دمس الظلام، الساعة قرابة الثانية بعد منتصف الليل، بدأ الصقيع ينشر نسمات البرد القارس، من مدينة أربيل، تبدأ رحلة النازحة (أم محمد) ذات الأربعين خريفاً، والأربعة أولاد. كانت لهم الأم والأب، بعد أن توفي زوجها في قتاله لإرهابيي داعش، في إحدى قرى كركوك.
عانت أم محمد ما عانته من صعوبات الحياة، لكنها لم تضعف، فبعد التهجير علمت عائلتها معنى الحياة، ولقنتهم أن هناك أمل في تغيير سيحصل يوماً ما، ظلت تردد لهم: "لا تنسوا يا أولادي، هناك رب وسعت رحمته كل شي".
إن أصعب ما عانته بعد الهجرة هي الرحلة من أربيل إلى الحلة، وبعد نفاد المال لديها، كانت قد وصلت مع أولادها إلى العاصمة بغداد. لم تظهر التعب والمعاناة لأولادها، لكي لا ييأسوا من الحياة، وهم في ربيع أعمارهم، ينمّون أحلامهم التي ما زالت صغيرة، تركت أولادها وأوصت أكبرهم عمراً محمد على إخوانه، وقالت له: "أنت كبير يا بني، عمرك شارف على الخامسة عشرة، إنتبه إلى إخوتك، سأعود بعد ساعتين".
آنذاك ذهبت أم محمد إلى الكثير من أصحاب المنازل، فكان من يردها، ومن لا يفتح لها الباب؛ تزامناً مع سطوة داعش والخوف في الليل. وبعد ذلك رجعت إلى أولادها وسألت أحد المارين بالصدفة، "أين مخيم اللاجئين؟" قال "بالقرب من الفرع الذي أمامك". شكرته، وسارت مع أولادها إلى أن وصلو المخيم، الذي لا يفرق البرد في خيمه عنه خارج الخيمة، سوى أنه يجمع أفراد العائلة في مكان واحد.
سأل المسؤولون عن الخيم عمن يريد الذهاب إلى الحلة، وافقت أم محمد أن تذهب، فعسى ولعل أن يكون المكان أفضل وأدفأ لهم.
مسافة الطريق أخذت قرابة ساعة ونصف، جاء الرد من أصحاب المخيم "لن نقبل هذا العدد، فهو كبير" ولكن بعدما أنزلوهم في الحلة، سألت أم محمد السائق "هل يمكن أن نرجع إلى العاصمة بغداد؟" قال "أعذريني لا استطيع". فأخذت تبحث عن مأوى لهم وسط زخات مطر خفيفة، وإذا بهم يشتد عليهم البرد، ليسقطهم أرضا قرب رصيف شارع، ويناموا جميعهم معاً. في ذلك الوقت دمعت عينا قطة كانت تختبئ من البرد تحت النفايات، وبكى كلب عليهم من شدة وجع الموقف، وقالت أم محمد آخر كلماتها "لا تخافو يا صغاري، سنرى الخير بعد قليل". وتوقفت قلوبهم الطاهرة وسط حفيف الصقيع.
هكذا انتهت إحدى ضحايا عراقنا، قطعة من قطع الزمان التي أراد أن يخلد فيها الإنسان، وهو لا يعلم أن موعده قد آن.
بقلمي