الفن الآشوري

أخذت نتائج أعمال التنقيب التي أجرتها البعثات الأثرية منذ بدايات القرن العشرين تظهر معالم الفن الآشوري المختلفة من عمارة ونحت وتصوير، في مواقع:آشور ونمرود وخورسباد.
العمارة
أتاحت التنقيبات في موقع آشور رسم معالم المدينة وسورها المزدوج ومينائها المبني على ضفة نهر دجلة في مجال المدينة؛ ونتيجة ذلك ظهر القصر القديم الذي يعود إلى بداية الألف الثاني قبل الميلاد، وقد تبين أن هذا القصر بقي قيد الاستعمال حتى آخر حقبة الألف الثاني ق.م على ما لحق به من تغيرات مهمة. وظهر كذلك القصر الجديد الذي شيّده الملك توكولتي نينورتا الأول (1246-1209ق.م) Toukoulti Ninourta I إلى الغرب من القصر الأول في الوقت الذي آل فيه القصر القديم إلى مدفن ملكي حيث اكتشفت خمسة مدافن حجرية.
إعادة تصور لمدينة نمرود على ضفاف نهر دجلة

نحت يمثل ثوراً له رأس بشري وأجنحة
أما المباني الدينية المكتشفة في الموقع فلا تقل أهمية عن قصور المدينة، فالزقورة الكبيرة التي كانت مكرسة بدايةً للإله إنليل ومن ثم للإله آشوركانت قائمة بين القصر ومعبد آشور، في حين كان الهيكل المزدوج للإلهين آنو وأدد يحتوي على زقورتين واحدة لإله العاصفة أدد وأخرى لآنو إله السماء. أما المعبد المزدوج للإلهين سن (القمر) وشمش، ومعبد عشتار فكان لكل منهما مخطط من النمط السومري أي إنه مؤلف من ثلاثة مجازات متوازية ومدخل يمتد على طول الجانب، بمعنى أنه مختلف عن مخطط النمط الآشوري الذي يتألف من الحجرة المقدسة حيث الصنم مسبوقةً بحجرة المتعبد، ويقع الباب على محور الحجرتين،وقد عرف هذا المخطط تحولات كثيرة في غضون مايقارب ألفي عام. والنمط الأخير من المباني الدينية هو المسمى بيت أكيتو Bit Akitou المخصص للإله آشور، حيث كانت تقام احتفالات العام الجديد وهو يقع خارج السور.
أما في نينوى فمع ظهور دلالات تشير إلى أن موقعها كان مأهولاً في الألف السادس قبل الميلاد فإن تاريخ هذا الموقع بقي غامضاً حتى بدايات الألف الثاني قبل الميلاد، إذ اكتشف فيه قصر بناه في تلك الحقبة الملك الآشوري تغلات بيلاصر الأول (1115-1077ق.م) Teglath-phalazar I.
نحت بارز يمثل صيد الأسود
وكانت نينوى قد تبوأت مركزاً مهماً في القرن السابع قبل الميلاد وقام الملك سنحريب (705-680ق.م) ببناء قصر مزين بالنحت البارز واستخدم هذا القصر بعده آشوربانيبال الذي بنى قصراً آخر وزينه بالنحت البارز وفيه مكتبة احتوت على نحو خمسة آلاف نص نقشت على خمسة وعشرين ألف رقيم (لوح مسماري)؛ والمعروف عن الآشوريين شغفهم بجمع النصوص الدينية والأدبية والعلمية التي خلفها أسلافهم. وقد عثر في موقع نينوى على معبدين واحد للإله نبو والآخر للإلهة عشتار. ومن المعالم المهمة التي وجدت أعمدة الساقية التي كانت تزود المدينة بالماء.
أما موقع نمرود الحالي بالقرب من نهر دجلة فقد قامت فيه مدينة كلحو (كلح) التي أسسها في القرن الثاني عشر قبل الميلاد الملك شلمنصَر الأول وسكنها المهجرون من بابل في عهد توكولتي نينورتا الأول. وفي القرن التاسع قبل الميلاد أصبحت مدينة كلحو عاصمة الملك آشورناصربال وشيد فيها قصراً له وأعاد بناء ما هدمه الكلدانيون .
وقد كشف في موقع نمرود عن ستة قصور وأربعة معابد كانت كلها ضمن سور المدينة إضافة إلى زقورة للمعبودة نينورتا؛ كما كشف في الموقع وخارج السورعن قصر نهري بناه الملك شلمنصر الثالث وامتاز هذا القصر باحتوائه على مخازن وورشات خاصة بالملاحة. ومما يجدر ذكره أن مجموعة مهمة من المنحوتات العاجية من أصل فينيقي وسوري كانت بين مكتشفات حفريات مدينة نمرود.
وأما موقع خورسباد على مسافة 15كم شمال شرقي الموصل فقد أظهرت الحفريات أن المدينة شيّدها دفعة واحدة الملك صرغون الثاني سنة 717ق.م وسماها دورشاروكين، ويظن أنها كانت عاصمة له ثم هجرت بعد موته. وكان يحيط بالمدينة سور ذو قاعدة عريضة وتقع القلعة إلى الشمال الغربي منها وفي جنوب المدينة يقع قصر ثانوي. واحتوت القلعة مجمَعاً مقدَساً مؤلفاً من هياكل تنتمي لستة من الآلهة المعبودة، وفي الجهة المقابلة للمجمع يقع هيكل آخر للإله نبو، ويتصل هذا الهيكل مباشرة بقصر صرغون بجسر حجري قائم على عقود، كما يتصل بمجموعة من المباني المخصصة للعائلة المالكة.
تصوير جداري ـ تل برسيب يعود للقرن 8ق.م (متحف حلب)
مظاهر الفن الآشوري الأخرى
كان الفن الآشوري متعدد المظاهر، فقد شيّد ملوك آشور أبنية رفيعة المستوى زاد ت الزخرفة في تألقها، وكان الآجر الرمادي هو »الخامة» الأساس في البناء أما العناصر الجمالية المضافة إليه فتزيده بهاءً؛ ويرجح أن الأخشاب والستائر كانت تغطي الجدران من الداخل في المعابد والقصور ولكن من المؤكد أن الآشوريين تبنوا فن التصوير الجداري، الموروث عن أسلافهم من شعوب بلاد الرافدين، في تلوين جدران قصورهم في كل المواقع التي مرّ ذكرها؛ ولكن المجموعة المهمة التي عثر عليها في قصر تل برسيب على الفرات الأعلى في أقصى المملكة (تل أحمر في سورية اليوم) تعد مثالاً للفن الآشوري وتشكل مساحة مئة وثلاثين متراً من التصوير على الجدران، ويستشف من تجميع القطع أنها تمثل رحلات صيد وتربية خيول كما تعكس جمال الملابس التي كانت سائدة آنذاك (بعض تلك القطع موجود في متحف حلب وكثير منها في متحف اللوفر في باريس).
أما الواجهات الخارجية فقد لجأ
الآشوريون إلى فن زخرفي آخر في تزيينها وهو الآجر المزجج، الذي تؤلف مجموع قطعه ـ إذا ما رصفت ـ زخارف هندسية وحيوانات أسطورية ذات بروز خفيف، وكانت المشاهد تلمع في الضوء بأبهى الألوان الترابية والزرقاء والمائلة إلى الخضرة كما في واجهات بعض معابد خورسباد.
نحت بارز يمثل مأدبة ملكية للملك آشوربانيبال

