كانت الضربة القاصمة التي تلقتها اليابان في الحرب العالمية الثانية وأدَّت إلى استسلامها وهي في حالة انهيار كامل؛ إذ خلَّفت الحرب وراءها سبعة ملايين عاطل، ومسحت من على وجه الأرض تمامًا رُبُعَ الطاقة الصناعية، وخرَّبت كل المدن الرئيسية تقريبًا، وذلك بجانب الكارثة الإنسانية التي سببتها قنبلتا هيروشيما وناجازاكي مِن قتلى وجرحى وتلوثٍ بيئيٍّ وإشعاعي، كانت هذه الضربة كفيلةً باختفائها كدولة، ونهاية دورها إلى الأبد.

ولكن اليابان أبت إلا أن تضرب المثل لكل دول العالم، وتعلمها معاني العزيمة والإصرار، وتلقِّن الجميع درسًا في التخطيط الدقيق والمثابرة حتى تحقيق الأهداف، كما أوضحت تجربة اليابان بما لا يدع مجالاً للشك الدور الذي يمكن للعلم أن يؤديه في حياة البشر.

وللحق فإن اهتمام اليابان بالعلم والأخذ بأسباب التطور يسبق الحرب العالمية الثانية بسنوات طويلة، مع اعترافنا بأن هذه الأزمة هي التي فجرت طاقات الشعب الياباني ودفعته إلى الانتصار على الجميع حتى على نفسه، إلا أن النهضة العلمية اليابانية قد نضجت ثمارها قبل ذلك بكثير، فمنذ القرن التاسع عشر واليابان تمتلك سكك حديد وخطوط برق، وصناعة حديثة خاصة الصناعات الثقيلة الأساسية كالتعدين وصناعة الصُّلب وبناء السفن لسد الحاجات العسكرية، وصناعات خفيفة واعدة كصناعة المنسوجات، مع قاعدة عريضة من الأيدي العاملة الماهرة، والكثير من الخبراء الأجانب الذين استقدمتهم اليابان بهدف نقل التكنولوجيا المتقدمة، ومنذ عام 1870م ظهرت آلات الغزل الميكانيكية الحديثة في المصانع اليابانية، وغيرها الكثير من وسائل التكنولوجيا الصناعية الحديثة، وبدأت عجلة التنمية اليابانية في الإسراع وأصبحت اليابان قوة ناشئة وواعدة، وقد بلغ هذا التطور ذروته في عام 1913م[1].

وقد اعتمدت النهضة العلمية باليابان خلال هذه المرحلة على ثلاثة أعمدة رئيسية:
1- الاستعانة بالعلماء والمعلمين الأوربيين سواء كانوا أعضاء البعثات التبشيرية أو العلماء المتخصصين في اللغات الأوربية، وخاصة اللغتين الهولندية والإنجليزية، كما دُعِيَ إلى اليابان الخبراء الفنيون من كل الدول المتقدمة، وقد حملت السفن القادمة إلى اليابان مئات المعلِّمين والمستشارين والفنيين الأجانب، وقد خصصت الحكومة اليابانية لهؤلاء الخبراء الأجانب في مجال التعليم إلى جانب المبعوثين اليابانيين في الخارج ما يوازي 30% من ميزانية وزارة التعليم اليابانية في ذلك الوقت.

2- ترجمة الكتب الأجنبية إلى اللغة اليابانية، وإنشاء المدارس الحديثة، وكانت أهم الكتب التي نقلت العلم إلى اليابانيين مؤلفات كل من جان جاك روسو، وهيوم، ودستوفسكي، وتولستوي، وغيرهم من كبار المفكرين العالميين في ذلك الوقت، والذين ساعدت أفكارهم في زيادة وعي اليابانيين بأحوال العالم المحيط بهم.

3- إرسال البعثات اليابانية إلى الدول الأوربية المتقدمة لينهل أفرادها من العلوم الحديثة، وكانت وزارة التعليم تدقق في اختيار أعضاء البعثات من أفضل العناصر الوطنية، وكانت معظم هذه البعثات يتم إرسالها إلى الولايات المتحدة الأميركية، وإلى بعض الدول الأوربية مثل ألمانيا وفرنسا، وعندما شعر قادة الإصلاح الياباني أن أسلوب التربية الألماني الذي يركز على الجوانب الخلقية - التي تؤمن بأن هدف التعليم خلق الإدارة المستنيرة التي تميز بين الصواب والخطأ - هو ما يناسب الطبيعة اليابانية الاجتماعية، بدأت المناهج الألمانية تحل محل المناهج الأميركية على يد أعضاء البعثات اليابانيين.

أما عن التعليم الجامعي في اليابان خلال تلك الفترة، فقد تم إنشاء العديد من المعاهد والكليات العليا حتى عام 1877م الذي تجمعت فيه هذه المعاهد والكليات فيما عُرِفَ بجامعة طوكيو الإمبراطورية التي ضمت كليات الآداب والعلوم والحقوق والطب والهندسة، ثم افتتحت عام 1897م جامعة «كيوتو»، وفي عام 1900م تأسست أول كلية لتعليم اللغة الإنجليزية للبنات، وفي نفس العام أدارت الدكتورة «يوشيو كايابوي» - كأول طبيبة يابانية - أول كلية طب للنساء[2].

