يرجع الفضل في حضارة الفرس إلى "آل ساسان" الذين حكموا فارس في القرن الثالث الميلادي، وككل القوى العظمى كان للفرس حضارة علمية لا يُستَهان بها، وكان أبرز ما عُرِفَت به الحضارة الساسانية علم نظم الإدارة، والتنظيمات السياسية، التي بدأت منذ أقرَّ "أردشير" (أول الحكام الساسانيين) عددًا من الأنظمة والقوانين في الدولة، منها وضع ديانة أساسية للبلاد، ووقع اختياره على الديانة الزرادشتية، التي كانت سائدة لدى الشعب، وأمر كبير وزرائه "تنسر" بجمع كافة النصوص المتعلقة بكتابها المقدس المدعو "الفستا" أو (الأبستاق) في مجلدٍ واحد، وأجازه باللغة البهلوية، واعتبره الكتاب المقدس.
وفي عهد ولده وخليفته "سابور" أدخل رجال الدين إلى هذه النصوص الدينية نصوصًا طبية وفلكية وطبيعية، عدّوها نصوصًا تعليمية، وجبت إضافتها إلى ثقافة الزرادشتي الصالح لدينه ووطنه[1].
النظم الاجتماعية والإدارة:
بدأ "أردشير الأول" في إرساء أول نظام اجتماعي عرفته الحضارة القديمة، ارتكز على تقسيم المجتمع إلى أربع طبقات رئيسية؛ تأتي في مقدمتها طبقة "رجال الدين"، ثم طبقة "رجال الجيش"، ثم طبقة "الكتّاب"، ثم طبقة "الفلاحين والعمال".
وتذكر المصادر أنه بعد وفاة "أردشير" تولى الحكم ابنه "شابور" الذي ورث دولة قوية، واهتم بتدعيم الدولة، وأعاد تنظيم الامبراطورية، وأقام سدَّ "شستر"، وأنشأ العديد من المدن، كما اهتم بالعلوم فأمر بترجمة الكثير من الكتب الإغريقية في شتى العلوم، كالطب والفلك والفلسفة[2].
التعليم في الحضارة الفارسية:
يذكر "ول ديورانت" في قصة الحضارة أن الفرس كان لديهم عاداتٌ خاصّة في تعليم أبنائهم، فيقول: "كان الوليد يبقى في أحضان أمه حتى السنة الخامسة من عمره ثم يحتضنه أبوه حتى السابعة، وفي هذه السنة يدخل المدرسة. وكان التعليم يُقصَر في الغالب على أبناء الأغنياء، ويتولاّه الكهنة عادةً؛ فكان التلاميذ يجتمعون في الهيكل أو في بيت الكاهن؛ وكان من المبادئ المقررة ألاّ تقوم مدرسة بالقرب من السوق حتى لا يكون ما يسودها من كذب وسباب وغش سببًا في إفساد الصغار. وكانت الكتب الدراسية هي "الأبستاق"[3] وشروحها، وكانت مواد الدراسة تشمل الدين، والطب أو القانون، أمّا طريقة الدرس فكانت الحفظ عن ظهر قلب، وتكرار الفقرات الطويلة غيبًا.
أمّا أبناء الطبقات غير الموسرة فلم يكونوا يتلقون ذلك النوع من التعليم، بل كان تعليمهم مقصورًا على ثلاثة أشياء: ركوب الخيل، والرمي بالقوس، وقول الحق.
وكان التعليم العالي عند أبناء الأثرياء يمتد إلى السنة العشرين أو الرابعة والعشرين، وكان مَن يُعَدُّ إعدادًا خاصًّا لتولِّي المناصب العامة أو حكم الولايات؛ يُدرَّبون على القتال بلا استثناء.
وكانت حياة الطلاب في هذه المدارس العليا حياة شاقة؛ فكان التلاميذ يستيقظون مبكرين، ويدرَّبون على الجري مسافات طويلة، وعلى ركوب الخيل الجامحة وهي تركض بأقصى سرعتها، والسباحة، وصيد الحيوان، ومطاردة اللصوص، وفلاحة الأرض، وغرس الأشجار، والمشي مسافات طويلة في حر الشمس اللافح أو البرد القارس؛ وكانوا يدرَّبون على تحمُّل جميع تقلبات الجو القاسية، وأن يعيشوا على الطعام الخشن البسيط.
