نظرات ابن المقفع
عبد الرحمن شكري
مجلة المقتطف
سبتمبر ١٩٥١
لا يُوقعنَّك بلاء خلصت منه في آخر لعلَّك لا تخلص منه، وقد يخلص الناس من بلاء بوسائل توقعهم في بلاءٍ آخر، ويوهمون أنفسهم أنهم ربما وجدوا خلاصًا سهلًا من هذا البلاء الآخر متى شاءوا بعد اتخاذه وسيلة للخلاص من البلاء الأول، وأقرب مثل لذلك الكاذب الذي يَخلص من بلاءٍ بكذبةٍ موبقةٍ وادِّعاءٍ يُوقعانه في مؤاخذة لو عُرف بطلان كذبه وادعائه، أو مثل الذي يتجنَّى على آخر، ثم يحاول أن يَخلص من عاقبة تجنِّيه بجناية أخرى.
لو أن رجلًا كان عالمًا بطريق مَخُوف ثم سلكه على علم به سمي جاهلًا، ولعله إن حاسب نفسه وجدها قد ركبت أهواء هجمت بها فيما هو أعرف بضررها فيه وأذاها من ذلك السالك الطريق المخوف، ومَن ركِب هواه ورفَض ما ينبغي أن يعمل بما جرَّبه هو أو أعلمه به غيره، كان كالمريض العالم برديء الطعام والشراب وجيده وخفيفه وثقيله، ثم يحمله الشَّرهُ على أكل رديئه، وترْك ما هو أقرب إلى النجاة والتَّخلُّص من عِلَّته، وأقلُّ الناس عذرًا في اجتناب محمود أفعال وارتكاب مذمومها مَن أبصر ذلك وميَّزه، وعرف فضل بعضه على بعضه، كما أنه لو أن رجلين أحدهما بصير والآخر أعمى ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، كانا إذا صارا في قاعها بمنزلةٍ واحدة، غير أن البصير أقل عذرًا عند الناس من الضرير؛ إذ كانت للأول عينان يبصر بهما، وهذا بما صار إليه جاهل.
«وللفيلسوف سقراط رأي في موضوع الخير والشر؛ فهو يقول — كما روى أفلاطون عنه: إن المرء لا يرتكب الشر ويختاره وهو يعلم أنه شر، ولا يتجنب الخير وهو يعلم أنه خير. ولعله يعني أن الأهواء تغطي على بصيرته، فيصير علمه جهلًا، فتوهمه أن في عمل الشر خيرًا أكبر، وفي تجنُّب بعض الخير خيرًا أعظم. وهذا كما وصف المأمون به العلم، كما رواه الجاحظ في كتاب البيان والتبيين: العلم بَصَرٌ في خلافه العَمى، والاستبانة للشر ناهية عنه، والاستبانة للخير آمرة به.»
إن في الناس ناسًا كثيرًا يبلغ من أحدهم الغضب — إذا غضب — أن يحمله ذلك على الكلوح والتقطيب في وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يهم بعقوبته، وسوء المعاقبة باليد واللسان لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك، ثم يبلغ به الرضا — إذا رضي — أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن أعطاه، ويكرم من لا حق له ولا مودة، فاحذرْ هذا الباب كله؛ فإنه ليس أسوأ حالًا من أهل القدرة الذين يفرطون باقتدارهم في غضبهم وسرعة رضاهم، فإنه لو وُصِف بصفة مَن يتلبَّس بعقله ويتخبَّطه المسَّ مَن يُعاقب في غير من أغضبه، ويحبو عند رضاه غير من أرضاه؛ لكان جائزًا في صفته. «وهذا يُذكِّرنا الأمراء الذين كانوا يُعاقِبون بالقتل رُسلَهم الذين يبلغونهم خبرًا سيئًا؛ كفرعون في قصة ثيوفيل جوتييه، كما يذكرنا أيضًا دانتريو الشاعر الإيطالي، الذي كان يَمنَح مَن خدَمه ومَن لم يخدمه من خَدَم النُّزل والمطعم مالًا كثيرًا لا تسمو إليه همَّتهم؛ خشية احتقارهم إياه؛ لأنه كان به الشعور بالنقص.»
