزدوج الذي احتوته النبوءة المذكورة آنفا، وكلاهما يفهمان كلمة (حمده) على أنها نبوءة يهودية مسيحية، فلو فسرت هذه النبوءة بالمعنى المجرد لكلمتي (حمده) و(شالوم) على أنهما (الأمنية) و(السلام)؛ لأصبحت النبوءة لا شيء سوى أمنيات مبهمة غير ذات مغزى، ولكن لو فهمنا من كلمة (حمده) أنها شخصية حقيقية، ومن كلمة (شالوم) أنها ديانة منزلة، وقوة فعالة، عندئذ تصبح هذه النبوءة صادقة ومتحققة في شخصية أحمد ودين الإسلام؛ ذلك لأن كلمتي (حمده) و(شالوم) تؤديان بدقة معنى كلمتي (أحمد) و(الإسلام) (6).

وقد أكد عبد الأحد داود (7) على أن أصول كلمة (حمده) و(شالوم) تدللان بوضوح على بشارة التوراة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وبدين الإسلام؛ فكلمة (حمده) تقرأ في النص الأصلي: "في يافو حمده كول هاجوييم". وهي تعني حرفيا: "وسوف يأتي حمده لكل الأمم". والكلمة مأخوذة من اللغة العبرية القديمة أو الآرمية، وأصلها (حمد) وتلفظ بدون التسكين (حمد). مما يعني في العبرية (الأمنية الكبيرة)، أو (المشتهى)، أو ما يتوق إليه المرء، ونجد في اللغة العربية أن الفعل (حمد) من جذر الكلمة نفسها (ح م د) بمعنى الإطراء والمديح.

البشارة الثالثة
- ومن البشارات -أيضا- التي جاءت في التوراة ما جاء في سفر (أشعيا) في الإصحاح الثاني والأربعين ما نصه: "لترفع البرية ومدنها صوتها، الديار التي سكنها قيدار (8)؛ لتترنم سكان سالع، من رءوس الجبال ليهتفوا؛ ليعطوا الرب مجدا، ويخبروا بتسبيحه في الجزائر" (9).

وهذا النص واضح في التبشير بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقد أشار إلى بلاد العرب وهي الديار التي سكنها قيدار بن إسماعيل، وطلب منها أن تبتهج. والغريب أن النص لم يكتف بالإشارة إلى قيدار بن إسماعيل الذي هو جد النبي محمد -صلى الله عليه وسلم (10)، بل إن النص جاء بذكر دار هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهي المدينة المنورة، فقال: "لتترنم سكان سالع". وسالع هو (سلع) وهو جبل في باب المدينة، كما هو اسمه إلى الآن، وهو سالع بالعبرانية (11).
والنص السابق يلمح لنا عن طريق التأمل والاستقصاء لماذا استقر اليهود في المدينة المنورة وما حولها؟ لقد كانوا على يقين بأن خاتم الأنبياء سيقطن المدينة، التي من أماراتها جبل (سالع) المذكور عندهم في التوراة كالبشارة السابقة، فتمنوا أن يكون منهم وفيهم، ومن المعلوم أنهم كثيرا ما خوفوا الأوس والخزرج من النبي الخاتم الذي سيخرج من بين ظهرانيهم فيتخلص منهم، ومن على شاكلتهم!

لقد كان اليهود في المدينة وما حولها يعلمون صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقرب ظهوره، وهو ما يؤكده ابن سعد في طبقاته بسند متصل عن ابن عباس - رضي الله عنه - ما نصه: "قال: كانت يهود قريظة والنضير وفدك وخيبر يجدون صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبعث، وأن دار هجرته المدينة" (12). وهذا الأمر دليل واضح من التوراة ومن الواقع التاريخي على البشارة بالرسول الخاتم محمد - صلى الله عليه وسلم - .

