طب الأعصاب يخدم رغباتنا في الشراء.. هل سمعت من قبل عن التسويق العصبي؟
القائمون على الحملات التسويقية يعرفون جيداً ماذا نحتاج، يراقبون ويحلّلون أنماط شرائنا، ولكنهم لا يعرفون إجابة سؤال أهم، وهو: "لماذا نشتري؟"؛ ذلك لأنّهم خُبراء فيما نحتاج لا فيما نُريد.
ما هو التسويق العصبي؟
التسويق العصبي هو استخدام أساليب طبّ الأعصاب في قياس رغبات المُستهلكين الحقيقية عن طريق تحديد مواطِن الرغبة بدقّة، وذلك عن طريق استقبال بيانات رسم المخ من مستقبِلاتٍ عصبية، ومن ثمّ تحليل هذه البيانات للحصول على رؤيةٍ واضحة لرغبات المستهلكين.
على سبيل المثال، تزيد شركات تصنيع العصائر من إنتاجها في شهورِ الصيف، بالطبع تتنافس هذه الشركات فيما بينها لتقديم أحجام وأشكال جذابة للعبوات، ولكنّها لا تعرف لماذا يفضّل بعض المستهلكين الأناناس مثلاً بينما يقل طلبهم على المانجو؟
قد يبدو هذا الطّرح بعيداً عن اهتمام الشخص العادي، لكن تخيّل أنك صاحب إحدى هذه الشركات وقد جاءك أحد العلماء بدراسة مؤكّدة تخبرك متى وكيف تبيع منتجك لإرضاء المستهلكين، تخيّل قيمة معلومةٍ مماثلة لرجلِ صناعة أصبح يعرف بالضبط ماذا عليه أن ينتج وبأي كمية، لتحقيق أعلى ربح مضمون؟
من يضغط زرَّ الشراء في دماغك؟
التسويق العصبي هو الاستغلال المباشر للتطور الرهيب الذي شهده علم الأعصاب في العقود الأخيرة، في ظل الإمكانات الرهيبة التي أصبح يقدمها علم التسويق، فالتسويق العصبي يستهدف بشكل مباشر كيف نتّخذ قرارات الشراء.
يساعد التسويق العصبي أصحاب الحملات التسويقية، على إرسال رسائل مباشرة للمستهلكين لمراكز الوعي والإدراك الحسّي في الدماغ لديهم، هذه الرسائل ستترك عند هؤلاء المستهلكين انطباعاً يلاحظونه ويفهمونه ويذكرونه بشكل واضح، وبشكلٍ أفضل بكثيرٍ من الحملات التقليدية التي تُجرى باستخدام علم التسويق التقليدي.
"باتريك رونفوازيه - Patrick Renvoisé"، أحد أشهر روّاد "التسويق العصبي" ومؤسس شركة "sales brain" المعنيّة بوضع حملات تسويقية مُبتكرة تستخدم أفكار ومبادئ التسويق العصبي.
اكتشف باتريك ما يُدعى "زر الشراء"، وقد أمضى جُلّ عُمُرِهِ معتكفاً على وضع نظريات وأبحاث لمحاولة الوصول لتأكيدات علمية على وجود هذا "الزرّ"، شركات مثل كوكا كولا وبيبسي قد تدفع المليارات فقط لتجعلك تختار منتجها دون منتج المنافس، صانعو الأفلام الذين أنفقوا الملايين على أفلامهم يريدون أن يستردوها بلايين عن طريق جذب الجمهور لصناعة شديدة التنافسية والإبهار كصناعة الأفلام، يريد هؤلاء المخرجون والمنتجون مَن يضمن لهم دُخول الفيلم بمجرد عرض البرومو أو "العرض التشويقي".
حتى السياسيين لن يدّخروا جهداً أو مالاً لصنع حملات دعائية مبتكرة لجذب مرشح واحدٍ إضافي قد يرجّح صوته الكفة ضد المرشّح المنافس، وهذا الأسلوب تم استخدامه في حملة الترشّح الرئاسية في الانتخابات الأميركية الأخيرة كما سيأتي لاحقاً.
الجميع يبحث عن إجابات لأسئلته في دماغك أنت، فكيف يتمّ ذلك؟
في هذا المقطع من مؤتمر"TEDxBend"، يقدم باتريك نبذة عن التسويق العصبي مع ذكر أمثلة لما هو قادر على فعله. (متوافر ترجمة بالعربيّة في خيارات المقطع على يوتيوب)
ويُعرّف باتريك في هذا المقطع علم التسويق العصبي بأنه: "علم اختيار، يعتمد على القياسات العصبية، والحيوية، والقياس النفسي لفهم السلوك الإنساني في كيفية اتخاذ القرار".
