الحروب تصنعُ العباقرة.. تعرف على أفضل العلوم والتكنولوجيا التي اكتشفت في الحرب العالمية الثانية
لم تكن الحرب العالمية الثانية مثلها مثل باقي الحروب التي شهدها التاريخ، فرغم أنّها الحرب الأوسع في التاريخ ومن أكثر الحروب تدميراً للبشرية، فإنّ أكثر ما يميز هذه الحرب هو أنّ السلاح الأقوى الذي اعتمدت عليه الدول المشاركة فيها هو سلاح العلم.
كان للعلم دور كبير في الحرب، فقد اعتمدت الجيوش على العلماء من أجل تطوير العلوم والتكنولوجيا حسب احتياجات الحكومات للانتصار في الحرب وتحسين أداء الجيش. ولا عجب في أن نذكر أنّ العلوم التي تم تطويرها في أثناء الحرب العالمية الثانية كانت بمثابة ثورة علمية وحجر أساس لكثير من تكنولوجيا وعلوم عصرنا الحالي.
الشيفرة التي لا تُقهر
فمنذ ذلك الحين، ألهمت الحرب العلماء اختراع أحد أهم الإنجازات البشرية وهو الحاسب الآلي، فبعد أن استطاع الألمان، بقيادة هتلر، استخدام جهاز لتشفير الرسائل أُطلق عليه "إنجما Enigma machine"، لم يعد أي من جيوش العالم قادراً على اختراق الرسائل العسكرية الخاصة بألمانيا، فقد تحتاج إلى أسابيع لفك شيفرة رسالة واحدة إذا لجأت إلى استخدام البحث العشوائي بين 158 مليون مليون مليون احتمالية، وذلك لأن الشيفرة كانت تتغير مع كتابة كل حرف، وهذا يعبر عن مدى تعقيد جهاز "إنجما" حتى ظن الألمان أنّ هذه الشيفرة لا تُقهر.
ولكنّ عباقرة بريطانيا لم يؤمنوا بهذا الظن وكانوا يحاولون باستمرار صناعة جهاز لاختراق شيفرات الألمان، استغرق الأمر شهوراً حتى استطاع آلن تورنج Alan Turing -أحد أهم العلماء في التاريخ- بمساعدة فريق من أفضل العلماء وأنبغ العقول في بريطانيا صناعة جهاز استطاع فك شيفرات الرسائل النازية في وقت قياسي يمكّن الحكومة البريطانية وحلفاءها من التجسس على تحركات الجيش الألماني. ويعتبر هذا الجهاز هو أول حاسوب مبرمج "first programmable computer" تم تطويره على مدار العقود المتتالية عقب الحرب حتى وصلنا إلى عصر الكمبيوتر الكمي والهواتف الذكية.
First programmable computer/ Bombe
السيطرة على حركة السماء
وأضاف أيضاً لنا البريطانيون أحد أهم الاختراعات التي غيّرت مسار الحرب حينذاك وفتحت لنا آفاقاً جديدة لاستخدام موجات الراديو وموجات الصوت. تميزت الحرب العالمية الثانية بتطور سلاح الطيران واعتمدت الجيوش على الغارات الجوية المفاجئة لإخضاع العدو. لكن عنصر المفاجأة لم يدم طويلاً بعدما استطاع روبرت واتسون وات Robert Watson-Watt، الفيزيائي وخبير موجات الراديو بالحكومة البريطانية، صناعة أول رادار في التاريخ.
وكانت هذه بمثابة معجزة استخدمها البريطانيون وحلفاؤهم للتنبّؤ بهجمات النازيين قبل وصولها لموقع الهجوم، كما أنّها ساعدت الطيارين في الظروف الجوية السيئة وتكاثف السحب على تحديد مواقع السفن وناقلات الطائرات البحرية وتدميرها.
استمر تطوير الرادار حتى أصبح جزءاً من حياتنا اليومية لمراقبة السيارات المخالفة التي تسير بسرعة أعلى من المسموح بها، ورصد حالة الطقس، ومراقبة حركة الطائرات في الجو وضمان عدم تصادمها، وكثير من التطبيقات الأُخرى المتعلقة بتضاريس الأرض وسفن الفضاء والسفن البحرية.
