تمثل امام المشعوذ خائفا مطيعا جاثيا على ركبتيه بجسد اسمر عاري الا من مئزره حول خصره وشعر طويل ابيض لامست اطراف خصلاته الارض---كان المشعوذ يتلو عليه اوصافها واسمها والمهمة الموكلة اليه حيالها واضعا امامه زجاجة ملأ نصفها بماء بئر عتيق وما ان اتم المشعوذ كلماته حتى تحول هو الى دخان بدأ
من تحت قدميه وانتهاءا بشعره الابيض الطويل ليدخل بانسيابية مرنة الى عنق الزجاجة ويملأ نصفها المتبقي ويمتزج بماء البئر العتيق الذي كان يوازي عمره بالقدم --فالاول ولد منذ مئات السنين والثاني حفر منذ مئات السنين ---
اما هي فلا تتعدى سنينها السبعة عشر عاما--اما الكره الذي كان يملأ قلوب المحيطين بها لو فرش على بساط سنوات عمر البئر وسنوات عمره لتعدت خطواته لابعد من ذلك ----
كانت تتخبط وحدها في كهف الخفافيش المظلم تكلم الصخور بهمس وتمشي مع مجرى المياه الصغير --عسى ان تصل الى فجوة نور تخرج منها الى فضاء الحياة ---لكنها اينما كانت تلتفت كانت تلطم بجناج خفاش اسود كسواد قلبه تردفها لطمة اخرى بجناح خفاش اخر --وياويلها ان صاحت بصوت مسموع--فصدى صوتها يوقظ كل خفافيش الكهف لتجد عاصفة سوداء تهجم عليها وتنهشها من كل مكان وتلقيها جثة نصف حية مرمية في قعر الكهف المظلم---
وبعد وقت طويل كطول بعد الامل تسترد انفاسها لتتسلق الصخور وهي ترتعد خوفا وتمشي مجددا مع مجرى المياه --وبعد مسيرة متعبة وحذره رأت بريقا خافتا لاح لها من بعيد --املت نفسها ان تكون فجوة النور التي تبحث عنها --ولان الظلام المخيف كاد ان يذهب ببصرها فلم تكن واثقة مما تراه --كانت تمسك بالاحجار المتراصفة الواحدة تلو الاخرى بلهفة الغريق لتعين جسدها وروحها المتعبتين بعد ان غمست خطوات اقدامها الحافيتين بمجرى الماء حتى تخفي اثارها--وبعد ان اوشكت على الوصول ابطأت خطواتها وحفرت الصخور باظافرها لتسجل عليها اثار خيبة جديدة --فلم تكن هناك فجوة نور بل كان بريق لزجاجة ماء وضعت لها هناك بخبث ومكر حقيرين --جلست بجوار الزجاجة وهي تستذكر ايامها الماضية كان كل شيء حولها مزيف--كزيف هذا الكهف الذي كان له واجهة قصر جميل --وكزيف الثغور الباسمة التي كانت تخفي بين شفاهها انيابا صفراء فتاكة غرست في جسدها بقسوة--وكزيف الامل الذي رسمته في مخيلتها ولا وجود له في هذا المكان اللعين----
ما بين اغماضة عين وفتحها كان المكان يعود كما كان عندما دخلته لاول مرة --قصر جميل واسع لديها غرفة جميلة فيه ويملأه اناس كثيرون من عائلة واحدة زفها اليه زوجها يوما ليكون مسكنها --وباغماضة عين اخرى وفتحها يتحول المكان الى كهف مظلم يملأه خفافيش سوداء وكأنها الوحيدة التي ترى الاشياء على حقيقتها وجوهرها --رفعت الزجاجة بهدوء وهي تنظر اليها ولم تكن تعلم ان بداخلها كائن ينظر اليها هو الاخر وينتظر بشغف ان يبدا بما ارسل به--وهو ان يجعلها تعيش في خوف ورعب لم تعهده من قبل --امرا من المشعوذ نزولا عند رغبة الخفافيش--مسحت الزجاجة باصابعها فمرت على قلبه وهو بداخلها --فوقع في حبها--قربتها من فمها لتشرب فاطبق فمه على شفتيها لينساب الى اعماقها مع انسياب الماء الذي روى عروقها ليستقر هناك ---وبدلا من ان يفزعها راح يداعبها كحبيب يلاطف حبيبته متناسيا ما امره المشعوذ به الا انه بين الحين والحين كانت طلاسم المشعوذ تجلده بسياطها لتجبره على القيام بما ارسل اليه ويبدأ بتعذيبها--كان لا يفارقها ليلا