هذه بعض البشارات التي وردت في التوراة عن النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، ولا يتسع المجال لعرض المزيد منها، والتي تدل دلالة واضحة على صدق رسول الله فيما بلغ عن رب العزة -سبحانه وتعالى.

البشارة الرابعة
- ومن البشارات أيضا: "جاء الرب من سيناء وأشرق لهم من سعير وتلألأ من جبل فازان" (13).
ولكي نفهم هذه المعاني لا يسعنا إلا التدبر فيما جاء في القرآن الكريم من قوله - سبحانه وتعالى - :
{والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين} [التين: 1-3].

ومن هذه الآية القرآنية نجد تطابقا كاملا في الوسيلة والتعبير؛ إذ أقسم الله -سبحانه وتعالى- ببقاع مباركة عظيمة ظهر فيها الخير والبركة، فالتين والزيتون مجاز عن منابتهما بالأرض المباركة وفيها مهجر إبراهيم، ومولد عيسى ومسكنه عليهما السلام. وطور سنين الجبل الذي كلم الله عليه سيدنا موسى -عليه السلام، والبلد الأمين مكة المكرمة التي ولد فيها وبعث منها أشرف الخلق، وهو سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وفيها البيت العظيم.

والتطابق بين الآية التي وردت في التوراة والآية القرآنية هو: سيناء مجاز عن الجبل الذي كلم الله عليه موسى -عليه السلام. وسعير مجاز عن الأرض المباركة التي ولد فيها سيدنا عيسى -عليه السلام، وسكن بها وجال فيها يصنع خيرا للبشرية، وفازان مجاز عن الأرض التي سكن إليها جد الرسول الكريم سيدنا إسماعيل -عليه السلام.

والأمر الذي يسترعي الانتباه هو كيف نستدل على أن فازان هي الأرض المباركة التي سكن فيها سيدنا إسماعيل جد الرسول الكريم عليهما أفضل الصلاة والسلام.

والدليل على هذا من التوراة في سيرة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- مع زوجتيه سارة وهاجر، لقد كانت هاجر جارية للسيدة سارة، وصارت زوجة لسيدنا إبراهيم -عليه السلام- لإنجاب نسل له، وظنت السيدة سارة زوجة سيدنا إبراهيم -عليه السلام- أن مهمة جاريتها السيدة هاجر هي إنجاب نسل مع بقائها جارية تسخرها السيدة سارة كيفما شاءت وأردت.
وأنجبت السيدة هاجر ابنا لإبراهيم -عليه السلام، وكان هذا الابن قرة عينيها وبهجة قلبها، لكن السيدة سارة أذلتها، وازدادت السيدة سارة إذلالا لها وتعنتا، فاستجارت بزوجها إبراهيم - عليه السلام، لكنه تركها لسيدتها سارة بقوله لها: "هو ذا جاريتك". فاشتدت بها إيلاما وإيذاء؛ حتى هربت ترجو النجاة مما ألم بها، فقابلها ملاك الله في الطريق، فقال لها الملاك: ما لك يا هاجر؟ لا تخافي لأن الله قد سمع لصوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام، وشدي يدك؛ لأني سأجعله أمة عظيمة. وفتح الله عينها، فأبصرت بئر ماء، فذهبت وملأت القربة ماء، وسقت الغلام، وكان الله مع الغلام، فكبر وسكن في البرية، وكان ينمو رامي قوس، وسكن في برية فازان، وأخذت له أمه زوجة من أهل مصر.

فيتضح من التوراة إذن أن الذي سكن أرض فازان هو سيدنا إسماعيل -عليه السلام، ولعل الله في حكمته سمح بهذه التيارات التي تفاعلت في بيت سيدنا إبراهيم -عليه السلام- ليستقر إسماعيل - عليه السلام- في أرض يتميز بها، وتأتي النبوءة على لسان موسى -عليه السلام- بقوله: "تلألأ من جبل فازان" (14).