اعلَمْ أن بعض شدة الحذر عونٌ عليك فيما تحذر، وأن شدة الاتقاء قد تدعو إليك ما تتقي، «وتولع بك ما تخالف ممن تخاف؛ لأن الإفراط في الحذر قد يؤدي إلى الحيرة والارتباك والقلق والتخلُّق بمظاهر الريبة، والمريب مُتَّهم، والريبة تجذب عداوة الناس إلى صاحبها كما يجذب المغناطيس الحديد.»
قارب عدوك بعض المقاربة تنلْ حاجتك، ولا تُقاربه كل المقاربة فيجترئ عليك عدوك، وتذل نفسك، ويرغب عنك ناصرك، ومثل ذلك مثل العود المنصوب في الشمس إن أَمَلْتَه قليلًا زاد ظلُّه، وإن جاوزت الحد في إمالته نقص الظل.
«وفي التذلل للعدو يقول إبراهيم بن العباس — صاحب المقطعات الجامعة:
يصبح أعداؤه على ثقة
منه وخلانه على وجل
تذلُّلًا للعدو عن ضِعَة
وصَولة بالصديق عن دخل
إياك أن يكون من شأنك حب المدح والتزكية، وأن يعرف الناس ذلك منك فيكون ثلمة من الثلم يتقحمون عليك منها، وبابًا يفتتحونك منه، وعيبة يغتابونك بها ويضحكون منها.
واعلم أن قابل المدح كمادح نفسه، والمرء جدير أن يكون حبه المدح هو الذي يحمله على رده، فإن الراد له محمود، والقابل له معيب. «أين هذا الأدب من هراء سجع الكهان في القول المنسوب إليه: شربت الخطب ريًّا، ولم أضبط لها رويًّا، ففاضت ثم فاضت، فلا هي نظامًا، وليس غيرها من الكلام.»
أمور لا تصلح إلا بقرائنها: لا ينفع العقل بغير ورع، ولا الحفظ بغير عقل، ولا شدة البطش بغير شدة القلب، ولا الجمال بغير حلاوة، ولا الحسب بغير أدب، ولا السرور بغير أمن، ولا الغنى بغير جود، ولا المروءة بغير تواضُع، ولا الخفض — أي اليسر — بغير كفاية، ولا الاجتهاد بغير توفيق، «وإلا أدَّى العقل إلى الفساد، والحفظ إلى الخطأ، والبطش إلى الانكشاف والانخذال، وكان الجمال سمجًا، وكان ما تحت الحسب دناءة وشراسة، ووراء السرور همًّا وقلقًا، وكان الغنى بطرًا ولؤمًا، والمروءة منًّا، والخفض عسرًا لا يغني، والاجتهاد عناء وخيبة.»
إن صحبة الأشرار ربما أورثت صاحبها سوء الظن بالأخيار، وحملته تجربته في صحبتهم على الخطأ — وأقل ما يكون من ذلك أن الأخيار إذا عاملوه بالكرم والخير واللين حسب كل ذلك منهم فخًّا وشركًا يريدون أن يوقعوه فيه — وقد يُغالي فيحسب كل بريء متهمًا حتى تظهر براءته، بدل أن يحسب كل متهم بريئًا حتى تظهر إدانته، وبطبيعة عملهم ومقابلتهم للأشرار، يميل رجال الشرطة ومن شابههم إلى سوء الظن بالناس.
إذا أردت السلامة فأشعِرْ قلبك الهيبة للأمور من غير أن تظهر منك الهيبة، فيفطن الناس لهيبتك، ويجرئهم عليك ظهورها يدعو إليك منهم كل ما تهاب؛ فاشحذ طائفة من رأيك لمداراة ذلك من كتمان المهابة، وإظهار الجرأة والتهاون، وعليك بالحذر في أمرك، والجرأة في قلبك، حتى تملأ قلبك جرأةً، ويستفرغ الحذر عملك. «وإنما يريد بالهيبة ذلك الحذر الذي يصون عمله من الخطأ.»
