فلسفة المشروع الحضاري ونزعات التحرر ... بحث في فلسفة التاريخ
بقلم : د. وليد سعيد البياتي توطئة في المفاهيم:
قد يبدو أن الصراع بين التحضر والتحرر صراعا تاريخيا كما فهمه معظم فلاسفة الغرب وبعض الفلاسفة الشرقيين، منطلقين من مفاهيم لغوية أكثر منها معرفية، حتى ساد الاعتقاد بأن التحرر المطلق هي: " نزعة إنسانية للخروج من القيود الافتراضية لكل من العقل والمجتمع "، وبالتالي تم اعتبار التحرر فكرة حضارية تبنتها الحضارة الغربية كأحد أهم أسس منظومة (الديمقراطية الليبرالية)، غير أن تكرار فشل هذه المنظومة في قيادة حركة التاريخ المعاصر قد قدمت برهانا عمليا على مغالطات هذا الاعتقاد الغربي في مفهوم التحرر، مما أدى إلى إعتراف بعض فلاسفة الغرب بالقصور الموضوعي لهذه النظرة كما فعل (فرانشيسكو فوكوياما) بعد تهافت نظريته في نهاية التاريخ.
لاشك إن تنامي نزعات التحرر وفق المفهوم الغربي قد حدث بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنه قد أسيء تصور هذا المفهوم من كونه مفهوما سياسيا يرتكز على أسس تاريخية كنتاج لما بعد المرحلة الكولينيالية (مرحلة الاستعمار) فتم افراغه من هذه الفكرة ليتحول إلى مفهوم اجتماعي يسعى لتحرير الانسان من القيود والالتزامات الاجتماعية والعقائدية لحساب تكوين الشخصية الفردية، وهذا بالتالي أدى إلى تنامي ظاهرة تفكك البناء الاسري والاجتماعي على السواء.
من جانب آخر نرى أن الاسلام عقيدة وتشريعا قد نظر إلى التحرر من منطلقات حضارية تتأصل عند معايير رسالية عالية تتمثل بتحضير الامة وإخراجها من ظلمات الجاهلية إلى نور الحقيقة (الاسلام): " الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، (1) حتى جعلت للفرد ككيان وللانسانية قيمة عليا نتيجة لربط حركة التاريخ بالتعالي (2) باعتبار قضية الجعل الالهي: " وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الارض خليفة " (3). فاصبح الفرد صانعا للتاريخ ومشاركا به بدلا من أن يصبح مجرد أداة تسخر لاغراض تاريخية وغير تاريخية. ومن هنا جائت قيمة أن تكون الامة الاسلامية شاهدة على مسارات بقية الامم.
الاسلام مشروع الله الحضاري على الارض:
قد يصبح هذا العنوان عنوانا رئيسيا لاحدى لدراساتنا المستقبلية في فلسفة التاريخ، غير إننا في هذا البحث الموجز نحاول إلقاء نظرة أولية على فلسفة هذا المشروع باعتبار ان البناء الحضاري هو احد اهم مشاريع الرسالات السماوية. فبينما توقع (هيجل) أن تؤدي حركة التاريخ إلى (تأليه) الانسان نتيجة لتزايد سيطرته (4) من جانب، او كنتاج للحروب والصراعات من جانب آخر، وهي رؤية ارتدادية يمكن أعتبارها نتاجا لتأثيرات الحضارتين اليونانية والهيلينية السابقة، في حين توقع (ماركس) هيمنة المجتمع الشيوعي عن طريق سيطرة البروليتاريا، غير أن فشل النظريتين لايعني بالظرورة ان يصبح النظام (الليبرالي) الغربي قائدا لحركة التاريخ كما أراده (فوكوياما) في (نهاية التاريخ والانسان الاخير) حيث انه هو الاخر لم يتمكن من تقديم فلسفة عقلانية لمفهوم (الحضارة والتحرر).
لاشك أن الحضارة الغربية المعاصرة قد إستلبت القيم الاخلاقية والمعنوية للانسان، عبر تفكيك ذهنية الافراد وسلخها عن القيم العليا بعد ان وجهت افكار المجتمع لتبني قيم منحطة احلتها محل العليا، مما أدى بالتالى حدوث قصور في مفهوم الوعي الجمعي، إذ تم التركيز على الفردية والذاتية، وتأليه الانسان، مما اوجد مجتمعا غير متماسك فكريا وإن كانت توحده الحاجات الآنية، فسعت إلى إستبدال الفردوس الالهي بفردوس أرضي دنيوي، كما إدعى فولتير في عصره: " إن الحياة في باريس ولندن وروما أفضل من جنة عدن "، وهذه النظرة تمثل أدنى مستويات القصور الفكري لتلك الطروحات التي أسست للثورة الفرنسية.
لكن فلسفة الاسلام الحضارية قد بينت حقيقة كل من الانسان والمجتمع وحددت العلاقات بينهم إنطلاقا من علاقتهم بالغيب، عبر تحديد معيارية جديدة وغير دنيوية لقيم الانسان: " يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبلائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ". (5)
إذن فقيمة الانسان إلهية تتحدد بما هو يعقل من طبيعة العلاقة بينه والله، وهي علاقة لاتتحدد بالمعايير الدنيوية فالله لم يقل إن أكرمكم عندنا هو (أغناكم ولا أقواكم، ولا أكثركم مالا وولدا) ولكنه قال سبحانه (اتقاكم) وهذه لا تتأتى إلا من خلال إفراغ الذات لله، وتفعيل المدركات الانسانية والعقلية والنفسية في تحقيق غائية الوجود، فالنظرية التحررية التي نادى بها الاسلام تقوم على تحريره من الخضوع اللامتناهي لحاجاته وشهواته الدنيوية، وبالتالي خلصته من فكرة تأليه الذات، وربطته بالغيب من منظور عقلي وعملي، وفي نفس الوقت لم توقف نشاطه الدنيوي: " ولا تنسى نصيبك من الدنيا ". (6) غير أن قيمة هذا النشاط الدنيوي يتحدد بادراك غائية وجود الانسان في دورة الحياة.
يتبع