على عمق ألف متر من سطح البحر، وبمحاذاة الساحل الشمالي الغربي لاسكتلندا، يزخر قاع المحيط المظلم والمغطى بالطين بالحياة، وذلك بفضل النظام البيئي للشعاب المرجانية في المياه الباردة، الذي يسمى "تلال داروين" (وهي مجموعة من التلال الرملية تحت الماء، والتي تمثل أحد أكبر الموائل الشمالية لمرجان المياه الباردة).
وعلى عكس الشعاب المرجانية في المناطق الاستوائية، فإن الشعاب المرجانية التي تنمو في المياه الباردة لا تحتاج إلى ضوء الشمس، بل يمكنها أن تعيش في الظلام، وتترقب مرور الطعام من أمامها.
ونظرًا لوجود هذه الشعاب المرجانية في أعماق المحيط، فمن الصعب رؤيتها، وفي الواقع لم يعلم أحد بوجودها حتى عام 1998. كما أن هذه الشعاب هشة للغاية، وقد تلحق بها مراكب صيد تجر شباكا في أعماق المحيط أضرارًا بالغة، أو تدمرها بسهولة.
فهذه الشعاب المرجانية التي تكونت على مدار آلاف السنوات، يمكن القضاء عليها في لحظات معدودة.
وتقول فيرل هيوفين، من المركز الوطني لعلم المحيطات في المملكة المتحدة: "إذا أُتلفت مستعمرات المرجان، فلن تتكاثر بسهولة، وسيتعذر حينئذ نشوء مستعمرات جديدة للمرجان".
ولهذا يجب حماية بيئات المرجان. ولكن يعتقد البعض أن هناك الكثير من الشعاب المرجانية في المياة الباردة قبالة سواحل المملكة المتحدة، خلاف تلال داروين، لم يكتشف بعد. فكيف سنحمي منطقة تقع في أعماق البحار إذا كانت لم تكتشف من الأصل؟
تؤوي الشعاب المرجانية في المياه الباردة قبالة جزيرة روكول مجموعة كبيرة من الأسماك
وتقول هيوفين إن أهمية مستعمرات المرجان تكمن في أنها توفر بيئة مثالية لتعيش فيها الكائنات البحرية الصغيرة، إذ توجد بها شقوق وفجوات وثقوب عديدة قد تختبئ بها الحيوانات الصغيرة.
وأضافت هيوفين: "(إن مستعمرات المرجان)، تعد جزرًا صغيرة تزخر بالتنوع الحيوي"، وفي الواقع، قد تؤوي كتلة واحدة من الشعاب المرجانية في المياه الباردة ما يصل إلى ألف و300 نوع من الأنواع البحرية المختلفة.
كما تتجمع الأسماك في الشعاب المرجانية لتربية صغارها، وتقول هيوفين، واصفة إحدى الرحلات الاستكشافية: "لقد رأينا الشعاب المرجانية في المياه الباردة تزخر بالأسماك التي أتت خصيصًا لتضع بيضها".
ويعطينا المرجان لمحة عن الماضي. فمن خلال فحص الأجزاء الأقدم الموجودة أسفل التلال المرجانية، قد يتمكن العلماء من التعرف على الأوضاع التي كان عليها البحر عندما بدأ المرجان في النمو.
على سبيل المثال، تكوّنت تلال داروين منذ نحو 10 آلاف عام، أي في أعقاب العصر الجليدي الأخير، وهذا يعني أنها قد تدلنا على كيفية تغير البحر منذ ذاك الحين.
وتقول هيوفين: "كانت الكتل المائية ودرجات الحرارة والانتاجية الأولية (تحويل الطاقة إلى مواد عضوية) على السطح في العصر الجليدي مختلفة تمامًا عما هي عليه اليوم. ولم تظهر الشعاب المرجانية في هذه المنطقة إلا عندما بدأت درجة حرارة الأرض ترتفع مرة أخرى".
