الحضارة القديمة في بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية
الحضارة القديمة في بلاد الشام :
تتمتع بلاد الشام بموقع هام جعلها محط أنظار الدول القوية المجاورة لها ، فهي تمتاز بكثرة حواجزها الجبلية بين الساحل والدخل ، مما أدى إلى قيام ممالك منفصلة ، ونتيجة لذلك لم تعرف بلاد الشام الوحدة السياسية طوال تاريخها القديم ، إلا في الحالات التي كانت تتعرض فيها للخطر ، فتقوم بعض ممالك المدن بتزعم حلف أو شبه اتحاد للوقوف أمام الخطر .
كانت شبه الجزيرة العربية الموطن الأصلي للشعوب العربية القديمة التي استقرت في بلاد الشام ، وأقامت فيها الممالك التالية :
أولا : العموريون (الأموريون) :
استقر العموريون في شمالي سوريا وشرقها ، وقد أطلق عليهم سكان الرافدين الأموريون أي الغربيون ، وعلى بلادهم اسم آمورو أي غرب بلاد الرافدين القديمة ، حتى أن البابليين أطلقوا على البحر المتوسط بحر آمورو نسبة إليهم ، ولك يكتف العموريون بالسيطرة على شمالي سوريا ، بل اجتاحوا بلاد الرافدين وحكموها ، وأسسوا سلالات عمورية عديدة من أشهرها سلالة بابل التي ينتسب إليها حورابي ، كما أسسوا ممالك عديدة منها : مملكة يمحاض وعاصمتها حلب ، ومن أشهر ملوكها يارم ليم ، ومملكة ماري ومن أشهر ملوكها زمري ليم ، وقد تم القضاء على الممالك العمورية في الشمال على أيدي الحيثيين .
ثانيا : الكنعانيون :
هاجر الكنعانيون من شبه الجزيرة العربية حوالي الألف الثالث قبل الميلاد ، واستقر قسم منهم في الساحل السوري اللبناني ، وعرفوا باسم الفينيقيين ، أما القسم الآخر فقد استقر في جنوبي بلاد الشام فلسطين وشرقي الأردن ، وعرفوا باسم الكنعانيين ، تعرض الكنعانيون سواء في الشمال مدنا عديدة منها : أوغاريت ، جبيل ، بيروت ، صيدا ، عكا ، أما الكنعانيون في الجنوب فقد أقاموا مدنا من مثل : يبوس القدس ، وذلك نسبة إلى قبيلة يبوس العربية الكنعانية التي أنشأتها ، وقد سموها أيضا أوروسالم أي مدينة السلام ، ومجدو ، وبيت شان (بيسان) ، وأريحا .
كانت المدن الفينيقية والكنعانية عندما تتعرض لخطر الغزو الخارجي تشكل فيما بينها أحلافا تتزعمها أقوى المجن من مثل : أوغاريت ، جبيل ، ومن أشهر هذه الأحلاف الحلف الذي تزعمته مدينة قادش ، وحطمه تحتمس الثالث سنة 1479 م ، وقد خضعت المدن الكنعانية والفينيقية للسيطرة الفارسية ثم اليونانية ، وفي سنة 64 قبل الميلاد ، وقعت تحت حكم الرومان وظلت تحت حكمهم حتى الفتح العربي الإسلامي ، حيث أصبحت جزءا من الدولة العربية الإسلامية .
مظاهر الحضارة القديمة في بلاد الشام :
أولا : الحياة السياسية ونظام الحكم :
كانت بلاد الشام قديما تتألف من دول أو ممالك عديدة ، وكل دولة تتألف من مدينة مع المناطق المجاورة لها ، وتسمى الدولة أو المملكة لاسم تلك المدينة التي هي العاصمة ، كان نظام الحكم ملكيا وراثيا ، يكون فيه الملك ممثلا للآلهة وصاحب سلطة مطلقة ، يدير شؤون مملكته ويرعى مصالحها ، ويساعد الملك مجلس يتكون من أعيان المدينة ورجال الدين والقضاة ، وكان رأي هذا المجلس استشاري فقط ، كما كان يعاون الملك مجموعة من كبار الموظفين إلى جانب اعتماده على الجيش في حماية مملكته وتأمين القوافل التجارية .