واستخدم الآشوريون كذلك فناً أتى من الشمال السوري وهو النحت الحجري البارز من الهيصم alabâtre (نوع من المرمر). وقد أقيمت المنحوتات orthostates على الجدران الآجرية فوق أساساتها الحجرية حول الساحات أو داخل القاعات. وكانت الحقبة الذهبية لهذا الفن، الذي انطلقت فيه العبقرية الآشورية ، بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد. وامتاز بالابتكار وبراعة التأليف مبيناً قوة المملكة ورفعة الملك وذلك في نينوى ونمرود؛ مثال ذلك النحت البارز الذي يمثل مشهد صيد الأسود وهو من الهيصم بارتفاع 92ـ95سم من عهد آشورناصربال الثاني(اليوم في المتحف البريطاني في لندن) وكان يزين قاعة العرش في قصر الملك في نمرود، ويمثل الملك لابساً سترة متواضعة وهو يرمي بالقوس السباع من على عربته. والنحت البارز الآشوري بما تحلّى به من دقة يعد معيناً للمعلومات عن المواد التي كانت تستخدم في تلك الحقبة كالخشب والجلد والقماش ولم يعد لها اليوم أثر يذكر.
نحت بارز من قصر آشور ناصربال يمثل عفريتاً مجنحاً له جسد إنسان ورأس نسر يحتفل أمام الشجرة المقدسة
أما النحت المدوّر (التماثيل) فكان نصيبه أقل من النحت البارز، ومنه تمثال آشورناصربال الثاني في نمرود من القرن التاسع قبل الميلاد وتمثال شلمنصر الثالث. وظهر النحت كذلك في شخوص سباع مجنحة وثيران برؤوس آدمية متوّجة وكانت تلك الشخوص تحتل موقع الحراسة على البوابات التي أحكمتها أبواب خشبية مزينة بزخارف من البرونز كما في مدينة أم غربل Balawat (في العراق). مثال ذلك ثور ذكر مجنح ذو رأس آدمي ولحية مستعارة، من قصر صرغون الثاني في خورسباد (القرن الثامن قبل الميلاد) وهو اليوم في متحف اللوفر في باريس، ومن صفاته المميزة أن له خمس قوائم تظهر أربعٌ منها إذا شوهد من الناحية الجبهية والخامسة مجاورة أنسيّاً للقائمة الأمامية تظهر إذا ما شوهد من الناحية الجانبية. وإلى جانب ذلك وجد في المواقع الآشورية تماثيل حيوانات من الجص بحجوم صغيرة وأختام أسطوانية وتمائم تثير الدهشة لما فيها من دقة في تمثيل المخلوقات الخيالية والمشاهد الأسطورية.
واستخدم الآشوريون كذلك فن الترصيع والتنزيل بالمعدن والعاج في الأثاث الخشبي، أما الحلي والأسلحة فقد وجد منها من القطع القليل، وفي المنحوتات البارزة تمثيل لقطع متقنة الصنع من تلك الأنواع التي كان الآشوريون يملكونها.
لقد خضع الفنان الآشوري للفكر الشرقي في التصوير الجداري والنحت البارز والنقش على المصغرات من الأختام الأسطوانية والتمائم، فمثل الوجه والعين والساقين جانبياً والجذع جبهياً . وبدا الفن الآشوري بمظاهره المختلفة معبراً عن قوة المملكة ورفعة الملك.