الفرصة الضائعة
جابر حبيب جابر
من راقب الشأن العراقي خلال السنوات الثلاث الأخيرة، أو على الأقل تابع ما يُكتب من المعلقين العراقيين والأجانب، لا بد أنه لاحظ أن جوا من التشاؤم المطبق، يشبه إلى حد كبير الجو الراهن، كان يسود تلك الكتابات حتى النصف الأول من عام 2007، بعد ذلك وقعت سلسلة من الأحداث التي غيرت إلى حد كبير المزاج المراقب للشأن العراقي، كما غيرت الوضع العام في البلد، حيث حلت مسحة من التفاؤل والأمل، وبتنا لا نتحدث عن العراق كدولة في طريقها إلى الفشل، بل كدولة في طريق التعافي. اليوم، وفي جو الاستعصاء الراهن، والفجوة الكبيرة بين مكونات الطبقة السياسية، كما بينها وبين عموم المجتمع، يعود جو التشاؤم والشك والأسئلة التي تذكرنا بعنوان كتاب غراهام فولير عام 1993: «هل سيقوى العراق على البقاء؟»
ما حصل منذ النصف الثاني لعام 2007 استند إلى تحولين استراتيجيين، الأول انقلاب المناطق السنية، ممثلة في عشائرها، على تنظيم القاعدة وبقية التنظيمات المتطرفة التي ولجت، كجسم غريب، في هذه البيئة الاجتماعية، وانتعشت عبر حقن الدعم الخارجي البشري والمادي، وعبر استثمار جو الرفض السائد في تلك المناطق لما حصل بعد 2003، وغربة السنة عما سماه الشيعة والأكراد بالعراق الجديد. ذلك الانقلاب الذي رعاه ديفيد بترايوس، وأصبح ستار أبو ريشة رمزه، عبَّر عن تغير الوعي السني باتجاه التعاطي مع الوضع الجديد، وكبح جماح تمرد، دفع السنة، أكثر من غيرهم، ثمنا باهظا له، كما أنه عبر عن حالة بحاجة إلى البحث. فالنخبة العشائرية السنية برهنت على أنها أكثر اعتدالا وقدرة على المساومة والواقعية، من النخبة «المدنية» السنية التي مال بعض أفرادها إلى استثمار الخراب الذي أنتجته «القاعدة» ضمن أجندتها السياسية الراديكالية، وسنرى فيما بعد أن خطوة التقارب التي بدأها «العشائريون» السنة قد أجهضها «المدنيون» السنة، حينما أعادوا إنتاج الاستقطاب الطائفي تحت لافتة «العلمانية».
التطور الآخر كان قرار المالكي الخروج من الشرنقة الشيعية، ومن فكرة الحكم الشيعي إلى منطق الدولة والقانون، حينما قرر، وهذه المرة على الرغم من تردد بترايوس، أن يشن حملته ضد الميليشيات الشيعية في البصرة والجنوب، واضعا حدا لحالة اللادولة هناك، ولاستمراء بعض القوى الشيعية لعبة طمر الفواصل بين هوياتها الحزبية والميليشياوية والهوية المؤسساتية للدولة. بلغ كل من التمرد العدمي في المناطق السنية، والاستهتار الميليشياوي في المناطق الشيعية، إلى نهاية فرح بها الكثيرون. ورأينا المالكي يخرج زعيما وطنيا ربح السنة قبل الشيعة، وانتهت استعصاءات كانت قد طالت لشهور، مثل عودة جبهة التوافق للحكومة وانخراط السنة بقدر أكبر في العملية السياسية، وبوادر لتجاوز الاستقطاب الطائفي، حتى إننا صرنا نرى الهاشمي يجلس مع المالكي أثناء متابعتهما لعمليات فرض الأمن في الموصل، رغم ما بين الرجلين من جفاء، والمطلك يتحدث عن احتمال تحالفه مع المالكي في المستقبل!!
قوى الضغط بالاتجاه المعاكس، انطلقت بعد ذلك لإعادة الأمور إلى وضع الاستقطاب الحاد السابق، لأن هذه القوى مرتبطة بأجندات لا يعنيها السلم العام والتصالح في العراق، ولأن هناك من لا يزال يستظل بالمفاهيم القديمة الموروثة من زمن الانتماء إلى البعث، أو من زمن معارضة البعث. الارتداد يتحمله أطراف على كلا الجانبين، وبالتحديد «المدنيون» السنة، و«الثأريون» الشيعة. الطرف الأول ما زال مسكونا بأسطورة أن السنة هم الحكام الطبيعيون للعراق، وأنهم يجب أن يسيطروا على الحكم في بغداد بكل الوسائل الممكنة، وفي مقدمتها إعادة إنتاج الطائفية بثوب «علماني»، كما كان الحال طوال تاريخ الدولة العراقية قبل 2003، وتوظيف الربط التعسفي بين إيران والتشيع، لمغازلة الإقليم المتخوف من الطموح الإيراني. أما الطرف الثاني فإنه لم يبرح عقدة الماضي وطريقة تفكيره، وأصحابه رحَّلوا عقولهم المسكونة بهاجس المؤامرة إلى بنى الدولة التي تعاملوا معها وكأنها بنى حزبية يمكن التحكم فيها وفق أهوائهم ونزعاتهم الانشطارية والانشقاقية، وكأنها غنائم لحرب لا نهاية لها، قاوموا أي محاولة للانفتاح على دماء جديدة، وأسماء جديدة، ومفاهيم جديدة، تطمئن الآخر إلى نهج جديد.
«المدنيون» السنة، ومن وراءهم، أجهضوا صحوة أبو ريشة، و«الثأريون» الشيعة، ومن وراءهم، أجهضوا صولة المالكي، وما نعيشه الآن تداعيات إجهاض تلك الفرصة.