ولا نهارا فقد لازمها في الاحلام وفي اليقظة حتى انه اصبح كابوسها المزعج --كان يلاحقها في كل مكان ويتلون بشتى الالوان--فمرة ينقلب الى فتاة تشبهها وتتبادل معها الملابس وتقلد حركاتها وتصرفاتها ولا احد يراها غيرها ومرة يظهر بصورة غير مرئية كالظل الشفاف يدخل من عينيها ويجول ويصول في رأسها مشتتا افكارها نازلا الى قلبها ممزق كل عاطفة لا ترتبط به وزارعا فيه الكره لكل رجال الانس خارجا بخبث من اصابع اقدامها بعد ان يجر خطواتها الى الخلوة معه فيظهر امامها بصورة شاب اسمر طويل عاري الصدر والذراعين يضمها بذراعيه حتى تختنق وتطلب النجاة---
حرمها من النوم حتى مرضت --وان غلبها النعاس اطبق ذراعيه حول عنقها حتى تنتفض طالبة الغوث---
استسلمت له ولرغاباته عسى ان يرحمها يوما ويدعها تغفو ولو لدقائق --فقد مرت سنتين ولم تذق طعم النوم والراحة --لم تنفع قراءة سور القران ولم تنفع كل التعاويذ فقد اختلط بدمها وسكن مسامات جسدها واصبح حاجزا بينها وبين زوجها حتى فرق بينهما --ساروا بها يوما الى رجل تقي وورع تخافه الجان والشياطين --جلست امامه يائسة وتتوسل راجية الخلاص--فدس لها بعض الاعشاب والبخور وقرأ على رأسها شيء من الدعاء زالتحصين--فضحك هو بداخلها مستهزءا(لن افارقكِ فانتِ لي--لي انا وحدي)---ولقد صدقها القول فبعد ثمانية عشر سنه لم يكن احد يكلمها غيره ولم يلمسها احد غيره --لقد انجبت له اطفالا لم ترهم هو اخبرها عنهم --وكان رجلها الوحيد--اخذها الى عوالم لم ترها من قبل --جعلها تعيش على غير هذه الارض--عندما كان يغمض اجفانها باصابعه برقه متناهية وهو يسألها الى اين تريدين السفر ؟--ما كان عليها الا ان تذكر اسم المكان الذي تريد رؤيته فيمسك بيدها ليسافرا معا من غير الحاجة لتذكرة سفر او واسطة نقل كانا يطيران فوق السحاب ينظمان الى سرب الطيور الحرة مشكلين معا اروع اللوحات--مبعثرين الغيوم بالرقص فوقها--سرق خيطا من نور الشمس ليغزله بخفة حائك ماهر مع خصلات شعرها--غاصت معه الى اعماق المحيطات --جلسا على الرمال في قاع المحيط الذي لم يصله انسان بعد--احاط ذراعه حول كتفيها وهو يسحبها الى الوراء ليضطجعا بجانب بعضيهما وهما يراقبان اصناف الكائنات البحرية وهي تسبح فتمر من فوقهما قواقع اللؤلؤ ونجوم البحر --ويميل المرجان الاحمر والاخضر يمينا ويسارا وكأنه يصفق ترحيبا بقدومهما--
طار بها الى ابعد من النجوم--زارا القمر في احدى لياليه المنيرة وباتا عنده--لم يكن هناك معنى لفيزيائية الكون --رسم لها عالما خاصا بها--خطف كلمات الشعراء من افواههم وقبل ان يدونوها على اوراقهم--ليهمسها بأذنيها كي يسر قلبها--لملم اجمل ورود العالم ليضعها باقة منسقة بين يديها--حكى لها قصصا واساطير قديمة اروع من قصص الف ليلة وليلة وهي مسندة رأسها على كتفه --احست حينها بالتعب من كثرة الترحال على خارطة الكون --غفت اغفائه قصيرة حاصرته طلاسم المشعوذ برسومها التي غرست بجسده كسهام مسمومة لتذكره بمهمته--فاسدل ستار الرومانسية وتحول الى كتلة من الغضب فاطبق كفيه على عنقها ورمى بثقل جسده على صدرها --ففتحت عينيها بقوة وشل لسانها عن النطق قبل ان تصرخ --فاغمي عليها--