ثانيا : المعتقدات الدينية :
عبد سكان بلاد الشام القدماء بعض مظاهر الطبيعة ، كالمطر والشجر والبرق والرعد وغير ذلك ، وقد طبعت دياناتهم بالطابع الزراعي ، ودارت أساطيرهم الدينية حول المطر والإنبات والجفاف ، وكان لكل مدينة إله خاص بها ، وبنوا لتلك الآلهة معابد خاصة بها ، وأوكلوا مهمة الإشراف عليها على الكهنة ، وقد صنعوا التماثيل للآلهة ووضعوها في زوايا المعابد ، ومن أشهر آلهة العموريين الإله عمورو إله الحرب ، ومن أهم آلهة الكنعانيين الإله إييل أوعليان إله الجو والمطر ةالمعروف باسم بعل عند الفينيقيين ، وزوجته عشتار آلهة الحب والإخصاب ، وأودونيس إله المطر ، أما الآراميون فقد عبدوا الإله حدد إله المطر والزوابع والرعد ، وقد اعتقد سكان بلاد الشام القدماء بالحياة الثانية بعد الموت ، إلا أن عقيدتهم عن هذه الحياة والحساب فيها كانت غامضة .
ثالثا : الكتابة :
إن من أهم ما أعطاه الفينيقيون هو اختراع الحروف الأبجدية ، وتتألف من اثنين وعشرين حرفا ، تكتب من اليمين إلى اليسار ، وقد نقل اليونانيون هذه الأبجدية ، وكتبوها من اليسار إلى اليمين ، وفيما بعد انتقلت تلك الأبجدية من اليونانيين إلى الرومان وسائر شعوب العالم الغربي ، كذلك نقل الآرميون أبجدتهم عن الفينيقيين ، وأخذها عنهم شعوب الشرق .
يعد الفينيقيون أول من استعمل الأبجدية ، وقد اشتقوها من الكتابة المصرية القديمة ، وقد كتبت أولا على ألواح من الطين أو الفخار بخط مسماري ، ثم استخدم أوراق البردي المصرية في كتابتها .
رابعا : التجارة :
كان الكنعانيون في الجنوب يمارسون الزراعة والتجارة عن طريق البر ، بينما احترف الفينيقيون في الشمال التجارة البحرية ، وقد ساعدهم على ذلك توفر الأخشاب اللازمة لبناء السفن والبواخر ، ووجود الموانئ الطبيعية ، والجزر إلى جانب الساحل ، والجبال العالية التي حالت دون توغلهم في الداخل .
خامسا : الصناعة :
برع سكان بلاد الشام القدماء في صناعة الأواني الخزفية ، كما استخرجوا الصبغ الأرجواني الأحمر من المحار ، واستخدموه في صباغة الأقمشة الصوفية والكتانية ، كذلك اشتهروا بصناعة الزجاج المتمثلة في صناعة الأواني الزجاجية والنوافذ للبيوت والمساكن ، والتي زينت بالألوان والرسوم المحفورة النافرة ، كما اهتموا بصناعة الحلي من الذهب والفضة ، وصناعة التماثيل من النحاس والبرونز ، إلى جانب اشتهارهم بصناعة السفن والبواخر ، وقد ساعدهم على ذلك توافر الأخشاب .
الحضارة القديمة في شبه الجزيرة العربية :
أسهمت طبيعة شبه الجزيرة العربية الجغرافية في التشكيل الحضاري لها ، حيث يسودها الجفاف بوجه عام ، باستثناء بعض المناطق في الجنوب التي ساعدت على قيام دول ونشوء حضارات حيث اجتمع لها عاملان هما : الماء والتربة مما شجع على الزراعة والاستقرار ، فقامت هناك ثلاث دول متعاقبة الواحدة تلو الأخرى وهي : معين ، سبأ ، جميز ، أما شمال شبه الجزيرة العربية فقد تركز النشاط البشري على التجارة والرعي في مواطن الكلأ والعشب ، لقربها من بعض الأنهار في بلاد العراق والشام ، مما جعلها مستقرا للقبائل العربية التي هاجرت من داخل شبه الجزيرة العربية ، فقامت فيها أربع دول هي : الأنباط ، تدمر ، الحيرة (المناذرة) ، الغساسنة .
أولا : حضارة جنوبي شبه الجزيرة العربية :
1) دولة معين (1200 -650) ق . م :
تعد دولة معين من أقدم الدول التي قامت في بلاد اليمن قديما ، وقد نشأت في شمالي شرق صنعاء ، في منطقة الجوف الواقعة بين وادي نجران وحضرموت ، وهي أرض خصبة ذات مياه وفيرة وأشجار وغروس كثيرة ، امتد نفوذ معين التجاري ليشمل بلاد الشام والحجاز والعراق ، حيث كان المعينيون يحملون معهم أنواع البخور ، وقد عرفت عاصمتهم باسم قرناو .