لقد كان هذا في الحق تعليمًا ينشرح له صدر فريدرك نتشه في اللحظات التي يستطيع فيها نسيان ثقافة اليونان الأقدمين وما فيها من تنوع وبريق[4].
العلوم الطبية
كان الفرس الساسانيون يثقون بعلوم الإغريق والرومان، خاصة في الطب، حيث تؤكِّد المصادر أن معظم أطباء الملوك كانوا إغريقًا أو رومانًا، ومع ذلك تتضمن "الأوتسا" وشروحها، وأشهرها "نسك هُبسارم" معلومات طبية جيدة، تستهلها بحقيقة أن "أهورامزدا" ردَّ على "أهريمن" الذي خلق الأمراض لقهر الإنسان بأن أوجد لكل مرض نباتًا يشفى منه، كما يتضمن (النسك) تفاصيل عن صفات الطبيب الجيد، ومراحل تعليمه، وواجباته تجاه مرضاه ومجتمعه، إضافة إلى أجوره التي تختلف حسب حالة المريض الاجتماعية ونوعية المرض، ونجد في "النسك" توجيهًا للمرضى الإيرانيين بضرورة اللجوء إلى الطبيب الوطني، قبل الاستعانة بالطبيب الأجنبي، وكذلك تفاصيل أخرى عن أنواع الأمراض وأشكال الأوبئة، وكذلك أمراض الحيوانات الأليفة وعلاجها.
ولعل أبرز ما في هذا النسك من معلومات طبية، هو تقديمه معلومات عن الطب النفسي، وتفريقه بين صحة الجسد وصحة الروح، وتأكيده على أهمية طبيب الروح، علمًا بأنه لا يستخدم أدوية بل يستخدم طرقًا معنوية للعلاج.
وقد أوردت كتب التراث العلمية الساسانية ثلاث طرق للعلاج، وهي:
العلاج بالأعشاب وهي "كالأدوية"، والعلاج بالسكين وهي "الجراحة"، وثالثها الكلام المقدس، وهو "العلاج النفسي"، وكان يُضاف له حرقُ البخور لطرد الأرواح الخبيثة، ويبدو أن الأطباء النفسيين كانوا يقتربون بحسب علومهم من رجال الدين أكثر من رجال العلم، حيث كان هؤلاء يشبهون الإثم بالمرض، ويوازون بينهما، ويعتقدون أن الرذائل كالجهل والغرور والخداع ما هي إلا أسباب لا مرئية لأمراض الزكام والإسهال والجفاف والحمَّى وغيرها.
ويبدو أن نجاح العلوم الطبية المعاصرة التي أثبتت وجودها في المجتمع الساساني دفعت في اتجاه إنشاء مدرسة لتخريج الأطباء، وقد سهَّل تحقيق الهدف لجوء عدد كبير من الأطباء الرومان إليهم
(أثناء اضطهادهم في رومانيا)، مما دفعهم لتأسيس أفضل مدارس الطب في "جنديسابور" آنذاك، وظلَّت هذه المدرسة مزدهرة، وتُخرِّج العديد من الأطباء حتى بدايات العصر الإسلامي[5].
العلوم الأخرى:
وهي تلك العلوم التي ازدهرت استمرارًا للعلوم التي عرفتها دول إيران الأقدم من الدولة الساسانية، ومعظم هذه العلوم كان منذ عهد كسرى الأول (531 ـ 579م) الذي كان - على الرغم من كونه زرادشتيًّا - واسع الأفق، حرَّ التفكير، ذا عقلية علمية متميزة؛ إذ كان يتقبل بحث الآراء المختلفة في مسائل الطبيعة العلوم المختلفة، ولم يتردَّد في الاستعانة بأبناء الديانات الأخرى (كالنصارى) في الوظائف التعليمية أو العلمية ذات النفع العام، وكان مثقفًا يتقن اللغة السريانية، والسنسكريتية، وكان معجبًا بفلسفة أفلاطون وأرسطو، لدرجة أنه كلَّف أحد المطارنة بترجمة كتب المنطق التي كتبها أرسطو، والتي تحدث فيها عن الآراء التاريخية بوصف الآلهة والعالم، ونظريات الخلف.. وغيرها
ويبدو تأثير ذلك الملك عظيمًا في إيران، وذلك لحرصه على نقل معارف الأمم المجاورة إلى بلاده، ففي عهده نقلت مجموعة الكتابات الهندية والبوذية إلى اللغة البهلوية والساسانية[6].
