تنزعج ريما وهي في سن الثانية عشرة من سماع أصوات المضغ على طاولة الطعام: «أفضّل أن أتناول طعامي في غرفتي على انفراد، تلك الأصوات التي أسمعها تزعجني جداً، إلى درجة الصراخ والبكاء، حتّى إنني لا أتمالك نفسي، أثور، أتلفظ بكلام مؤذ جداً لأمي، وأدفعها بعنف أحياناً. أراها تبكي لشدة قسوتي، تظن أني أكرهها، لكن لا يمكنني لجم عصبيّتي في تلك اللحظات. عندما أخرج مع رفاقي، أضع السماعات في أذني، وأسمع الموسيقى بصوت مرتفع جداً، لكني لا أتوقف عن الشعور بذلك الصوت الذي يصدر من أفواههم وهم يأكلون، ما يشعرني بالضعف والقرف والإشمئزاز الشديد، وعدم تقبل وجود الأشخاص الذين سبق وانزعجت منهم».
ريما لا تتدلل، ولا تبالغ بردود فعلها، هي مصابة باضطراب عصبي يدعى ميزوفونيا، أي الحساسية على بعض الأصوات، وتسمّى أيضاً بكره الأصوات، أو ما يعرف بمتلازمة حساسية الصوت الإنتقائية.
تداعيات الميزوفونيا
هو انخفاض القدرة على تحمل أصوات معيّنة، غالباً متعلقة بالنفس، المضغ، الشخير، اللهاث، العلكة، تطهير الحلق، الشرب بجرعات كبيرة، طحن الأسنان، استعمال فرشاة الأسنان، البزر، لوحة المفاتيح، رشف القهوة، الهمس، السعال، صرير القلم.
كذلك قد ينزعج المصاب بالميزوفونيا من قضم الأظافر، والرتابة في تكرار بعض الحركات المصدّرة للأصوات كالركل، الضرب على الطاولة... ومن الملفت أنّ المصاب بالميزوفونيا تُثار أعصابه من الأصوات الصادرة عن الناس المقرّبين، أكثر من صدورها عن الغرباء. كما قد تزعجه لدى البعض، باستثناء البعض الآخر. تبدأ الميزوفونيا بالظهور بين سن الثامنة والثالثة عشر، وأحياناً بعد البلوغ.
ردود الفعل على الأصوات المكروهة، دائماً سلبية، تؤدي إلى انسحاب المصاب بالميزوفونيا من مكان صدور الأصوات أو إيقاف صدورها، بالغضب، الثورة، التهيّج، الإشمئزاز الشديد. لكنه لا يصل بشكل تدريجي إلى حالة الغضب، إنما ينتقل إليها بسرعة كبيرة، فيعبّر بعنف في حال لم ينسحب مباشرة من المكان، وقد يصل به الأمر إلى التهجم وضرب الشخص مصدر الصوت، وتكسير مقتنيات البيت.
هو واع إلى أنّ ردات فعله العنيفة لا إرادية، خارجة عن سيطرته، لكن لا يجد للأمر حلّاً وردات الفعل هذه تزيد في حالات الضغط النفسي والتعب والجوع.
يربط المصاب باضطراب الميزوفونيا انزعاجه الشديد من الأصوات، بمصدرها. وبالتالي ينزعج من الإنسان مصدر الصوت، ومن التواجد معه كمسبب للإشمئزاز والغضب. فتترافق معاناته مع ما يشبه الصدمة العاطفية النفسية، عند شعوره بخطر سماع الأصوات المزعجة.
تتفاقم المشكلة عندما يكون المصدر، فماً أو حنجرة أحد أفراد العائلة، كالأب أو الأم مثلاً. فيَشعر الآخر بأنه مكروه ومرفوض، بينما يسيطر على المصاب شعور بالضعف، لعدم تمكنه من السيطرة على أعراض الإضطراب. والأخطر من ذلك، شعوره بالذنب تجاه أحد أفراد العائلة. وقد يصل به ذلك الشعور إلى إيذاء نفسه. جدير بالذكر أنّ المصاب بالإضطراب لا تزعجه الأصوات ذاتها، عندما يصدرها بنفسه.
الأهل الذين غالباً ما يجهلون هذه الحالة وأعراضها، يلومون الإبن المصاب بها، يصرخون في وجهه، ويدعونه إلى السيطرة على ذلك، ويبدو لهم تصرّفه كعامل دلع. أما الأهل العالمون بمعاناة أبنائهم على هذا الصعيد، والمطلعون على هذا الإضطراب وأعراضه، فيحاولون التأقلم مع الوضع من خلال التفهم، وتجنّب ما يصدر عنهم كردة فعل قد تزعج، المصاب.