وبذلك طوَّرت اليابان نظامها التربوي، واستطاعت في زمن قصير أن تسد الفجوة التي كانت تفصل بينها وبين الدول الأوربية في مجال العلم، وقد حدث ذلك بسبب إيمان اليابانيين بأن نقل العلم والتكنولوجيا مع أهميته إلا أنه لا يتعدَّى كونه مرحلة أولى يجب أن تتبعها مراحل وخطوات، وكانت الخطوة التالية هي إعداد كوادر علمية وطنية يمكن الاعتماد عليها في بناء الدولة اليابانية الحديثة، وبالفعل أعادت الحكومة اليابانية النظر في نُظُم التعليم اليابانية بحيث تترسَّم خطى أحسن النظم التعليمية الأجنبية، فاستدعت الحكومة الإمبراطورية عددًا كبيرًا من رجال العلم الأجانب للإسهام في إنشاء المدارس والجامعات لجميع الطلاب، وأرسلت البعثات العلمية إلى الخارج للتخصص، ثم استقبلت اليابان مبعوثيها في الخارج ليشاركوا في النهضة التعليمية في البلاد، وليقوموا بالتدريس في المدارس الجديدة[3].

ولعل هذه النبذة من التاريخ الياباني الحديث تساعدنا على فهم المعجزة اليابانية، وما نقصده بالمعجزة هو ما فعلته اليابان بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، إذ عادت لتبدأ من الصفر بل وأقل من الصفر لتصبح رقمًا صعبًا ومثلاً يُحتَذَى به في التقدم والعلم والرخاء.
لقد قامت اليابان بتقليد الغرب في بادئ الأمر، ثم ما لبثت أن سبقته وتفوقت عليه، فقد نقلت عنه أحدث نظرياته العلمية، ثم بدأت في تأصيل نفسها في العلوم والتكنولوجيا؛ فكثفت جهودها في برامج البحث والتطوير لتخرج جيشًا كبيرَا من العلماء في إطار ما سُمِّيَ «بالتفوق السَّلمي»، واستند اليابانيون إلى نظام تعليمي غاية في الدقة يدعمه حُبٌّ أصيل لنقل العلم والمعرفة كامن في الشخصية اليابانية، وإلى جانب تخريج العلماء والباحثين من المهندسين ركزت اليابان في المقام الأول على مرحلة التعليم الأساسي باعتباره المستودع الأول لإمداد الدولة بكوادرها الفنية والأكاديمية، وحقيقة الأمر فإن اندفاع اليابانيين لتوسيع نطاق التعليم وتجويده كان بنفس اندفاعهم لزيادة ناتجهم القومي، ففي عام 1955م كان نصف الشباب الياباني بالكاد يدرس في مرحلة التعليم الثانوي، ونسبة أقل من 10% يستكملون التعليم فيما بعد المرحلة الثانوية، وعند حلول السبعينيات صار أكثر من 90% من كلا الجنسين يُتِمّون مرحلة تعليمهم الثانوي مقارنةً بنسبة 80% للشباب الأميركي، وفي عام 1975 على سبيل المثال كان 97% من الطلبة اليابانيين الذين التحقوا بالتعليم الثانوي قد أتموا دراستهم فيه ليلتحقوا بالتعليم العالي[4].

والأمر المثير للإعجاب أن الطلبة اليابانيين لا يكتفون بمجرد الحضور في الفصول المدرسية، بل نجد ما يزيد على نصف الشبان اليابانيين يلتحقون لبعض الوقت في مدارس تكميلية خاصة بالتوازي مع دراستهم في المرحلتين الابتدائية والثانوية لمزيد من التدريب، وهذه المدارس التكميلية لها أشكال وأحجام متعددة، والهدف منها تحسين الفرص أمام الطالب للدخول في مسابقات تعقدها المدارس ذات الشهرة في مستوى تعليمها والتي يتوق الطلاب إلى الانتساب إليها، وقد أصبح نظام المسابقات هذا سمة معروفة في نظام التعليم الياباني، واللافت للنظر أن هذه المسابقات تهدف إلى قياس مدى المعلومات المكتسبة تأسيسًا على فرضية تلقى قبولاً عامًا في اليابان، وهي أن النجاح لا يعتمد على الإمكانات الفطرية للطالب ولا على مدى استعداده العام، ولكن يعتمد بالأحرى على مدى استخدامه لهذه الإمكانات الفطرية في الدراسة المنتظمة، حيث إنه من وجهة النظر اليابانية ليس هناك سوى طريق واحد لتحقيق الفوز هو الاستذكار والاجتهاد في تحصيل العلم[5].