العمارة:
كان للفرس طراز فني خاص في العمارة؛ فقد شيَّدوا في أيام قورش (550ـ 529 ق. م)، مقابر وقصورًا، كشف علماء الآثار القليل منها، وقد يستطيع المعول والمجرف - وهما المؤرِّخان اللذان لا ينقطعان عن البحث والتنقيب - أن يكشفا لنا في المستقبل القريب ما يُعلِي من تقديرنا للفن الفارسي.
وإلى أقصى الجنوب عند نقش رستم غير بعيد من برسبوليس يقوم قبر "دارا" الأول منحوتًا في واجهة صخرة في الجبل كأنه ضريح هندوسي، وقد نُقِشَ مدخلُه ليمثل لمن يراه واجهة قصر لا قبر، وأقيمت عند هذا المدخل أربعة عُمُد دقيقة حول باب غير شامخ. ومن فوق هذا الباب شخوص قائمة كأنها فوق سقف يمثل أهل البلاد الخاضعة للفرس تحمل منصة رُسِمَ عليها الملك كأنه يعبد أهورا- مزدا، والقمر. والفكرة التي أوحت بهذا الرسم وطريقة تنفيذها تسري فيهما روح البساطة والرِّقة الأرستقراطية.
أمّا أروع الآثار الفارسية القديمة التي تنفرج عنها الأرض الكتوم يومًا بعد يوم فهي الدرج الحجرية والأرصفة والأعمدة التي كشفت في برسبوليس؛ ذلك أنَّ دارا (521 ق. م) ومن جاء بعده من ملوك الفرس قد أقاموا لهم فيها قصورًا يحاولون بها أن يرجئوا الوقت الذي تُنسَى فيه أسماؤهم. ولسنا نجد في تاريخ العمائر كلها ما يشبه الدرج الخارجية العظيمة التي كان القادم من السهل يرقاها إلى الربوة التي شيدت عليها القصور.
وأكبر الظن أن الفرس أخذوا هذا الطراز عن الدرج التي كانت توصل إلى (الزجورات)، أي أبراج أرض الجزيرة، وتلتف حولها، ولكنها كان لها مع ذلك خصائص لا يشاركها فيها غيرها من المباني. ذلك أنها كانت سهلة المرتقى واسعة يستطيع عشرة من رُكّاب الخيل أن يصعدوها جنبًا إلى جنب. وما من شك في أن هذه الدرج كانت مدخلاً بديعًا إلى الطور الفسيح الذي يعلو عن الأرض المجاورة له علوًا يتراوح بين عشرين وخمسين قدمًا، والذي يبلغ طوله ألفًا وخمسمائة قدم، وعرضه ألفًا، والذي شُيِّدت عليه القصور الملكية، وكان عند ملتقى الدرج الصاعدة من الجانبين مدخل أمامي كبير نُصِبَت على جانبيه تماثيل ثيران مجنَّحة ذات رؤوس بشرية كأبشع ما خلَّفه الفن الآشوري. وكانت في الجهة اليمنى بعد هذا المدخل آية العمائر الفارسية على الإطلاق، ونعنى بها (الجهل- منار)، أو الرَّدهة العظمى التي شادها خشيارشاي الأول، والتي كانت هي وغرفات الانتظار المتصلة بها تشغل رقعة من الأرض تربو مساحتها على مائة ألف قدم مربع، فهي أوسع من معبد الكرنك الفسيح، ومن أية كنيسة أوربية عدا كنيسة ميلان[7].