البشارة الخامسة
- ومن البشارات التي وردت في التوراة: "لا يزول الصولجان من يهوذا أو التشريع من بين قدميه حتى يأتي شايلوه ويكون له خضوع الأمم" (15).
إن كلمة شايلوه في النص فريدة لا تتكرر في أي مكان آخر من العهد القديم، وحسبما أعلم فإن جميع تراجم العهد القديم قد احتفظت بكلمة (شايلوه) كما هي دون ترجمة أو شرح، عدا الترجمة السريانية المسماة البشيتا (peshitta)؛ فقد ترجمت الكلمة إلى: (الشخص الذي يخصه). أي الشخص الذي يخصه الصولجان والتشريع، وبموجب هذه الترجمة، فإن معنى النبوة يصبح واضحا كما يلي:
"إن صفات السلطان والنبوة لن تنقطع من يهوذا (وسلالته) إلى أن يجيء الشخص الذي تخصه هذه الصفات ويكون له خضوع الأمم".

ويحتمل أن كلمة (شايلوه) مشتقة من الفعل (شله SHALAH)، وفي هذه الحالة فهي تعني المسالم الهادئ الموثوق، كما أن هذا الفعل يعني أيضا: أرسل وفوض من اسم المصدر (شلوه SHALUH)، أي: المرسل أو الرسول، وعندئذ فإن الكلمة تأخذ معنى (شيلواح SHILUAH)، وتكون مرادفة تماما لـ(رسول ياه APOSTLE OF YAH)، وهو نفس اللقب المعطى لمحمد (رسول الله) -صلى الله عليه وسلم، والمعروف أيضا أن كلمة (شيلواح) هي -أيضا- تعبير فني لكلمة (الطلاق)؛ ذلك لأن الزوجة المطلقة (ترسل) بعيدا، ولا أستطيع أن أجد تفسيرا آخر لهذا اللقب المهم سوى هذه المعاني الثلاثة (16).

البشارة السادسة
ومن البشارات -أيضا- أن الله -سبحانه وتعالى- قال لموسى -عليه السلام: "أقيم لهم نبيا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي في فمه، فيكلمهم بكل ما أوصيه به" (17).
وهذه النصوص تدلهم على أن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس من بني إسرائيل، ولكنه من إخوة بني إسرائيل، وهم بنو إسماعيل؛ ولذلك كان الأحبار والرهبان (علماء اليهود والنصارى) يعرفون جيدا أن هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- من نسل إسماعيل - عليه السلام- (وهم العرب).
وهذا هو السر في دخول أهل المدينة المنورة في الإسلام قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها؛ من كثرة ما سمعوا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من الأحبار والرهبان (18).

البشارة السابعة
ومن البشارات التي جاءت في التوراة لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم:
"هم أغاروني بما ليس بإله، وأغضبوني بمعبوداتهم الباطلة، وأنا -أيضا- أغيرهم بما ليس شعبا، وبشعب جاهل أغضبهم" (19).

وهي الأمة الأمية كما في قوله -سبحانه وتعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} [الجمعة: 2].
وهكذا من أمة جاهلية في ضلال مبين إلى أمة هداية، تحمل لواء هداية البشر إلى خالقها - سبحانه وتعالى - ، كما أجاب أحد أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لملك الفرس حين سأله: من أنتم؟ فقال: "نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة" (20).
فكانت أمة الإسلام التي أكرمها الله بحمل لواء هداية البشر إلى خالقهم - سبحانه وتعالى (21).