بشكلٍ مُبسّط، يخبرنا باتريك عن أساليب تحليل السلوك الإنساني الذي يحكم عملية الاختيار؛ مثل: "اختبار تحليل تعبيرات الوجه"، و"اختبار تتبع العين" و"اختبار التحليل الصوتي"؛ بل ويتعدى ذلك لاستخدام "اختبار كشف الكذب" وتحليل الـ"EEG" وهي اختصار لـ"electroencephalography"، وهو ما يُعرف بـ"فحص التخطيط الكهربي للدماغ".
ويستخدم أيضاً نوعاً متقدماً من "اختبارات الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ" التي تُعرف اختصاراً بالـ "fMRI".
ثم يقدّم باتريك العديد من الأمثلة اللطيفة والممتعة لبعض أمثلة لحملات تسويقية ودعائية ناجحة وجذّابة؛ ويبين كيف استهدف هؤلاء المعلنون "مخ الزواحف" لدينا، فدماغُنا يتكون من 3 أقسام رئيسية للمخ، كل قسم يهتم بعمليات معينة، بينما "مُخ الزواحف" لدينا هو هذا الجزء من الدماغ المشابه لما تمتلكه الزواحف وهم يتحكم في العمليات اللاإرادية في وظائف الإنسان كالتنفس والهضم، هذا المُخ لم يتطور منذ ملايين السنين عند الزواحف على خلاف ما حصل للإنسان والقِردة العُليا.
كيف استغلّ السياسيّون التسويق العصبي في حملاتهم؟
وفقاً لهذه الدراسة، فإنّ خُبراء التسويق العصبي قد أشاروا إلى أنّ التصويتات واستطلاعات الرأي التي أُجريت في السنوات السابقة كانت معيبة إلى حد كبير؛ ذلك لأن الناس لا يستطيعون التنبؤ بإجابات مستقبلية عن أسئلة تبدأ بـ"لماذا؟"، حتى بإجراء الاختبارات العصبية الشائعة، فغالباً ما تأتي النتائج متضاربة.
حتى على مستوى التلقّي، فـ"رُسومات المخّ" تُظهر أن النّاس يميلون إلى الخطابات المختصرة والموفّرة للطاقة حتى وإن كانت غير عقلانية، فمثلاً في استراتيجية هيلاري كلينتون تجاه المهاجرين كانت قائمة من 9 نقاط فعّالة ومنطقية ولكن طويلة، بينما قدّم ترامب استراتيجية قصيرة الكلمات "سأبني جداراً"؛ هذه العبارة وإن كانت تبدو للبعض غير أخلاقية أو غير منطقية إلا أنها أثّرت كثيراً في"لا وعي" الناخبين وفقاً لاستطلاعات رأي أُجريت لأصحاب الأصوات المتأرجحة من قبل مجلة النيويورك تايمز التي أجرت تعديلات على معادلات منحنياتها الإحصائية لتعطي نتائج أكثر دقة.
التسويق العصبي حلّال المشاكل الدعائية
في مقالٍ نُشِر في جريدة "فوربس" الاقتصادية، فإنّ شركة "Karmarkar" أعطت مثالاً جيداً لحلّ مشاكل الشركات الكُبرى عن طريق أساليب التسويق العصبي، وذلك بأن كلّفتها شركة "فريتو-لاي" إجراء دراسة لقياس تقبّل المستهلكين منتجهم الشهير والأكثر مبيعاً "تشيتوس"، وجاء رد فعل المستهلكين بأنّه ورغم أنّ أكل "التشيتوس" يجعل أصابعهم بُرتقالية من تأثير بقايا مسحوق الجُبن المُغَلّفة لأصابع "تشيتوس" فإن هذا لا يُفقدهم متعة "الطعم والقرمشة".
خَلُصَت هذه الدراسة التي تضمنّت إجراء "اختبارات لمسح المخ بالموجات الكهرومغناطيسية"، و"اختبارات الرنين المغناطيسي الوظيفي" إلى أنّ "العَبَث" الذي يطال أيدي المستهلكين هو ما يجعل هذا المُنتج مرغوباً أكثر، وبناءً على هذه الدراسة قدّمت شركة فريتو-لاي منتجها "تشيتوس" في سلسلة إعلانات تلفزيونية لا تتجاوز مدتها 30 ثانية، تشجّع المستهلكين على ارتكاب أفعال "عبثيّة" بالمُنتج، مثل الإعلان الذي يُظهر (تشيستر شيتا) الشخصية الأيقونية لمنتج الـ"تشيتوس" يُشجع راكبة من الطائرةعلى بإدخال إصبعي تشيتوس في فتحتي أنف أحد الركّاب بجوارها والذي يعلو صوتُ شخيرِهِ في أثناء النوم، بينما يقوم بتدليك رقبة المضيفة ويعطيها بعض الراحة، وهكذا تُحل المشكلة ويرتاح الجميع.