ولا يزال ثلاثة عشر عمودًا من الاثنين والسبعين التي كانت قائمة في قصر خشيارشاي باقية إلى اليوم بين خربات القصر، كأنها جذوع نخل في واحة مقفرة موحشة، وتُعَدُّ هذه الأعمدة المبتورة من الأعمال البشرية القريبة من الكمال، وهي أرفع من مثيلاتها في مصر القديمة أو اليونان، وتعلو في الجو علوًا لا تصل إليه معظم الأعمدة الأخرى، إذ يبلغ ارتفاعها أربعة وستين قدمًا، وقد خطت في جذوعها ستة وأربعون محزًا، وتشبه قواعدها أجراسًا تغطيها أوراقُ أشجارٍ مقلوبة الوضع، ومعظم تيجانها في صورة لفائف من الأزهار تكاد تشبه اللفائف "الأيونية"، يعلوها صدرا ثورين أو حصانين مقرّنين يتصل عنقاهما من الخلف وترتكز عليهما عوارض السقف. وقام من خلف الجهل- منار، أي من شرقيها "بهو العُمُد المائة" ولم يبق من هذا البهو سوى عمود واحد والحدود الخارجة لتصميمه العام. ولعلَّ هذين القصرين كانا أجمل ما شاده الإنسان في العالم القديم والحديث على السواء.
وأقام أرت خشتر الأول والثاني (379-382م ) في مدينة السوس (في منطقة الأحواز) قصرين لم يبق منهما إلا أساسهما. ذلك أنهما شُيّدا من الآجر المكسو بأجمل ما عُرِفَ من القرميد ذي اللؤلوء الزجاجي.
ولم يكن التصوير والنحت في السوس وفي غيرها من العواصم فنين مستقلين، بل كانا تابعين لفن العمارة، كذلك كانت الكثرة الغالبة من التماثيل من صنع فنانين جيء بهم من أشور وبابل وبلاد اليونان [8].
بناء الطرق
أنشأ المهندسون طاعةً لأمر دارا الأول (521 - 486 ق. م) طرقًا عظيمة تربط حواضر الدولة بعضها ببعض، وكان طول أحد هذه الطرق (وهي الممتدة من السوس إلى سرديس) ألفًا وخمسمائة ميل، وكان طولها يقدر تقديرًا دقيقًا بالفراسخ (وكان الفرسخ 3.4 ميل)، ويقول هيرودوت: "إنه كان عند نهاية كل أربعة فراسخ محاط ملكية ونُزُل فخمة، وكان الطريق كله يخترق أقاليم آمنة عامرة بالسكان"، وكان في كل محطة خيول بديلة متأهبة لمواصلة السير بالبريد، ولهذا فإن البريد الملكي كان يجتاز المسافة من السوس إلى سرديس بالسرعة التي يجتازها بها الآن رتل من السيارات الحديثة، أي في أقل قليلاً من أسبوع، مع أن المسافر العادي في تلك الأيام الغابرة كان يجتاز تلك المسافة في تسعين يومًا. وكانوا يعبرون الأنهار الكبيرة في قوارب، ولكن المهندسين كانوا يستطيعون متى شاءوا أن يقيموا على الفرات أو على الدردنيل نفسه قناطر متينة تمر عليها مئات الفيلة الوجلة وهي آمنة، وكان ثمة طرق تصل فارس بالهند مجتازة ممرات جبال أفغانستان، وقد جعلت هذه الطرق مدينة السوس مستودعًا وسطًا لثروة الشرق التي كانت حتى في ذلك العهد البعيد ثروة عظيمة لا يكاد يصدقها العقل. وقد أنشأت هذه الطرق في الأصل لأغراض حربية وحكومية، وذلك لتسيير سيطرة الحكومة المركزية وأعمالها الإدارية؛ ولكنها أفادت أيضًا في تنشيط التجارة وانتقال العادات والأفكار[9].
[1] عبد الحفيظ يعقوب: من ملامح الحضارة الإيرانية القديمة 80.
[2] حسن برنيا: تاريخ إيران القديم 230.
[3] هو كتاب الديانة الزرادشتية، وقد سبقت الإشارة إليه.
[4] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/443.
[5] حسن برنيا: تاريخ إيران القديم 300 وما بعدها.
[6] من ملامح الحضارة الإيرانية 101.
[7] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/449.
[8] ول ديورانت: قصة الحضارة 2/450.
[9] السابق 2/ 413.
د. راغب السرجاني