2) دولة سبأ :
استغل السبئيون ضعف المعينيين ، فأخذوا يسعون منطقة نفوذهم على حساب دولة معين ، فلما قوي أمرهم قضوا على الدولة المعينية ، وأقاموا دولتهن التي أصبحت عاصمتها صرواح ، ثم أسسوا فيها فيما بعد مأرب عاصمة لهم ، استطاعت دولة سبأ أن تنمو وتزدهر لعظم ثراء شعبها نتيجة لاحترافهم الزراعة ، وسيطرتهم على طرق التجارة العالمية بين الهند ةالحبشة ، وبين بلاد الشام ومصر .
مر تاريخ سبأ بمرحلتين :
المرحلة الأولى – مرحلة المكارب (800 – 650) ق . م :
وهي المرحلة التي كان يلقب فيها حاكم سبأ بلقب مكرب ، أي المقرب من الآلهة والناس ، أو الوسيط الذي يقرب بين الآلهة والناس ، وقد اتخذ مكارب سبأ من صرواح عاصمة لهم ، ثم نقلوها إلى مأرب ، وقد اشتهرت هذه المرحلة بالإصلاحات الزراعية وإقامة السدود ، ومن أشهرها سد مأرب .
المرحلة الثانية – مرحلة ملوك سبأ (650 – 115) ق . م :
وهي المرحلة التي تلقب فيها حكام سبأ بلقب ملك سبأ وعاصمتهم مأرب ، وقد تفوق السبئيون في هذه المرحلة بالملاحة البحرية ، نتيجة لامتلاكهم أسطولا تجاريا كبيرا ، وقد استمرت حتى سنة 115 قبل الميلاد ، حيث انهارت دولتهم للعوامل التالية :
* نشوب نزاع بين الأسر السبئية الحاكمة .
* انتقال التجارة البحرية من أيديهم إلى اليونان والرومان .
* تصدع سد مأرب وانهياره مما أدى إلى سيل العرم .
* ظهور قوة الحميريين تمكنوا من انتزاع الحكم من السبئيين .
3) الدولة الحميرية (115 – 525) ق . م :
سكن الحميريون في ريدان ظفار الحالية ، واتخذوها عاصمة لهم ، وهم فرع من سبأ وقد اشتهروا بالزراعة والتجارة إلى جانب قوتهم الحربية .
وقد تم تقسيم حكم الحميريين إلى فترتين :
الأولى : الدولة الحميرية الأولى (115 – 300) ق . م : لقبها ملوكها بملوك سبأ وريدان .
الثانية : الدولة الحميرية الثانية (300 – 525) ق . م : لقب ملوكها ملوك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت .
وقد شهدت الدولة الحميرية الأحداث التالية :
* إرسال الرومان حملة في عام 24 ق . م ، للسيطرة على اليمن وقد منيت بالفشل .
* نجاح الحبشة في احتلال اليمن في عام 345 م ، ولكن اليمنيين تمكنوا من طردهم سنة 378 م ، واستعادة استقلال بلادهم .
* اعتناق ملك اليمن يوسف ذو نواس اليهودية ، الذي حفر أخدودا للنصارى الذين رفضوا ترك دينهم وأحرقهم فيه .
* وقوع اليمن تحت الاحتلال الحبشي ، وقد حاولوا السيطرة على مكة إلا أنهم فشلوا ، وكان ذلك في عام الفيل سنة 571 م .
* نجاح الأمير الحميري سيف بن ذي يزن في تحرير اليمن من الاحتلال الحبشي ، وكان ذلك بمعاونة الفرس الذين لم يلبثوا أن استأثروا بحكم البلاد ، التي ظلت تحت نفوذهم حتى تحررت من حكمهم باعتناق أهلها للإسلام .
أهم المظاهر الحضارية :
* كان الحكم ملكيا وراثيا ، وكان الملك يستعين بمجالس استشارية تدير شؤون الدولة في أوقات السلم والحرب ، وقد عرفت باسم مسود .
* كانت اليمن مقسمة إلى مخاليف ، ويتألف المخلاف من عدد من المحافد أو القصور ، ويعرف صاحب المحفد أو القصر بذي ، وجمعها أذواء ، فيقال : ذو عمدان ، وذو صرواح ، وذو معين ، ويتولى شؤون المخلاف أمير يقال له : قيل وجمعها أقيال .
* امتاز اليمنيون بالتطور التقني في الزراعة والري ، مما أسهم في تقدمهم الزراعي ، فحفروا الآبار ، ومدوا القنوات ، وأقاموا المئات من السدود ، ومن أشهرها سد مأرب الذي استمر قائما حوالي ألف سنة أي عشرة قرون ، ثم انهار سنة 575 م .
* ذاع صيتهم في مجال التجارة وبخاصة البحرية منها ، وقد ساعدهم على ذلك إشراف شواطئهم على المحيط الهندي ، وكثرة موانئهم الطبيعية ، ومعرفة ملاحيهم بأسرار الرياح الموسمية ، إلى جانب قدرتهم الفائقة على تنظيم طرقهم البرية المتصلة ببلاد الرافدين والشام ومصر ، عبر الجزيرة العربية .
