وأنت تقرأ حياة جبران خليل جبران بقلم ميخائيل نعيمة، تكتشف أن معاناة الأدباء في العالم العربي ما زالت هي ذاتها منذ ما يزيد على المائة عام؛ ينتجون الفكر والأدب لقوم لا يقرأون.
“هنا يرقد نبينا جبران”
هي العبارة الاولى التي كتبها اللبنانيون على قبر جبران خليل جبران،والتي تبدلت قبل صيف 1932 إلى “هنا يرقد بيننا جبران”.
غالبية الناس تخشى ومن قبيل الورع الديني أن تكتب على قبره “نبينا”، لكن على الأدباء والفنانين العرب تحديدا تبني هذه الصفة، ما دامت أمتهم تحتقر الفن والأدب العربي، وتعتبر أن المبلغ الزهيد خسارة في ثمن كتاب أو لوحة.
منذ ما يزيد على المائة عام عاش جبران خليل جبران ضنك العيش دون أن يتمكن فنه وأدبه من يغنيه، لأنه لا يتقن الا الكتابة بالعربية والعرب عادة لا يتقبلون فكرة اقتناء الكتب ولا يداومون على قراءتها، بالتالي كان عليه ان يتقن الرسم للغرب أو الكتابة للغرب لكي يعلو شأنه.
منذ ما يزيد على المائة عام والأدباء كلهم جبران، والمجتمع العربي غير المكترث بالقراءة والحضارة هو هو، ليصبح جبران أيقونة كل الأدباء في العالم العربي غير القادرين على الاستغناء عن أي عمل آخر بالكتابة لتطوير أدواتهم الكتابية. وبذلك يكون جبران وكأنه “نبينا” الذي صلبه جهل أمته العربية على صليب ضيق الحال.
القسوة في بلاد الأحلام
كان يرغب “الأخ الأكبر لجبران” بطرس عندما سافر إلى أمريكا “بلاد الأحلام” برفقة والدته وأخيه الصغير وشقيقتيه أن يعبد دربهم الصعب بالمنجزات السهلة، لكن ذلك كان مستعصيا، فلم يتمكنوا إلا من العيش في حي فقير بوسطن، ولعل الأيام الأكثر نعيما على جبران كانت في حياة أخيه بطرس وأمه، اللذان خطفهما الموت في وقت مبكر بعد وفاة شقيقته الصغرى بمرض السل، ليجد أن عليه أن يعمل لأجل شقيقته مريانا، التي اعتمدت على نفسها بخيوطها وما تعلمته من فنون الحياكة، مانحة إياه فرصة تطوير فنه وقلمه، ليبدأ جبران رحلة طويلة، فيها من التناقضات ما فيها، فرغم أن مؤلفاته نالت شهرة في الشرق، إلا أنها لم تغنيه، ليعيش حياة الفقر والحاجة، متطلعا لاكمال الفنون الجميلة في باريس عبر مساعدة ماري هاسكل له، عله يستمد الأمن المالي – رغم محبته لفن الرسم – من الرسم.
تعالي كلمات جبران على الناس
وانطلاقا مما سبق فقد حفلت كلمات جبران في فترة فقره وحاجته وعدم تقديره بكلمات تفيض تعاليا ورفضا للناس، كلماته التي توقف عندها ميخائيل في كتابه الذي تناول حياة جبران ” هكذا كان جبران يصفع الناس بيد ويصافحهم بالأخرى. يثور عليهم عندما يثوب إلى روحه المتألم من كل شناعة وقساوة وظلم. ويسالمهم عندما تثور عليه نفسه الطماحة إلى “المجد والعظمة” والمتوجعة من قبضة الفاقة الماسكة بخناقها. يحفر لهم قبورا في الليل. وفي النهار، عندما تلحدهم الأقدار في قبور غير التي حفرها لهم، يهنف بقلب دامع (مات أهلي وأنا قيد الحياة أندب أهلي في وحدتي وانفرادي). وهكذا انقسمت نفسه على نفسه، وانساق جبران (المتمرد) على الناس إلى جبران المتعطش إلى التفاتهم وعطفهم ومالهم ومجدهم وعظمتهم”.
وإن الكلمات السابقة التي وإن ضمت بعض النقد لجبران، إلا أنها خرجت من قلب رجل محب لجبران، ورفيقه الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، وإنها تصور حقيقة كان لا بد أن نعرفها عن جبران، لنضعها في سياق حياته، ولنعود إلى الفكرة التي بدأنا فيها المقال، فهو نبي الأدباء في عالم لا يحترم الأدب، ولا يتغذى إلا على الطعام والثياب والمظاهر الفارغة.