الميزوفونيا والفونوفوبيا
تختلف الميزوفونيا عن الفونوفوبيا، رهاب الأصوات، التي تُفسَّر بالخوف المَرَضي من الأصوات المرتفعة، وهي مرتبطة بالقلق والخوف، بناءً على التجارب السابقة للمصاب بها. كما تختلف عن احتداد الأصوات، أي كره الأصوات الحادة والكثيفة، كأصوات الموسيقى المرتفعة مثلاً.
60 في المئة من الأشخاص المصابين بالميزوفونيا، يعانون من طنين الأذن، والفتيات قبل البلوغ معرضات للإصابة بها أكثر من الذكور، ومن الفئات العمرية الأخرى.
الأسباب والعلاج
لا أسباب واضحة حتى الآن لاضطراب الميزوفونيا، لذلك لا إمكانية لتجنّب الإصابة به. لكنه على علاقة مباشرة مع طريقة عمل الجهاز العصبي المركزي (الدماغ-النخاع الشوكي)، أكثر من علاقته بالتكوين والبنية. يرجح أن يكون هذا الإضطراب مرتبطاً بازدياد في مسارات السمع في الجهاز العصبي المركزي، وقلق متزايد، وردات فعل عاطفية على الأصوات.
على رغم عدم معرفة العوامل المسبّبة للميزوفونيا، إلّا أنّ الأشخاص المصابين بأحد الإضطرابات السمعية معرّضون للإصابة باضطرابات سمعية أخرى، كطنين الأذن، فقدان السمع والخوف من الأصوات وغيرها.
لذلك لا بدّ من الوقاية من المشكلات السمعية الأخرى عند الإصابة بالميزوفونيا. كما قد تترافق الميزوفونيا مع إضطرابات نفسية أخرى، كاضطراب الوسواس القهري، اضطراب الشخصية الوسواسية، متلازمة توريت، اضطرابات في الشهية، الإكتئاب، اضطراب ثنائي القطب، واضطراب طيف التوحّد. كما تترافق مع اضطراب في المزاج.
بحسب عالمي الأعصاب الأميركيَّين بارل ومارغريت جاستربون، يتعلق هذا المرض بالتجربة الشخصية السابقة للمريض. هما يربطان أكثرية الأصوات المزعجة بالفم، بالصراعات بين الأهل والأبناء خلال تناول وجبات الطعام. كما لم يتمّ استبعاد العامل الوراثي عن مسبباته.
قد تكون أعراض الميزوفونيا نتيجة لعلاج معيَّن بالأدوية. كما قد يؤدي التشتت الذهني الذي تسببه إلى تشخيص خاطئ للحالة، كالقصور في الإنتباه وفرط الحركة. لذلك لا بد من اللجوء إلى الأشخاص المختصّين، ودراسة الحالة بشكل دقيق، عبر بعض الفحوصات المخبرية، والصور والأسئلة الدقيقة المختصة.
بسبب حداثة التعرّف إلى هذا الإضطراب، والأبحاث حوله، يُنصح باستشارة الإختصاصيين من أطباء ومعالجين نفسيّين، بالتعاون مع طبيب العائلة، بهدف التعاون لمساعدة المصاب به. في ما يخصّ العلاج النفسي، توصّل المرضى أخيراً إلى نتائج مرضية عبر العلاج السلوكي المعرفي، العلاج بالإيحاء والعلاج من خلال البرمجة العصبية اللغوية.
كما يساهم الدواء بخفض مستوى الإكتئاب والقلق والشعور بالذنب، بالإضافة إلى المساعدة من خلال تناول الفيتامينات. كعلاج آني، يُنصح باستعمال صمامات الأذن لحجب الأصوات الخفية، وسماعات تحت إشراف مختصين بمشكلات السمع.
أثبتت الدراسات أنّ نسبة 80 في المئة من المصابين بالميزوفونيا، يتحسّنون بشكل ملحوظ بعد المعالجة. فهي، كالعديد من الإضطرابات والمشكلات العصبية، والنفسية، والجسدية، المستجدّة على العديد من الأفراد. لذلك ينصح الأهل باستشارة الإختصاصيين عند مواجهة أية مشكلة أو صعوبة، منعاً لتفاقم الأوضاع وللتمكن من العلاج المبكر.
فالإنعكاسات على المصاب بالميزوفونيا خطيرة ومدمّرة وغير مُحتملة أحياناً، إلى جانب أذيّة النفس، قد تدفع الحساسية المفرطة على الأصوات المصاب بها إلى الإنعزال، وبالتالي خسارة حياته العملية والدراسية، كما حياته الإجتماعية والعائلية.