إنّ النظر الأوّلي لمفهوم الجامع والجامعة يجعلنا نتساءل عن الدلالة التي تربطهما خصوصًا وأنّ المفهومين ينتميان إلى جذر لغوي واحد. فهل يتعلّق الأمر في إطار عملية نحت المفهوميْن، باشتراك غير مقصود الدلالة، أم إنّ هذا النحت المفهوميَّ يعني الشيء نفسه، أم إنّ الفارق يكمن في زمن النحت وليس في مضمونه أو في الأدوار التي من الممكن أنّ كل فضاء منهما يؤدّيها؟

يشتق الجامع والجامعة و"الجماعة" من الفعل "(جمع) الجيم والميم والعين أصل واحد يدل على تضام الشيء"[1] وعلى جمع "المتفرق- جمعًا: ضمّ بعضه إلى بعض، وفي المثل: تجمعين خلابة وصدودًا يضرب لمن يجمع بين خصلتيْ شر... فهو جامع، وجموع أيضًا، ومجمع وجماع... والجامع: من أسماء الله الحسنى، والجامع الذي تصلى فيه الجمعة، ويقال مسجد الجامع وأمر جامع: له خطر يجتمع لأجله الناس"[2] في حين أنّ الجامعة وإن كانت مصطلحًا حديثًا، إلاّ أنّها تشير إلى دلالات الجمع نفسها، فهي "مجموعة معاهد علمية تسمى كليات تدرس فيها الآداب والفنون والعلوم (محدثة)"[3]. إذا كان الجامع والجامعة يدلاّن على عملية جمع الجماعة، فمعنى ذلك أنّ هذه الجماعة تحتاج إلى عملية تدبير، والتدبير هنا يلزم أن يكون تدبيرًا عقلانيًّا لما هو خاصّ بها، أي تدبير أمور الجامع والجامعة من ناحية، ثم البحث عن التدبير العقلاني للجماعة الكبرى (المجتمع) الذي ينتمي إليه منتسبو الجامع والجامعة من ناحية أخرى. ومنه أيضًا مفهوم "الجماعة" الذي يستخدم في سياق التداول القروي المغربي للإشارة إلى الهيئة التي تعمل على تدبير شؤون القرية سواء على المستوى العسكري (حماية تراب وحدود القرية) أو الاجتماعي (حفظ الأعراف والقواعد الاجتماعية) أو الاقتصادي (تدبير المحاصيل الزراعية والمجهود التجاري) أو الروحي عبر تأمين أماكن العبادة وصيانتها. هكذا يكون دور "الجماعة" هو عملية التدبير المباشر والتدخّلي في تفاصيل الحياة اليومية لأفراد القرية. وما دام الأمر كذلك، فإنّ هذا التدبير يحتاج إلى نقاش وحوار للأخذ بالآراء الأكثر معقوليّة في عملية حل المشاكل.

نظريًّا، ومن خلال الحفر في الأصل اللغوي والتداولي للكلمات، فإنّنا نجدها متقاربة حدّ التطابق من ناحية المقصود بها، لكن هل هذا التطابق الظاهري سيبقى مستمرًّا عندما نأخذ بعين الاعتبار المسافة الزمنية القائمة ما بين الجامع والجامعة؟ وأيضًا أمام التفاوت بين بساطة الهيكلة في الجامع وتعقيدها في الجامعة؟ وبعبارة أخرى نتساءل عن "المسافة الروحية التي قطعها الفكر لدينا من الجامع إلى الجامعة"[4].