حصل هذا الإعلان على جائزة "Grand Ogilvy Award" لعام 2009 في مجال الدعاية والإعلان.
لا تتعجل فلا يزال البحث جارياً
"أنا عالمة أعصاب، وأقوم بدراسة صنع القرار. أقومُ بتجاربَ لاختبار مختلف المواد الكيميائية في دماغنا والتي تؤثر على قراراتنا التي نصنعها. أنا هنا لأخبركم بسر صناعة القرارات الناجحة: شطيرة الجبن. نعم هذا صحيح، بالنسبة للعلماء، شطيرة جبن هي الحل لكافة قراراتنا الصعبة؛ كيف أعرف ذلك؟ أنا العالمة التي قمت بالدراسة".
هكذا، افتتحت مولي كروكيت حديثها في مؤتمر TEDx؛ في هذا المقطع المُترجم للعربية، تتحدث مولي عن نوع من المشروبات يُدعى "نيورو بانك"، وتبيّن بالشرح أن فوائد هذه المشروبات المعززة للأعصاب غير مُثبتة علمياً.
تتحدث مولي عن هذه النقطة تحديداً في تطبيقات علم الأعصاب وأن هذه الأمور الدعائية قد تؤثر على مصداقية الأبحاث في المستقبل؛ عالمة الأعصاب تشرح قصور تفسير بيانات علم الأعصاب، ولماذا يجب أن نكون أكثر وعياً بها.
وتُضيف مولي: "قبل سنوات قليلة، كنا أنا وزملائي مُهتمين بكيفية تأثير مادة كيميائية في الدماغ تدعى (سيروتونين) يمكن لها أن تؤثر على قرارات الناس في المواقف الاجتماعية تحديداً، أردنا أن نعلم كيف يمكن أن يؤثر (السيروتونين) على الطريقة التي يتصرف بها الناس حين تتم معاملتهم بطريقة غير عادلة؛ لذلك قمنا بالتجربة. تلاعبنا في مستويات السيروتونين بإعطائهم شراباً صناعياً كريه الطعم بنكهة الليمون والذي يقوم بعملية سحب المادّة الرئيسية المكونة للسيروتونين في الدماغ وهو الحمض الأميني (التربتوفان) ومن ثم وجدنا أنّه عند انخفاض (التربتوفان) الناس يصبحون أكثر عُرضة للانتقام عندما يُعامَلون بشكل غير عادل، هذه هي الدراسة التي أجريناها، وهذه بعض العناوين الرئيسية التي صدرت بعد ذلك:
(شطيرة الجبن هي كل ما تحتاجه لاتخاذ القرار الصحيح)
(الجبنة هي صديقتنا)
(تناول الجبن واللحم قد يعزّزان القدرة على التحكّم في الذات) في هذه المرحلة، قد تتساءلون: هل فاتني شيء؟
(رسمياً! الشوكولاتة تقلل من ثورات غضبك) جُبنة؟ شوكولاتة؟ من أين أتى هذا الكلام؟ وأنا أيضاً فكرت بنفس الطريقة عندما ظهرت هذه العناوين؛ لأن دراستنا لم يكن لها أي علاقة بالجُبن أو الشوكولاتة فقط اعطينا الناس هذا الشراب كريه الطعم والذي أثّر على مستوى (التربتوفان) لديهم ولكن اتضح أن التربتوفان أيضا يتواجد في الجبن والشوكولاتة، وطبعاً عندما يقول العلم إن الجبن والشوكولاتة يمكن أن يجعلانا نتخذ قرارات صائبة، اذاً فسوف يستدعي هذا انتباه الناس".
بالطبع، فإن التسويق العصبي أحد أساليب الدعاية المُثبتة كفاءتها، وإن لم يُمكن الجَزم بعد بأنّه أفضلها الإطلاق، ولكن في النّهاية، يأتي دورُك، أن تتفحص جيداً ما يُقدم لك من معلومات، اسأل عن الجُزء غير المروي من القِصّة، واستمع جيّداً واطلب الأدلة والإثباتات، ربما لن تكون الإجابة بسيطة دائماً، فأدمِغتُنا أيضاً ليست بهذه البساطة.