ليجتمع في قلبك الافتقار إلى الناس والاستغناء عنهم، فيكون افتقارك إليهم في لين كلمتك، وحسن بِشْرك، ويكون استغناؤك عنهم في نزاهة عرضك، وبقاء عزِّك: «وليس لين الكلمة وحسن البشر نقصًا ومذلة كما يعدهما ذو النقص، قال المأمون — كما روى الثعالبي: ما تكبَّر أحد إلا لنقص وجَده في نفسه، ولا تطاوَل إلَّا لوهنٍ أحسَّه منها.»
إذا نابت أخاك نائبة من النوائب، من زوال نعمة، أو نزول بلية، فاعلم أنك قد ابتليت معه إما بالمؤاساة فتشاركه في البلية، وإما بالخذلان فتحتمل العار، فالتمس المخرج عند اشتباه ذلك، وآثر مروءتك على ما سواها، فإن نزلت الجائحة التي تأبى نفسك مشاركة أخيك فيها فأجملْ — أي في معاملته وعنده ذكره ولقياه — فلعل الإجمال يَسَعُكَ لقِلَّته في الناس؛ «إذ إن أكثرهم ينقلب فيصير عدوًا كي لا يقال إنه خذل صديقًا.»
اعرف عورتك، وإياك أن تُعَرِّض بأحد فيما شاركها، واعلم أن الناس يخدعون أنفسهم بالتعريض والتوقيع بالرجال في التماس مثالبهم ومساويهم ونقيصتهم، وكل ذلك أبين عند سماعه من وضح الصبح، فلا تكونن من ذلك في غرور، ولا تجعلن نفسك من أهله.
من الدليل على سخافة المتكلم أن يكون ما يُرى مِن ضَحِكه ليس على حسب ما عنده من القول، أو الرجل يُكلِّم صاحبه فيجاذبه الكلام ليكون هو المتكلم، أو يتمنَّى أن يكون صاحبه قد فرغ وأنصت، فإذا أنصت لم يُحسِن الكلام.
وقِّر مَن فوقك ومَن دونك، وأحسن مؤاتاتك الأكفاء، وليكن آثر ذلك عندك مؤاتاة الإخوان، فإن ذلك هو الذي يشهد لك بأن إجلالك من فوقك ليس بخنوع لهم، وإن لينك لمن دونك ليس لالتماس خدمتهم.
إن أمور الدنيا ليس شيء منها بثقة، وليس شيء من أمرها يدركه الحازم إلا قد يدركه العاجز، بل ربما أعيا الحَزَمَة ما أمكن العَجَزة، فإذا أشار عليك صاحبك برأي فلم تجد عاقبته على ما كنت تأمُل؛ فلا تجعل ذلك عليه لومًا وعذلًا، تقول: أنت فعلت هذا بي، وأنت أمرتني، ولولا أنت، ولا جرم لا أطيعك؛ فإن هذا كله ضجر ولؤم وخفة، وإن كنت أنت المشير فعَمِل برأيكَ أو ترَكَ، فبَدَا صوابُك؛ فلا تَمْتَنَّ ولا تُكْثِرَنَّ ذكره، ولا تَلُمْ عليه إن كان استبان في ترْكِ نُصْحك ضررًا، تقول: ألم أقل لك؟ ألم أفعل؟ فإن هذا مجانب لأدب الحكماء.
العُجب آفة العقل، واللجاج عقيد الهوى، والبخل لقاح الحرص، والمراء فساد اللسان، والحمية سبب الجهل، والأَنَفُ توءم السَّفه، والمنافسة أخت العداوة؛ «فالمعجب بنفسه يُزين له عُجبه الخطأ فلا يراه خطأً، والكثيرُ اللجاج كثيرُ العناد في الدفاع عن هواه، والبخل يربيه الحرصُ ويُنميه، حتى يستفحل ويَحرم نفسه وغيره مما وهبه الله، والمراء يستدرج إلى بذاءة اللسان، والحمية إذا استشرت كانت من دلالات الحمق، والأنَفُ من التَّسهُّل في معاشرة الناس يؤدي إلى السَّفه، والمنافسة في حطام الدنيا كثيرًا ما تؤدي إلى العداوة بين الآحاد والأمم.»