ما بين الجديد والقديم، مجدداً، تضيع بوصلة "الجيل الصاعد" الذي اختار أن يكون جيلاً للــ (I-phone) والـ (I-pad)، وترجح كفة الجيل الصاعد في الخمسينات والستينات. فما بين جيل يؤمن بالعمل وجيل يؤمن بالمال، وما بين جيل يؤمن بالثورة الاشتراكية وجيل يؤمن بالحرية الليبرالية، وما بين جيل ينظر للمرأة بابتذال وبين جيل نظر إليها بكينونتها، يبرز التناقض الأوسع، ويبقى الجيل الصاعد، جيل الخمسينات والستينات.
سأبدأ مقالي هذا على غير العادة بذكر الموقف الذي دفعني لكتابة هذا المقال، مشهد يجمع مجموعة من الشباب في أحد مقاهي عمّان، تجتمع بهم فتاة في مقتبل العمر، لم تنهي تعليمها الجامعي بعد، لتروي لهم قصة نجاحها في جمع المال، مقابل بيع “منتج وهمي”، عبر طريقة الشجرة!
وقد برعت تلك الفتاة في زرع فكرة الـ (Business) في عقول من اجتمعت بهم، وروت لهم الكثير من “قصص النجاح” التي رأتها بأم عينها، فكلما نجحت في جلب المزيد من الأفراد لشراء المنتج الوهمي، كلما ازدادت أرباحك وعمولاتك من الشركة الوهمية التي تبيع ذلك المنتج الوهمي، “هيّا بنا .. لنصبح جميعاً من أصحاب الملايين دون أي جهد يذكر”!
طرحت تلك الفتاة اسم رجل الأعمال الأمريكي المشهور “دونالد ترمب” خلال حديثها كأحد أهم الأسماء في عالم الـ (Business). وذهبت إلى إقناعه بأن هذه الوسيلة هي وسيلة بسيطة ولا تحتاج سوى إلى قدرة في الإقناع والقليل من “النجاح” على المستوى الشخصي والتمتع بمهارات التواصل والاتصال لجلب المزيد من المشترين للمنتج الوهمي “مساق تعليمي” أو (Course) عبر الإنترنت، علماً بأنها لم تتحدث عن ذلك المنتج بقدر ما تحدثت عن ضرورة جلب المزيد من المشترين للمنتج.
“لم أنهي مسيرتي الجامعية بعد، ومع ذلك فإن وضعي المالي أفضل من الوضع المالي لإخوتي، مع أن أحدهم يعمل مهندساً والآخر طيّاراً”، “سأعمل على تدريبكم على فن البيع عقب قيامكم بجلب أول المشترين للمنتج”، “لن تخسروا شيئاً، ستشترون منتجاً مفيداً وتجنون أرباحاً طائلة”، “لدينا فريق عمل في القدس أيضاً”، “النجاح الحقيقي هو أن تصبح مليونيراً، من منّا لا يرغب في ذلك؟ سنحقق أحلامنا بالتأكيد عندما نصبح من أصحاب الملايين”، تلك الجمل هي التي استخدمتها الفتاة، والتي توضح أوضاع “الجيل الضائع”، إذا ما قورن بالـ “الجيل الصاعد”.
مشروع مليونير!
“لقد نشأنا ونحن نشاهد شاشة التلفاز مؤمنين بأننا سنصبح في أحد الأيام من أصحاب الملايين، أو ممثلين ناجحين، أو نجوماً في عالم الغناء، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً! قد عرفنا بأن ذلك ليس صحيحاً ببطء، ونحن بالتأكيد ممتعضون جداً جداً” – فيلم نادي القتال (Fight Club).
لقد ارتبط مفهوم النجاح وفقاً لما روّجت له الإمبريالية العالمية بفكرة أن تصبح مليونيراً، وزرعت تلك المنظومة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية في عقول أبناء الأمم الأخرى فكرة أن “تبدأ ببيع الذرة عبر عربة صغيرة لتنتهي بأن تصبح صاحب أكبر سلسلة مطاعم في العالم”! بل ونجحت في جعل كل شاب أو شابة من أبناء الطبقة الوسطى مشروع مليونير، وكرّست كافة طاقاتها في سبيل ذلك بكل تأكيد، وذلك لنشر وهم “الاقتصاد الحر”، الذي يمنحك حرية مطلقة في تكوين ثروة مالية طائلة تمكنك من تحقيق أحلامك!