وينتشر مرجان المياه الباردة في المياه الممتدة من النرويج إلى شمال أفريقيا، ولكن نظرًا لوجودها في أعماق البحار، فقد تمضي سنوات عديدة دون أن يعلم أحد بوجودها.
ربما كان الصيادون على علم بوجود الشعاب المرجانية في أعماق المياه الإقليمية للمملكة المتحدة منذ بدايات القرن الثامن عشر. ولكن حجم هذه الشعاب المرجانية في البحار المحيطة بالمملكة المتحدة ظل مجهولًا لعقود.
المرجان الأسود على جبل أنتون دورن البحري
ثم في عام 1998، قاد بريان بيت، بالمركز الوطني لعلم المحيطات، مسحًا بيئيًا واسع النطاق. ويسترجع بيت قائلًا: "تلقيت رسالة عن طريق الفاكس مكتوبة بخط اليد، جاء فيها 'يوجد في هذه المنطقة شيء سيثير اهتمامك'".
وبعد أن حصل على المعلومات الكافية، أنزل بيت كاميرا في الأعماق أسفل المنطقة التي رست فيها السفينة.
ومن ثم اكتشف تلال داروين، أكبر تشكيل للشعاب المرجانية في المياه الباردة في المملكة المتحدة، حيث ينتشر المرجان على مساحة 100 كيلومتر مربع. وينتمي هذا المرجان إلى فصيلة مرجان المياه الباردة الذي ينمو في أعماق البحار ويسمى لوفيليا، وهو النوع الرئيسي الذي يهيمن على المياه الإقليمية البريطانية ويشكل الشعاب المرجانية.
وبعد عامين، عاد بيت إلى المكان نفسه لإجراء مسح أكثر توسعًا، ولكنه فوجيء بالضرر الذي لحق بأجزاء كبيرة من الشعاب المرجانية هناك، وكانت الأدلة تشير إلى مراكب الصيد التي تجر الشباك في أعماق البحار. إذ وجدوا شقوقا طولية في قاع البحر خلفتها تلك الشباك.
واستعانت الحكومة البريطانية، متمثلة في جمعية حماية الطبيعة، بالأدلة التي جمعها علماء المركز الوطني لعلم المحيطات، لوضع التدابير اللازمة لكي يصبح هذا الموقع محمية بحرية.
لكن بيت كان يعلم أنه يجب فرض حظر على الصيد في أعماق البحار، ويقول: "ما فائدة وجود منطقة محمية من دون فرض حظر على الصيد في الأعماق؟". وقد استغرق تنفيذ هذا الحظر ما يزيد عن ثلاث سنوات.
ثم عاد بيت وهيوفين وزملاؤهما إلى الموقع مرة أخرى سنة 2011، لمعاينة مدى تعافي المرجان من آثار الضرر، ثم نشروا نتائج المعاينة في دورية "بيولوجيكال كونزرفيشن" في أغسطس/ آب 2016.
لكن مع الأسف، على مدار عقد من الزمن، لم تتعاف الأجزاء التي أتلفتها شباك الصيد على الإطلاق، ويقول بيت: "لم نجد أي علامة تدل على أن المرجان ينمو من جديد أو يكوّن مستعمرات مرة أخرى".
في الأمام يظهر المرجان الأسود، وفي الخلفية مستعمرات صغيرة من مرجان المياه الباردة والإسفنج.
إذ ينمو المرجان الذي يعيش في المياه العميقة ببطء شديد، حتى إنه قد يحتاج مئات الأعوام ليبني الشعاب مجددًا. ولهذا يشار إلى الشعاب المرجانية بأنها "نظام بيئي بحري عرضة للخطر".
ولحسن الحظ أن المناطق التي لم تتأثر بشباك الجر ظلت سليمة وكانت تعج بأشكال الحياة. ويقول بيت: "والجانب المشرق من الأمر أننا لم نجد آثار انتهاكات كثيرة في المنطقة المحمية، فلم نجد إلا علامة أو علامتين حديثتين خلفتهما شباك الجر، ولكنها محدودة للغاية".