1. الجامع والمسجد

من خلال الحديث السابق عن الجذر اللغوي والتداولي لمفهوم الجامع يتضح أنّه يقترن بالجماعة وبعملية تدبير كلّ ما هو يومي، إلا أنّ الجامع عرف في الثقافة العربية بشكل متأخر بوصفه حدثًا يرتبط بعلية تدبير الكلي، ثم إنّ معرفته هذه تمّ عبرها تفضيل دور من بين الأدوار المتعدّدة التي يقوم بها، فاقترن الجامع بمعنى المسجد، فتم استعمال المسجد بمعنى الجامع، حيث يشير المسجد إلى "مركز ترابط الجماعة الإسلامية وهيكلها المادي الملموس. فلا تكتمل الجماعة إلاّ بمسجد يربط بين أفرادها بعضهم ببعض"[5] فضلاً عن أنّه يحيل على "بيت الجماعة، وبيت كل واحد منها على حدة، وهو الشيء الوحيد الذي كانت تمتلكه الجماعة مشتركة"[6]، ونظرًا لهذا التداخل الحاصل بين المسجد والجامع فقد حصل أيضًا تداخل بالدرجة نفسها على مستوى تصور أدوارهما إذ تحول المسجد إلى تعبير عن "ضرورة دينية وضرورة سياسية وضرورة اجتماعية أيضًا بالنسبة لكل مسلم على حدة وبالنسبة لجميع المسلمين جملة"[7]. لكن وعلى الرغم من الإشارة إلى مختلف تلك الأدوار فقد تمّ، من الناحية التاريخية، تثبيت دور العبادة داخله ونفي ما عداها من الأدوار الأخرى التي كان يقوم بها، هكذا تحول الجامع في الثقافة العربية إلى مسجد، أي إلى مكان للعبادة وفقط. والحال أنّ أماكن العبادة كانت منتشرة في كل الأقطار قبل الإسلام، أي إنّ المسجد لم يكن اختراعًا إسلاميًّا "فكل حضارات الشرق قد عرفت مثل هذه الأمكنة المقدسة لتأمين علاقة يومية مع الآلهة"[8]، وعلينا أن نعرف أنّ المسجد "لفظة آرامية تعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد تستعمل للدلالة على كل موضوع يتعبد فيه"[9]، في حين إنّ معنى الجامع يختلف عن المسجد من حيث حمولته الثقافية في تاريخ الثقافة العربية، ذلك أنّ الجامع يعد "أخطر حدث ثقافي في تاريخ العرب، وهو حدث لم نؤرخ له كفاية، من قبل إنّ كل تأريخ له قد ظل يخلط بينه وبين المسجد، في حين إنّ الجامع هو المقام الذي دخل العرب من بابه إلى فن الكلي"[10]. بهذا المعنى يتحوّل المسجد إلى جزء من الجامع، وليس العكس كما يتداول في المنظور السائد، لأنّ أدوار الجامع ليست تعبدية فقط، ولكنها اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وعسكرية... إضافة إلى أدواره الروحية (المسجد). هكذا تتجاوز أدوار الجامع الديني نحو الدنيوي، في حين يقتصر دور المسجد على الديني، ولعل الجامع لم يكن "مجرد مكان لنمط من التعبد يميزنا عن سوانا، فربما ليس الجامع مسجدًا إلاّ عرضًا"[11].

2. الجامعة والجامع

2-1. الفضاء

إنّ إحالة مفهوم الجامعة على الجذر اللغوي نفسه للجامع و"الجماعة" سيجعلها تشترك معهما في المعنى نفسه من حيث هي (الجامعة) فضاء، إنّها مكان للتجمع ولكن الفروق بينها وبين الجامع و"الجماعة" تتجلّى في غاية هذا التجمع. فإذا كانت غاية التجمع في الجامع تستند على البحث عن الحلول وأيضًا العمل على تنفيذها، فإنّ الجامعة، نظريًّا، ومن منطلق الخلفية الثقافية التي أدت إلى بروزها أصبحت تقوم بعملية البحث عن الحلول العقلانية والأكثر فائدة للمجتمع، لكنها ليست وصية على تنفيذها، فالجامعة "كما تصورها الفلاسفة من كانط إلى هايدغر وهابرماس، مكان التشريع الكلي لثقافة ما"[12]. لكن هل الجامعة في ثقافتنا العربية اتخذت هذا المعنى نفسه من حيث هي مكان للتشريع الكلي لثقافة ما؟ خصوصًا وأنّ الثقافة التي بإمكاننا أن نشرعها في ظل البنية الثقافية السائدة، قد سبق وأن شرعها الجامع؟ ألا تستحيل الجامعة إلى مجرّد جامع تغيّرت هياكله وتراتباته المادية لكنّ فاعليته الرمزية ما زالت هي نفسها؟