والجدير بالملاحظة أن الطالب الياباني يحضر في المدرسة ما يزيد عن الطالب الأميركي بمقدار الثلث؛ فهو يحضر بالمدرسة 240 يومًا في السنة في حين يحضر الطالب الأميركي 180يومًا فقط، أيضًا من السمات المميزة لنظام التعليم الياباني هو أن المدارس اليابانية تُشتَهَر بحرصها المفرِط على احتواء الطلاب، وغير مسموح فيها بأي نسبة تَفَلُّت أو تسرُّب تعليمي في أي مرحلة من المراحل، أو أية فرقة من الفرق، رغم أن ذلك يشكِّل عبئًا إضافيًا على معلميها، ونجد الأميركيين مثلاً أكثر استعدادًا للقبول بحرمان الطلبة المتعثرين من التعليم في حين يبذل المدرس الياباني قصارى جهده ليطمئن إلى أن كل طالب من طلابه قد حقَّق مستوى تعليميًّا مطمئنًا قبل نهاية العام الدراسي، ويلجأ المدرس في هذا الخصوص إلى حشد جهود أولياء أمور الطلبة المتعثرين لمساعدة أبنائهم؛ وذلك لأن المدرس الياباني يعتبر نفسه ليس مسئولاً فقط عن تقديم المادة العلمية للطالب، وإنما مسئول – أيضًا - عن التأكد من أن الطالب قد استوعب علومه بالفعل[6].

ولاشك في أن اهتمام دولة اليابان بصفة رسمية وجموع المواطنين بصفة شعبية بالعملية التعليمية قد أثَّر بشكل مباشر في تقدُّم العلم، وأدَّى إلى انتشار المراكز البحثية في اليابان بشكل ملحوظ، فقد كان لزيادة عدد الجامعات والمدارس أثره في إعطاء الفرصة للعلماء أن يواصلوا أبحاثهم ودراساتهم في شتى المجالات، كما أننا لا نستطيع إغفال دور الحرب العالمية الأولى في تقدم العلوم وذلك لشعور اليابانيين بأن عليهم بذل قصار جهدهم من أجل أن تقف بلادهم في مصافِّ البلدان المتقدمة، ففي مجال العلوم التطبيقية والطبيعية واصل العلماء عطائهم الذي بدأوه في هذه المرحلة التاريخية[7].

ولعلّنا نخلص بنتيجة في نهاية كلمتنا الموجزة عن دور العلم في بناء النهضة اليابانية، وهذه النتيجة تتلخص في أن دور العلم ظل بارزًا طوال مراحل التاريخ الياباني الحديث.
كما بينَّا أن الاهتمام بالتطوير والتجديد التكنولوجي كان أمرًا يشغل بال القائمين على الصناعات اليابانية منذ القرن التاسع عشر، فكثير من براءات الاختراع والأساليب التكنولوجية الأحدث كانت اليابان تستجلبها من الخارج بصفة مستمرة في تلك الآونة مع سعي متواصل لصنع منتجات يابانية بتصميمات جديدة.. ثم تضاعف اهتمام اليابان بالعلم ووصل ذروته خلال الفترة التي تبعت هزيمتها في الحرب العالمية الثانية عام 1945م في محاولة جادة للنهوض وإثبات الوجود، وقد نجحت اليابان في تحقيق هدفها بكل تأكيد، ففي خلال النصف الثاني من الستينيات تجاوز الناتج القومي لليابان نظيره في كل من الدول الصناعية الكبرى في غرب أوربا، وغزت صادرات اليابان أسواق الدول الصناعية الكبرى، بدءًا من الصُّلب، والسفن، مرورًا بالمركبات، والآلات والمعدات، وانتهاءً بالإلكترونيات التي تفوقت على مثيلاتها في كل دول العالم، وسيطر المنتج الإلكتروني الياباني على أسواق المستهلكين في العالم[8].

ومن أهم الاختراعات الإلكترونية اليابانية:
1- اختراع الفيديو كاسيت 1969م[9].
2- اختراع الووكمان في عام 1979م.
3- اختراع السي دي في عام 1980م.
4- اختراع DVD في عام 1995م.
إنَّ ما قامت به اليابان من إنجازات علمية وتقنية واقتصادية جعلها قدوةً ونموذجًا لمعظم دول شرق آسيا التي استطاعت تحقيق طفراتٍ اقتصادية وتقنية فيما بعدُ، فقد كان النموذج الياباني مصدر الإلهام لقادة شرق آسيا الذين أرادوا لبلادهم وشعوبهم مستقبلاً زاهرًا.

[1] د. إسماعيل أحمد ياغي: تاريخ شرق آسيا الحديث، 142، 143.
[2] د. رأفت غنيمي الشيخ، تاريخ آسيا الحديث والمعاصر،40، 41.
[3] تاريخ شرق آسيا الحديث،143.
[4] السابق،254.
[5] الشرق الأقصى الصين واليابان،254.
[6] الشرق الأقصى الصين واليابان ص256.
[7] هشام عبد الرءوف حسن، تاريخ اليابان الحديث والمعاصر، 105.
[8] الشرق الأقصى الصين واليابان ص249.
[9] الموسوعة البريطانية

د. راغب السرجاني