ووفق سياسة “الإضاءة والتعتيم” التي تحدثنا عنها في مقال “12 عاماً من العبودية .. محاولة لتطبيع العبودية“، سلط الذراع الثقافي للمنظومة الإمبريالية ممثلاً بهوليوود الضوء على “قصص النجاح” أو (Success Stories) لأفراد شكّلوا ثروات طائلة بداية بعمل بسيط، خالقةً بذلك ملايين الشباب الممتلئين بوهم أن يصبحوا من أصحاب الملايين في أحد الأيام!
الماكينة الإعلامية للإمبريالية تسلط الضوء على قصص النجاح تلك على الرغم من كونها لا تشكل 1 بالمئة من القصص التي تعيشها البشرية، لتجعل من جميع الشعوب عبيداً للوظائف التي يعملون بها، وعبيداً للأشياء التي أصبحت “حاجة” على الرغم من تفاهتها، فقد أصبح امتلاك جهاز أي فون (I-phone) ضرورة وحاجة وفق المنطق الذي تروج له الرأسمالية العالمية، مع أن الحاجة قد تكون امتلاك جهاز يمكنك من الاتصال بمن تريد في الوقت الذي تريد، وتستطيع فعل ذلك بجهاز يبلغ ثمنه 10 دنانير!
خلق الحاجة ومن ثم العمل على توفير السلعة التي تسد تلك الحاجة أمر تبدع فيه الرأسمالية العالمية، وذلك في سبيل خلق المزيد من الأرباح للشركات ورجال الأعمال أو الطبقة البرجوازية الحاكمة، والعمل على مراكمة رؤوس الأموال في يد طبقة لا تشكل أكثر من 3 بالمئة من أي مجتمع، بينما تعمل تلك المنظومة على محاربة أي نمط آخر يسعى لترسيخ المبادئ الحقيقية في أذهان البشر حول امتلاكهم لثرواتهم. الفلّاح هو صاحب الأرض، والعامل هو صاحب المصنع، لا يمتلك رجل الأعمال الحق في الربح بينما من يعمل في المصنع الذي يمتلكه هو العامل، ومن ينتج فعلياً هو العامل، وكذا الحال بالنسبة للفلّاح.
الحقيقة بأن انحصار ثروات الشعوب بيد 3 بالمئة من المجتمعات بقصص نجاح مزيفة تجعل مسألة “التوزيع العادل للثروات” أمراً ملحّاً وراهناً اليوم، والجملة الشهيرة لروزا لوكسمبوغ، والتي تلاقى بالهجوم للأسف من بعض أشباه اليساريين قبيل الليبراليين تبدو أكثر راهنية اليوم، فـ “إمّا الاشتراكية أو الهمجية”.
الجيل الصاعد .. في مفارقات الأمس واليوم
من يسمع كلمات أغنية “الجيل الصاعد” والتي صدرت في العام 1960، يدرك حجم المأساة التي وصل إليها الجيل الضائع في القرن الحادي والعشرين، وهو ما تحدث عنه الرفيق نور شبيطة باستفاضة من خلال مقالة له نشرت في العدد الحادي والأربعين لمجلة راديكال بعنوان:“جيل التطبيق بين الافتراضي والمفترض ““.
ما بين الأمس واليوم، تظهر المفارقات بين الأجيال، وما بين الجيل الصاعد والجيل الضائع، تبرز أهمية العمل على الارتقاء بوعي الجيل الحالي، من خلال التركيز على بعض المفاهيم، والعودة إلى زرع مسائل “العمل” و “الإنتاج” و “المجتمع” و “الملكية العامة” و “العلم” في أذهان هذا الجيل الضائع.
تلك المفاهيم التي ارتكز إليها الجيل الصاعد في الستينيات، والتي تكاد تخلو عقول الجيل الضائع منها، مفاهيم صبت في رحم الثورة التي قادها جيل صاعد من الجنود والفلاحين والفنانين والعمال والطلاب، والتي نلمسها بعمق في أغنية “الجيل الصاعد”، من كلمات حسين السيد وألحان محمد عبدالوهاب، وأداء نجوم الغناء العربي، وردة الجزائرية، نجاة الصغير، عبدالحليم حافظ، فايزة أحمد، شادية، ومحمد عبدالوهاب.
منقول بتصرف.