من هنا، تجد تساؤلات -كما صاغها الباحث فتحي المسكيني- من مثل "ما هي الجامعة؟ ماذا يمكن أن تكون بالنسبة لنا؟ نحن الذين نأتي إلى الفلسفة بلا سبب واضح ونسقط في بؤرة ثقافة فقدت شهوة العالم، نعني شهوة التشريع الروحي لنفسها، وانقلبت إلى جيل يعاني من شيخوخة أنطولوجية مبكرة من فرط أنّه محكوم عليه بأن يجر في نفسه "أمة" بلا أفق"[13]. يؤدي النظر إلى الجامعة بوصفها فضاءً إلى اعتبارها استمرارًا للجامع، ولجزء من أدواره النظرية فقط وليست التدبيرية التدخلية، إذ يكون التحول تحولاً شكليًّا وليس جوهريًّا، وهو ما يبرر تردي فاعلية الجامعة في الفضاء الثقافي، فتتحول علاقة الفاعلين ببعضهم وبالمجتمع إلى علاقة محتكمة إلى الآليات السائدة في الجامع، في حين تبقى الجامعة في ثقافتنا العربية بعيدة عن خلفياتها الثقافية من حيث دعوى بروزها التاريخي.

2-2. تشريع الثقافة

في كل العلاقات نتساءل عن الثابت والمتحوّل، وإذا ما تساءلنا عن الثابت والمتحوّل في علاقة الجامع بالجامعة؟ فيلزمنا ألاّ نجد ثابتًا بينهما غير ما يشتركان فيه من دلالة لغوية وتداولية، لكن على مستوى الأدوار والوظائف يلزم أن يكون التحول جذريًّا وليس شكليًّا كما سبقت الإشارة في تحولات الفضاء. فهل يمكن، بأي وجه من الوجوه، أن نتحدث عن التحول الجذري من مرحلة الجامع إلى الجامعة؟

من خلال التأصيل السابق لمفهوم الجامع يتّضح أنّه لا يكتفي بتأدية الوظائف الروحية بكونه مسجدًا، ليشمل تأدية وظائف وأدوار أكثر دنيوية ترتبط بكيفية تدبير اليومي، لذلك فإنّ الجامع في الثقافة العربية "قد انقلب فجأة وبسرعة عجيبة إلى موضع خطير لاحتراف نمط جديد من المواطنة العالمية، عبثًا نحاول أن نحبسها في علاقة طقوسية عادية. إنّ الجامع أعقد ظاهرة في تاريخ العرب، وذلك أنّه في الوقت نفسه حدث معماري ومدني وعلمي غير مسبوق في أفق الملة. وإنّه لذلك فقط هو قد تحول سريعًا إلى أكاديمية المسلمين من كل مكان. إنّه أول مؤسسة علم عرفها العرب"[14]. هكذا كان دور الجامع، فبالإضافة إلى أدواره التدبيرية في ارتباط بمعنى "الجماعة" فهو يقوم بإنتاج الثقافة طبقًا للإبستيمي[15] السائد. الشيء الذي يحيلنا إلى المعنى الفلسفي نفسه، بمعناه الوظيفي، للجامعة بكونها إنتاجًا لثقافة ما. وهو الدور الذي قام به الجامع منذ نشأته في الثقافة العربية عبر تشريعه ثقافة للكلي، وهو ما ساهم في سيادة الحضارة العربية- الإسلامية في فترة من فترات التاريخ. لذلك فإنّ "الجامع هو أول نمط من الجامعة لدى العرب، في معنى كونه أول استعمال عمومي للعقل لديهم، وأول أداة تاريخية لاكتمال الكلي عدهم"[16].