البشارة الثامنة
ومن البشارات أيضا: "الله جاء من تيمان والقدوس من جبل فازان. جلاله غطى السماوات، والأرض امتلأت من تسبيحه، وكان لمعان كالنور... قدامه ذهب الوباء، وعند رجليه خرجت الحمى. وقف وقاس الأرض. نظر فرجفت الأمم، ودكت الجبال الدهرية، وخسفت آكام القدم. مسالك الأزل له" (22).
وهذا النص فيه شيء من التغيير؛ فقد ذكرت المصادر القديمة هذا النص هكذا: "إن الله تعالى جاء من التيمن والقدوس من جبل فاران. لقد أضاءت السماء من بهاء محمد وامتلأت الأرض من حمده... قام فمسح على الأرض فتضعضعت له الجبال القديمة... يا محمد ادنو لقد رأتك الجبال فارتاعت...".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد ذكر فيها مجيء نور الله من التيمن، وهي ناحية مكة والحجاز، فإن أنبياء بني إسرائيل كانوا يكونون من ناحية الشام، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- جاء من ناحية اليمن" (23).

وفي أعلام النبوة للماوردي والتفسير الكبير للفخر الرازي هكذا: "جاء الله من طور سيناء... وانكسفت لبهاء محمد -صلى الله عليه وسلم-، وانخسفت من شعاع المحمود" (24).
فقد ذكر في هذه البشارة اسمه وبلده، ويقرأ اليهود والنصارى هذه النصوص ويقولون: إن صاحبها لم يظهر بعد (25).

المصدر: كتاب وشهد شاهد من أهلها

______________
1- سفر التكوين: الإصحاح 16: 12، نقلا عن ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى ص147، مع الملاحظة أن هذه الترجمة هي ما كانت في عهد ابن القيم، أما النص الموجود الآن فهو: "وإنه يكون إنسانا وحشيا، يده على كل واحد، ويد كل واحد عليه وأمام جميع إخوته يسكن...".
2- بختنصر: هو الذي كان خرب بيت المقدس، وقيل: إنما هو بوختنصر، فأعرب؛ وبوخت ابن، ونصر صنم، وكان وجد عند الصنم، ولم يعرف له أب، فقيل: هو ابن الصنم. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة نصر 5/210.
3- ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى ص148، 149.
4- ابن تيمية: الجواب الصحيح 3/50، 51.
5- سفر حجي: الإصحاح 9: 7-9.
6- عبد الأحد داود: محمد - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في كتاب اليهود والنصارى ص36، 37.
7- عبد الأحد داود: هو القس دافيد بنجامين الكلداني، ولد عام (1867م)، وكان قسيسا للروم من طائفة الكلدان، وبعد إسلامه تسمى بعبد الأحد داود، وألف كتاب (الإنجيل والصليب)، و(محمد في الكتاب المقدس). انظر نبذة من حياته في مقدمة كتابه: محمد - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في كتاب اليهود والنصارى ص5-8.
8- قيدار هو ابن نبي الله إسماعيل -عليه السلام. 9- سفر أشعياء: الإصحاح 42: 11.
10- انظر: ابن قيم الجوزية: هداية الحيارى ص158.
11- فاضل صالح السامرائي: نبوة محمد من الشك إلى اليقين ص253.
12- محمد بن سعد: الطبقات الكبرى 1/104.
13- سفر التثنية: الإصحاح 23: 3.
14- إبراهيم خليل أحمد: محمد - صلى الله عليه وسلم - في التوراة والإنجيل والقرآن ص65-67.
15- سفر التكوين: الإصحاح 49: 10.
16- عبد الأحد داود: محمد - صلى الله عليه وسلم - كما ورد في كتاب اليهود والنصارى، ص63.
17- سفر التثنية: الإصحاح 18: 18.
18- صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/324-325.
19- سفر الاستثناء: الإصحاح 32 : 11.
20- الطبري: تاريخ الأمم والملوك 2/400، وابن كثير: البداية والنهاية 7/39.
21- صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/329-330.
22- سفر حبقوق: الإصحاح 3: 6.
23- ابن تيمية: الجواب الصحيح 5/269.
24- الماوردي: أعلام النبوة، ص171، والرازي: مفاتيح الغيب، 3/35.
25- فاضل صالح السامرائي: نبوة مجمد - صلى الله عليه وسلم - من الشك إلى اليقين، ص250.


د. راغب السرجاني