وأردف قائلًا: "إجمالًا، يلتزم الصيادون بالتدابير المفروضة على المنطقة المحمية".
وتقول هيوفين إن هذا يدل على أن حماية المناطق البحرية تؤتي ثمارها. وتنادي هيوفين بإعمال ما يعرف بـ"المبدأ الاحترازي" عند التعامل مع الصيد في أعماق البحار في المستقبل.
وتقول: "يجدر بك ألا تبدأ بإلقاء شباك الجر أو الإضرار بقاع البحر إلا بعد أن تجري تقييمًا كاملًا لنشاطك في البحر، ما لم تثبت بالدليل أن هذا النشاط لن يسبب أي أذى".
وأردفت: "إذا أردت أن تقضي إجازة في الغابات مثلًا، يجب أن تحصل على تصريح مسبق. وهذا يجب أن ينطبق على المحيط أيضًا."
كما تدرس حكومة المملكة المتحدة تخصيص عدد أكبر من المناطق التي تتطلب الحماية. وتقول هيوفين إن هذه الاجراءات ستحتاج وقتًا طويلًا في حين أن العالم يتحرك سريعًا.
ولأن الشعاب المرجانية تؤوي الكثير من الأسماك، فتمثل المياه المحيطة بها أهدافًا مثالية للصيد. ولهذا ينادي دعاة حماية البيئة بوضع تدابير لحماية المرجان بكافة أنواعه، وحماية المياه التي لم تستكشف بعد، لما قد تضمه من تنوع حيوي وما تحويه من أسرار.
يقول أندرو ديفيز، بجامعة بانغور في ويلز، مازال مرجان المياه العميقة في المملكة المتحدة "في حالة جيدة نسبيًا"، بفضل الحماية التي يحظى بها.
ولكن ذلك قد يتغير بسبب آثار تغير المناخ، ولا سيما زيادة حموضة مياه المحيطات وارتفاع درجة الحرارة على الكرة الأرضية. وأضاف ديفيز: "لا أعتقد أننا بإمكاننا أن ننقذ الشعاب المرجانية الموجودة في المحيطات، بل ستكون هناك بعض المناطق من المحيطات أقل تأثرًا بالتغير المناخي من غيرها".
مرجان سليم في الجزء الغربي من تلال داروين
وقد كشفت دراسة عن أن المرجان الذي يعيش في المياه الباردة شمال المحيط الأطلنطي يمكنه أن "يتأقلم مع ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في المياه"، حسبما جاء في الدراسة، ولكن نفس الدراسة أوضحت أن ثاني أكسيد الكربون قد يضعف المرجان.
ولكن المشكلة أننا لن نتمكن من فهم التحديات التي يواجهها المرجان لصعوبة فحص ودراسة كل المرجان في المحيط. إذ تتطلب زيارة كل المواقع، المعلومة والمجهولة، الكثير من الوقت والمال.
وتحت قيادة كيري هاويل من جامعة بليموث، انطلق الباحثون في رحلة استكشافية في أغسطس/ آب 2016، لاستكتشاف كيفية حدوث اتصال بين المرجان الذي يعيش في تجمعات مختلفة في شمال شرق المحيط الأطلنطي.
وتقول هاويل: "وجدنا الكثير من الشعاب المرجانية الجديدة، والبعض منها كان رائع المنظر". وقد تأكدت هاويل من أن هناك الكثير منها لم يكتشف بعد. ويمكن الاستدلال بالنماذج على أماكن وجود الشعاب المرجانية.
وقد احتفظت هذه الشعاب المرجانية بجمالها وتنوعها الحيوي إلى حد كبير، لأنها تقع في مناطق محمية. فإذا طبقت نفس معايير الحماية على مناطق أخرى من المحيط الأطلنطي، سيصمد مرجان المياه الباردة أمام الضغوط العديدة التي يواجهها، ومن ثم قد يبقى لآلاف السنين.