3. الجامعة جامعًا

والآن، هل يحق لنا الحديث عن الجامعة في الثقافة العربية المعاصرة بكونها جامعة تستند على المرجعية الإبستيمولوجية المعاصرة في إنتاج الثقافة والمعنى؟ أي أنّ الجامعة تمكنت من تشكيل قطيعة إبستيمولوجية مع الجامع وليس القطيعة هنا بمعنى قدحي، ولكن بمعنى الدخول في العصر والتوافق مع الزمن، أم إنّ الجامعة ما زالت مجرد استمرار للجامع؟ بكونها ما زالت تصر على الاشتغال بالمنطق الجامعي نفسه (نسبة إلى الجامع) وتحلل القضايا في إطار الإبستيمي نفسه، أو إنّها تنزع إلى تبني تحليلات متعالية عن الشرط الزماني والمكاني للمجتمع الذي توجد فيه؟

إنّ التصوّر السائد لدى العرب المعاصرين عن الجامعة ودورها يبقى موقفًا عاميًّا "لا ينطوي على أي مساءلة صارمة لهذا المفهوم، فالجامعة لا تعني اليوم أكثر من جهاز بشري لإنتاج موظفين نوعيين قابلين للاستعمال اليومي في فضاء دولة ما، هكذا يرتبط معنى الجامعة بتصور أداتي ينفي عنها أي استشكال جذري لماهيتها"[17] فتتم معالجة قضية الجامعة باستسهال دون الوعي بدورها التاريخي في إنتاج الثقافة والمعنى، فنجد مثلاً في الحالة المغربية صراعًا "لتوأم من الثنائيات المتناقضة، فإلى جانب الحداثة يستمر التقليد، والتعريب يتنافس مع الفرنسية، والتوحيد يتصارع مع التجزيء، والتعميم يستنجد بالتخصيص..."[18] وهو ما ينحدر بالمجمع سريعًا نحو التخلف والفوضى الرمزية.

لكل ذلك تبقى الجامعة رهينة بمعنى الجامع، بل إنّها، بمعنى آخر، تكون أقل رتبة منه. ذلك أنّ الجامع أنتج ثقافة ما في سياقه التاريخي، في حين أنّ الجامعة أصبحت مكرسة لثقافة الجامع وفي خدمة إعادة إنتاج ثقافته، لذلك فهي غير قادرة على إنتاج ثقافة خاصة بشرطها التاريخي.

خاتمة

تجدر الإشارة إلى أهمية الوعي التاريخي بالمفاهيم المتداولة، والعلاقات القائمة بينها، وذلك لتفادي السقوط في الاغتراب عن اللحظة التاريخية التي نعيشها، إذ نتحول إلى كائنات تابعة وتتحول معنا معاني المفاهيم إلى دلالات غريبة عن نسقها. ولعل حل المشكل لا يتم بالهروب من هذا المعنى الاغترابي والسقوط في فخّ المعنى الهروبي الذي يتعالى عن الشرط التاريخي، فتتحول وظيفة الجامعة إلى إنتاج خطاب خارج شرطها الزماني والمكاني. وعودة إلى سؤال المسافة الروحية التي تفصل الجامع عن الجامعة في الثقافة العربية يمكن القول بأنّه سؤال متداخل ومحفوف بالغموض من حيث إنّ "ظهور الجامعة لدينا ما يزال حدثًا عنيفًا وإداريًّا، ولم يصبح بعد تقليدًا داخليًّا لإنتاج الحقيقة، وذلك يعني أنّ الجامعة لم تخضع بعد لدينا إلى مساءلة جذرية"[19].