كان صلاح الدين حريصًا على العلم، شديد الرغبة في سماع الحديث، يذكر كاتب سيرته القاضي العلامة بهاء الدين بن شدَّاد في كتابه "النوادر السلطانية":
كان متى سمع عن شيخٍ ذي رواية عالية وسماعٍ كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع منه، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له، وكان يوقِّر العلماء، ويحفظ لهم مكانتهم دائمًا[1].
وقد يظنُّ الكثير من الناس أن صلاح الدين شغلته أعمال الجهاد عن الانصراف إلى شئون الدولة الأخرى الحضارية، ولعلَّ صورة الفارس المحارب صلاح الدين قد طغت على الجوانب الأخرى من شخصيته، فأخفت بعضًا من ملامحها المشرقة، وقسماتها المضيئة.وأولُ عملٍ يلقانا من أعمال صلاح الدين هو دعمه للمذهب السني؛ بإنشائه مدرستين لتدريس فقه أهل السنة، هما المدرسة الناصرية[2] لتدريس الفقه الشافعي، والمدرسة القمحية لتدريس الفقه المالكي، وسُمِّيَت بذلك؛ لأنها كانت توزع على أساتذتها ومعيديها وتلاميذها قمحًا، كانت تُغِلُّه من أرض موقوفة عليها، وفي الوقت نفسه قصر تولي مناصب القضاء على أصحاب المذهب الشافعي، فكان ذلك سببًا في انتشار المذهب في مصر وما يتبعها من أقاليم.
وقد برز في عصر صلاح الدين عدد من الشخصيات العلمية والفكرية، مثل القاضي الفاضل المتوفَّى سنة 596 رئيس ديوان الإنشاء وصاحب القلم البديع في الكتابة[3]، وكان صلاح الدين يستشيره في أدق أمور الحرب والسياسة، والعماد الأصفهاني المتوفَّى سنة 597 هـ، صاحب المؤلَّفات المعروفة في الأدب والتاريخ[4]، الذي نجح مع القاضي الفاضل في تطوير ديوان الإنشاء في مصر، وهذا الديوان يشبه في وظيفته وزارة الخارجية.
وقد كان من مظاهر اهتمام صلاح الدين بالعلم؛ تدبير أمور الدولة على أساسٍ إداريٍّ علميٍّ؛ فقد استقرَّت النظم الإدارية؛ فكان السلطان يرأس الحكومة المركزية في العاصمة، يليه نائب السلطان؛ وهو المنصب الذي استحدثه صلاح الدين لينوب عنه في أثناء غيابه يليه الوزير، وكان يقوم بتنفيذ سياسات الدولة، ويلي ذلك الدواوين، مثل: (ديوان النظر) الذي يشرف على الشئون المالية، و(ديوان الإنشاء) ويختص بالمراسلات والأعمال الكتابية، و(ديوان الجيش) ويختص بالإشراف على شئون الجيش، و(ديوان الأسطول) الذي عُنِيَ به صلاح الدين عنايةً فائقةً لمواجهة الصليبيين الذين كانوا يستخدمون البحر في هجومهم على البلاد الإسلامية، وأفرد له ميزانية خاصة، وعهد به إلى أخيه العادل، وقد اشترك الأسطول في عدة معارك بحرية في سواحل مصر والشام، منها صدُّه لحملة أرناط على مكة والمدينة[5].
وعُني صلاح الدين بالمؤسسات الاجتماعية التي تعين الناس وتخفف عنهم بعض عناء الحياة؛ فألغى الضرائب التي كانت تفرض على الحجاج الذين يمرون بمصر، وتعهد بالإنفاق على الفقراء والغرباء الذين يلجأون إلى المساجد، وجعل من مسجد (أحمد بن طولون) مأوى للغرباء من المغاربة.
كذلك لم يهمل صلاح الدين جانب العلوم الحياتية، إذ نراه اهتمَّ اهتمامًا بالغًا بالعلماء، والأطباء، وأقام عددًا من المستشفيات التي جلب لها الأطباء المتخصصين في شتى التخصصات، ومن أهم هذه المستشفيات (المارستان) [6] الذي أمر ببنائه في القاهرة، وهو بناء ضخم متَّسع، وضع عليه صلاح الدين مشرفين من ذوي العلم والدراية، ووضع لديهم خزائن الأدوية، وكان هذا المستشفى مزودا بأَسِرَّة كبيرة ومجهزا لاستقبال المرضى.
و مما يُؤثَر عن صلاح الدين أنه كان يحب العلم، ويشجع العلماء، ولا يضن بمال أو جهد في سبيل إنعاش الحركة العلمية في البلاد، فأنشأ كثيرًا من المدارس، وقرَّب العلماء والكتاب والراسخين في العلم وفنون الثقافة المختلفة منه.
وكان نظام الكتاتيب موجودًا في عهد صلاح الدين، فكان الصبي إذا شَبَّ عن الطوق التحق بهذه الكتاتيب ليتعلَّم القرآن، ويحفظ طرفًا من الحديث، ثم أصول الحساب، واللغة، وهكذا حتى يبرع في علم من العلوم، وإذا شبَّ الغلام وترعرع وأراد أن يستزيد من العلم رحل إلى مواطن العلم في مصر والشام وبغداد ومكة، ليتقن علوم دينه وحياته[7].
