بغداد ثرية بالمعالم التراثية وربما يحتاج من يريد الاطلاع عليها الى موسعة كبيرة للإلمام بها، العديد منها ذو شهرة عالمية، بعضها قائم منذ عقود طويلة لكنه مهمل وأخرى اندثرت تدريجياً بفعل عامل الزمن، لكن ثمة أسلوب مبهر يجعلها تطبع في الذاكرة.
رجل مسن يجلس على أريكة خشبية محلية "كرويته" أسفل شبابيك بغدادية "شناشيل"، وطيور تحلق فوقها، وعلى جانبيه عود من جهة ودراجة هوائية من جهة أخرى، ذلك مشهد ساد في أزقة بغداد القديمة، لكنه الآن لقطة مجسمة دقيقة التفاصيل وتثير الشجن للحياة البسيطة الخالية من التعقيدات، وثمة أدوات ومعالم أخرى يصعب التفريق بينها وبين الحقيقية، وجميعها صنعت بأنامل احترفت مهنة يندر من يتقنها، وجميعها تدخل في إطار فن (الدايوراما).
بالصور.. الزمن يعود ببغداد الى الأيام الخوالي
"أستطيع عمل مجسم قريب الى الواقع ودقيق التفاصيل لكل بغداد خلال خمسة أشهر"، هكذا يشرح عمار صباح لـ السومرية نيوز، ثقة بقدرته الفنية على تجسيد أية معلم أو جسم مهما كان، وهو فنان احترف مهنة صنع المجسمات في العراق وبإمكانات ذاتية.
ويضيف صباح، أن "كل نموذج يستغرق ما بين عشرة أيام الى عشرين يوما لإتمامه إذا كان العمل متواصلا".
صباح، شاب عراقي من مواليد أيار 1986، حاصل على ماجستير إدارة واقتصاد جامعة بغداد، موهوب بالرسم والنحت وتصميم النماذج المصغرة، وعلاوة على ذلك يمتهن بيع الحيوانات الأليفة.
موهبة صباح بدأت من مجرد هواية لجمع النماذج المصغرة للسيارات والدراجات المصنوعة من قبل شركات عالمية الى جانب تربية الحيوانات الغريبة والمفترسة، ونمت تدريجياً الى أن وصلت لمرحلة الاحتراف.
صباح حاز على شهادة أكاديمية، لكنه فضل العمل وفق هوايته التي أحبها منذ الصغر، ألا وهي صنع المجسمات والنحت والرسم.
ويستدرك صباح بالقول، إن "محترفي هذه الهواية قليلون على مستوى العالم، لذلك بقي يواكبها"، مبينا أن "أول عمل خطر بباله هو صنع نموذج مصغر لمعرض سيارات، والأسم الفني لهذه الصناعة يدعى (الدايوراما)".
وبدأ صباح بصنع نماذج تترك أثرا فنياً، مبينا "صنع أشياء من جيل الطيبين بدأت تندثر"، في إشارة الى الشناشيل البغدادية التي بات يصنعها بدقة متناهية منذ نحو تسعة أشهر.
مهنة صباح ليست يسيرة وإنما تتطلب قدرات استثنائية تتوفر في عدد نادر من البشر، وبهذا الشأن يقول صباح، "تعلمت الصبر، العمل يحتاج صبراً، وافتقار المواد الأولية يعيق العمل وبات يكون عندي اجتهاداً ذاتياً".
أما بشأن أساسيات العمل، يقول صباح "لا توجد قاعدة أساسية بالعمل ويمكن استغلال أية مادة لصنع مجسمات مقاربة للواقع"، مبينا أن "شناشيل بغداد استغرقت فترات عمل متفاوتة، وكل عمل يختلف عن الآخر، والنماذج الصغيرة ممكن أن تنتج خلال يوم أو يومين إذا كرس جهداً لها".
ويلف صباح الى أن "أكثر المواد الأولية الخاصة بهذه النماذج لا تتوفر في العراق، وبعض الأصباغ يجري استيرادها من الخارج"، لافتا الى أن "صاحب الفضل الأكبر بهذا الجانب هو حجي لطيف صاحب معمل التاجي لبيع المواد المصغرة الذي دعم مجموعة محترفي مجسمات ووفر لهم ما يحتاجونه لرفع مستواهم أكثر".
ويشير الى أن "العمل لا يحتاج مساحة ويمكن إتمامه بالمنزل وبمواد بسيطة".
موهبة المجسمات يشار لها بالبنان في دول أخرى تسعى للاستفادة منها وتقدم الدعم لمحترفيها، لكن الحال ليس كذلك في العراق، حسبما يعبر صباح بقوله، "لا يوجد دعم حقيقي"، مبينا أن "وزارة الثقافة عرضت عليه فتح ورشة في متحف التراث البغدادي وتعيين"، وهو عرض لم يروق لصباح الذي فضل عدم الاستغناء عن عمله المحبب في مشتل بيع الحيوانات.
ويوضح صباح، أن "المعدات التي يستخدمها في عمله لا تتعدى مجرد مسطرة وفرجال وموس ومقص ومواد منزلية"، مبينا أن "حديد البليت الخاص بطبع الصحف ينتج عنه عمل مهم وينفع بالكثير من الأمور في صنع المجسمات، وهناك استخدام لمادة الكرتون أحياناً".
ويطمح صباح، صنع مجسم صغير لبغداد شرط توفر الدعم والفكرة، مبينا أن "الأعمال الكبيرة تحتاج لتفرغ وعقد مع شركة لتأمين المال اللازم لتعويض ترك العمل الأساسي".
يذكر أن "الدايوراما" فن دقيق التفاصيل ويحتاج الى قدرة غير اعتيادية على الصبر والإبداع، ويمكن الاستعانة به في مجال التعليم وتصميم المدن الى جانب دخوله في المجال الترفيهي والسياحي، حيث بالإمكان تجسيد أية معالم مشهورة لشرح أهميتها وجمالها وتشجيع السائحين على زيارتها كما هو واضح في صور منجزات صباح.