كانت بعد كل اغمائة تفيق وهي حزينة مكتئبة وكأنها صنم لا يحب النظر اليه --تتحسر على لحظات الفرح التي عاشتها معه--وتتمنى رحيله اليوم قبل الغد--كان احساسا متضاربا لكن كان هذا هو شعورها مع الجهل بمشاعره بعد كل تلك الشفافية وتلك القسوة--لم يكن الامر صعبا عليه كما هو عليها لانهما من تركيبتين مختلفتين--لكن بما ان الرجل رجل مهما كانت هويته فقد كان يحمل بعض صفات اللؤم والانانية وحب التغيير بعد ان اصابه الملل--فاراد ان يخونها مع اخرى لكنه لم يستطع فقد كان مسجونا بداخلها بكلمات المشعوذ--فقرر ان يتخلص منها --فسلب منها عافيتها اولا حتى سقطت اوراقها باكرا وتدنى لها الموت وهي في عقد الثلاثين--
وككل زوجين تصل علاقتهما الى نهايتها جلسا واحدهما قبالة الاخر لوضع حد نهائي لحل تلك العلاقة--
استمر الصمت بينهما طويلا وهما يتبادلان النظرات ولا يجدان ما يقولانه--فقطعته بسؤال جاء متاخرا جدا --
-لم تعرفني يوما باسمك؟؟
-اسمي رازاخ من قبيلة العفاريت --ولدت حرا وانا اليوم عبدا للمشعوذين--اود الخروج من هذا السجن بقدر ما تودين انتِ
كان جوابه وافيا يغني عن الكثير من الاسئلة وكأنه يريد ان ينهي ذلك الاجتماع باسرع ما يمكن---وقبل ان تهم بسؤال اخر هجم عليها بقبلة طويلة اغلقت فمها وقطع معها انفاسها حتى اغشي عليها---
عندما افاقت رأت نفسها في غرفة صغيرة مظلمة لا تكاد ان ترى فيها الا قليلا من الضوء الخافت الاتي من الاعلى --كانت تظن انها في قعر ذلك الكهف لكنه لم يكن كهفا هذه المرة --فهناك سلم قاطع المكان الى اعلى تصل نهايته الى باب حديدي صغير عبارة عن قضبان متقاطعة في الطول والعرض--لم تكن غرفة بمعنى الغرفة بل كانت سردابا صغيرا في صحراء كبيرة --زحفت على السلم ببطء الى ان وصلت الى ذلك الباب المغلق باحكام --امسكت بقضبانه اخذت تهزه عسى ان يفتح فتطاير الغبار يرقص بعشوائية على خيوط الضوء المستقيمة الاتية منه--كانت انفاسها الثقيلة تسرع من هيجانه حتى اختنقت رئتاها به--
ارادت ان تتذكر التفاصيل التي جاءت بها الى هنا--تمنت لو انه كان موجودا ليخبرها بما حدث--امسكت براسها فالمتها يدها --عندما تفحصتها وجدت ان شرايين معصمها مقطوعة وفارغة الا من بعض قطرات الدم الجامدة--تذكرت تلك اللحظات الحاسمة عندما اغلقت على نفسها باب غرفتها بدعوة منه بعد ان وعدها ان يفارقها ويدعها وشانها وهو يسلمها سكين حادة مقنعا اياها انها لو قطعت تلك الشرايين فانه سوف يخرج من جسدها مع الدماء المتدفقة ويفارقها من غير رجعة --لم يكن كاذبا ابدا--فقد خرج هو من سجنه لتسجن هي في ذلك السرداب ---
اصبحت الصورة واضحة امامها --لطالما ارادت الخلاص لكن ليس بهذه الطريقة--
بعد برهة سمعت عويلا اتي من الخارج ورأت اناس كثيرون يسيرون خلف نعش محمول وكان هو يسير خلفهم في اخر الصف --
نادته من خلف قضبان الباب بصوت مخنوق يختفي مع الحرف الاخير --رازاخ--رازا--التفت اليها وسار بتثاقل غير معهود --وعند وصوله اليها رمقها بنظرة باردة لا تعبر عن شيء --قالت له متوسلة
-اخرجني من هنا يا رازاخ
-لا استطيع
-لقد اخرجتك من سجنك
-ليس بيدي ما افعله لكِ
-لطالما كنا حبيبين
-لا احب الاموات--انظري تلك هي رفيقتي الجديدة
التفت الى الوراء وهو يوميء الى فتاة شابة جميلة بنفس عمرها عندما عرفها لاول مرة قبل ثمانية عشر عاما--كانت احدى السائرين خلف الجنازة --تركها هي وذهب الى تلك الفتاة بلهفة--اصبح يغازلها حتى انشغلت عن البكاء بمظهره الغريب --لم يكن احد يراه غيرها --شاب اسمر طويل عاري الصدر والذراعين ضمها بذراعيه حتى اختنقت وطلبت النجاة ولم ينقذها احد حتى اغشي عليها--