هذا وقد قامت المدارس المختلفة في مصر والشام بدور كبير في تعليم المذاهب الفقهية على أوسع نطاق، وذلك إلى جانب المدارس التي أُنشِئَت في القدس عقب استردادها عام 583هـ، وقد بنى صلاح الدين عام 572هـ أول مدرسة للحنفية عُرِفَت باسم (المدرسة السيوفية) (بجوار سوق السيوفيين)، وبلغ من عناية صلاح الدين بهذه المدرسة أن أوقف عليها اثنين وثلاثين دكانًا، ولم يضنَّ بمال على الأساتذة الذين يقومون بالتدريس فيها، وبقيت هذه المدرسة قائمة يشع منها نور العلم حتى وضعت الحرب الصليبية أوزارها[8].
كما أنشأ صلاح الدين المدرسة الصالحية، وجعلها للمذهب الشافعي، وكان يهتم بشئون هذه المدرسة اهتمامًا بالغًا، فأوصى أن تكون عظيمة البناء فسيحة الأرجاء، ووقف لها حمامًا بجوارها وحوانيت شتى، حتى يشجع الطلاب على تلقي العلم[9].
أما مدرسة القدس، فقد بناها صلاح الدين عقب استرداد بيت المقدس عام 583هـ، وكلَّف القاضي العلاّمة بهاء الدين بن شدَّاد بالتدريس فيها، فكثرت وفود طالبي العلم إلى بيت المقدس، كما أمر صلاح الدين بتنظيم العمل في شتى المدارس التي أنشأها على اختلاف تخصصاتها في أمور العلم والدين، فكان القائمون بالتدريس ينقسمون إلى فريقين:
الفريق الأول: فريق المدرسين، وهم الأساتذة المتبحرون في العلم.
والفريق الثاني: فريق المعيدين، وهؤلاء يقومون بإعادة ما يلقيه المدرسون على الطلاب، ويشرحون لهم ما استغلق عليهم فهمه.. وكان (المعيد) لا يبخل بوقته في سبيل شرح المادة العلمية، وتيسيرها على الطلاب[10].
ويتضح من مناهج المدارس التي أسسها صلاح الدين أنه كان يقتفي آثار معلمه نور الدين محمود في التعمير من جهة، ونشر العلم من جهة أخرى، مع التركيز على تعليم المذهب السني.
وكان من اهتمامهم بالعلم اهتمامهم بنشر وسائل العلم المختلفة، ولذا راجت لديهم سوق الكتب، وكان في مصر سوق كبير لها في الجانب الشرقي من جامع (عمرو بن العاص)، وأسواق أخرى عديدة، تضم أنفس الكتب وأقيم الذخائر، كما كان يوجد بدمشق سوق كبير للكتب[11].
واهتم اهتمامًا بالغًا بإصلاح جوانب العقيدة، وتعليم المسلمين عقيدتهم الصحيحة، يقول عنه القاضي بهاء الدين: "وكان كثير التعظيم لشعائر الدين، ومبغضًا للفلاسفة والمعَطِّلة، ومن يعاند الشريعة[12] (أي مذهب أهل السنة والجماعة)، فحارب إبّان وزارته لمصر كل عقائد الشيعة التي كان (الفاطميون) ينشرونها، وقد استطاع أن يستأصل - بفضل الله وتوفيقه - جذور هذا المذهب، ولما فتح المدارس المتبعة لمذهب أهل السنة والجماعة (كالمدرسة الكاملية) و(المدرسة الناصرية) أمر جميع طبقات الشعب أن يلتحقوا بهذه المدارس، ليدرسوا الدين الصحيح، ويتلقوا عقيدة أهل السنة والجماعة.
وهكذا ظهر لنا صلاح الدين الأيوبي خير مثال للخليفة العالم المجاهد القدوة، التي يجب أن تُحتذى في شتى جوانب حياته،لم يمنعه تصديه لجهاد الصليبيين، وانشغاله بتوحيد أقطار العالم الإسلامي من محاربة الأعداء الداخليين، والسعي الحثيث لنشر العلم والعقيدة الصحيحة، ولم يتوقف عند ذلك، بل سعى لنشر العلم الحياتي، وتوفيره للمسلمين، حتى تنهض الأمة الإسلامية، تلك الأمة التي كانت ـ بعد كل تلك الجهود ـ قادرة على دحر الصليبيين، وتحرير المسجد الأقصى.
وهكذا - بالعلم والجهاد وتصحيح العقيدة - يمكن للأمـة أن تقوم، وتنهض، وتستعيد مجدها الغابر.
[1] بهاء الدين بن شداد: النوادر السلطانية (1/130).
[2] الدارس في تاريخ المدارس 1/195، وابن كثير: البداية والنهاية 14/104.
[3] واسمه عبد الرحيم بن علي البيساني، انظر ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/235، والسلوك لمعرفة دول الملوك (1/25).
[4] ذكر القنوجي: بلغ الرفعة عند نور الدين محمود بن أتابك زنكي والسلطان صلاح الدين، وتقلَّبت به الأحوال إلى أن عظُمَ أمرُه، وصنَّف التصانيف النافعة منها كتاب خريدة القصر وفريدة العصر، جعله ذيلاً على: زينة الدهر للخطيري وجعله في عشر مجلدات، وله: كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات في التاريخ، وكتاب الفتح البستي في فتح القدسي (انظر أبجد العلوم 674).
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 5/ 169.
[6] السلوك في معرفة دول الملوك 1/12.
[7] عبد الله ناصح علوان: صلاح الدين محرر فلسطين 101.
[8] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 2/ 321.
[9] السابق 440.
[10] صلاح الدين محرر القدس: عبد الله ناصح علوان 115، وما بعدها.
[11] المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 3/ 356.
[12] ابن شداد: النوادر السلطانية 37.
د. راغب السرجاني