* سادت الديانة الوثنية بلاد اليمن قديما ، ومن أشهر نعبوداتهم ألمقة آلهة القمر ، واللات آلهة الشمس ، وعشتار آلهة الزهرة ، وقد بنى اليمنيون القدماء المعابد الضخمة ، ويقوم على إدارتها جماعة من الكهنة .
* برعوا في بناء القصور الفخمة التي كان يسكنها الحكام والأغنياء ، ومن أشهرها قصر غمدان ، أما عامة الشعب فقد كانوا يسكنون في بيوت من الحجارة والطين .
* استخدم اليمنيون في كتاباتهم الخط المسند ، وهو مقتبس من الأبجدية الفينيقية ، ويتكون من 29 حرفا ، وقد سمي بالمسند لأن حروفه كانت تستند إلى أعمدة ، وعرف أيضا بالخط الحميري الذي ظل مستخدما حتى ظهور الإسلام .
حضارة شمالي شبه الجزيرة العربية :
1) دولة الأنباط :
قامت مملكة الأنباط في شمالي الحجاز ، وقد سكنوا في بادية الشام جنوبي سوريا في القرن السادس قبل الميلاد ، وينتسب الأنباط إلى شعب من شعوب العرب يعرف باسم النبط ، وعرفت المنطقة التي أقاموا فيها باسم بلاد العرب الصخرية ، لكثرة المرتفعات الصخرية الوعرة ، كما أطلق على عاصمتها اسم البتراء أي الصخرة ، وعرفت أيضا باسم الرقيم ، وتعني النقش القديم ، وتقع البتراء في الأردن حاليا .
مد الأنباط حدود مملكتهم فشملت شرقي الأردن ، وشمالي شبه الجزيرة العربية ، وامتد شمالا حتى دمشق ، وقد أصبحت البتراء في القرن الأول قبل الميلاد أهم مراكز التجارة القادمة من شبه الجزيرة العربية ، وساعدها على ذلك وقوعها في مفترق الطرق التجارية القادمة من العراق وسوريا واليمن وفلسطين ومصر ، وقد تخوف الرومان من الدور التجاري الذي تلعبه البتراء ، لذا عمدوا إلى تحويل طرق التجارة عنها بحيث أصبحت تمر بالبحر الأحمر والخليج العربي ، مما أضعف البتراء وأفقدها أهميتها التجارية ، ولم يكتف الرومان بذلك ، بل غزاها الامبراطور الروماني تراجان ، وتمكن من الاستيلاء عليها في عام 106 م ، وهكذا انتهى دورها كقوى سياسية .
مظاهر حضارة الأنباط :
* عبد الأنباط بعض الأصنام مثل ذي الشرى ويتمثل هذا الإله في صورة كتلة من الصخر ، أو عمود من الصخر ، ويمثل إله الشمس ، ومن آلهتهم اللات آلهة القمر والعزى .
* تاجروا بالعطور والطيوب اليمنية والمنسوجات الحريرية من دمشق والصين واللآليء من الخليج العربي .
* اشتهروا بالبناء المنحوت في الصخر المعروف باسم الخزنة وبإنشاء المسارح والقصور .
2) دولة تدمر :
تقع مدينة تدمر في قلب بادية الشام شرقي مدينة حمص ، وكانت تشتهر بخصوبة تربتها وكثر ينابيعها ، وقد عرفت عند كتاب اليونان باسم بالميرا ، وذلك لكثرة ما كان يزرع فيها من أشجار النخيل ، تمتعت تدمر بموقع ممتاز جعلها مركزا هاما للقوافل التجارية التي تربط ما بين الشام والعراق ، وبلغت تدمر أعظم قوتها في عهد أذينه الثاني وزوجته زنوبيا ، حيث تمكن أذينه الثاني من هزيمة الفرس فس طيسقون ، أما زنوبيا فقد وسعت من رقعة دولتها ، بحيث بسطت نفوذها على كل من مصر وآسيا الصغرى .
خشيت روما من تنامي قوة تدمر التي أصبحت تشكل خطرا على روما نفسها ، فقررت القضاء عليها ، فألحق الجيش الروماني الهزيمة بجيش تدمر في مصر ، في الوقت نفسه الذي كانت جيوش الرومان تجتاح آسيا الصغرى ، وتدخل سوريا ، وقد دخل الرومان تدمر عنوة عام 273 م ، وساقوا زنوبيا أسيرة إلى روما ، وبذلك فقدت تدمر استقلالها .