التحليق في طبقات الغلاف الجوي بسرعة فائقة
في حين تطور سلاح الطيران، كان موازياً له تطورٌ في القوات البحرية، وتميزت اليابان وأميركا بتطويرهما للسفن حاملات الطائرات. ويذكر أنّ أميركا قد تفوقت على اليابان بامتلاكها عدداً أكبر من السفن، وكانت أهمية حاملات الطائرات هو أنّ الطائرة لا تستطيع أن تحلق كثيراً في الجو، وسرعان ما تحتاج لملء خزان الوقود، فكان هذا يمنع الطائرات من الوصول لمناطق استراتيجية في أرض العدو.
لكنّ الثورة الحقيقية كانت في ظهور جيل جديد من الطائرات بعد أن حلّقت أول طائرة نفاثة "غلوستر ي28" من تصميم فرانك ويتل. لم يصدق الناس أعينهم عندما رأوا طائرة تحلّق في الجو دون مراوح، وهذا ما كانت تعتمد عليه الطائرات حتى ذلك الحين، فالمروحة هي العنصر الرئيسي لتحليق الطائرة، لكن فرانك استبدل المراوح بالمحرك النفّاث، مما أدي الي زيادة سرعة الطائرات وتحليقها في طبقات الغلاف الجوي الأقل كثافة. ومنذ ذلك الحين، انقلبت صناعة الطائرات رأساً على عقب وأخذت تتطور يوماً بعد يوم حتى يومنا هذا.
الطاقة النووية
وبينما كان هتلر يسعى لاكتساب ولاء أينشتاين بعدما وضع معادلته الشهيرة للكتلة والطاقة (E=MC2)، وهي الأساس العلمي لبناء القنبلة الذرية التي سعى لها هتلر، لكن أينشتاين أظهر ولاءه للبشرية ولم يكن من المناصرين لهتلر فرفض مساعدته؛ بل إنه عندما علم أنّ هتلر في طريقه لامتلاك قنبلة ذرية خُيّل لأينشتاين أنه إذا ساعد أميركا في امتلاك قنبلة ذرية هي الأُخرى فسيحدث توازناً في قوى العالم ويحمي العالم من الهلاك، ولكن من سوء حظه أنّ هتلر فشل في مشروعه.
وبعد أن أصبحت أميركا هي المالك الوحيد للقنبلة الذرية نتيجة "مشروع مانهاتن - The Manhattan Project"، قامت بأول هجوم نووي شنته على هيروشيما وناغازاكي في اليابان، وعقِب ذلك انتهاء الحرب العالمية الثانية باستسلام اليابان وألمانيا، ولكن بدأ عصر جديد للطاقة هو الطاقة النووية التي تعد الآن من أهم مصادر الطاقة.
إكسير الحياة
لم تقتصر ثورة العلم في الحرب العالمية الثانية على الصناعات الثقيلة والتكنولوجيا؛ بل إنّ أبرز الإنجازات والانتصارات العلمية لصالح البشرية كانت في مجال الطب والأدوية.
ملايين القتلى في الحروب لم يموتوا نتيجة الإصابات القاتلة المباشرة، ولكن لقوا حتفهم على أثر إصابات لم يستطيعوا معالجتها حتى ولو كانت الإصابة عبارة عن جرح بسيط، ولكن بتعرضه لعدوى بكتيرية تتطور الإصابة حتى يفارق الحياة. لذلك، كان اكتشاف العالم الأسكتلندي ألكسندر فلمنغ Alexander Fleming للبنسلين بمثابة إكسير الحياة الذي يحافظ على حياة الجنود بعد التعرض لإصابة أو عدوى وعلى الرغم من اكتشاف البنسلين قبل الحرب العالمية الثانية فإنه لم يتم إنتاجه بتوسع إلا في أثناء الحرب.
وهكذا، كانت بداية جيل جديد من الأدوية يسمى المضادات الحيوية، مما أدى إلى اتساع دائرة الأبحاث في علوم العقاقير وإنتاج عقاقير لعلاج الكثير من الأمراض المميتة، ولم يقتصر الأمر على المضادات الحيوية؛ بل ظهر عقار المورفين لتسكين آلام الجرحى والمصابين، ولأول مرة قام الأطباء في أميركا باستخدام بلازما الدم لتعويض الدم المفقود عند الجرحى؛ وذلك لأنه كان من الصعب نقل كميات كبيرة من الدم بسبب درجات الحرارة واختلاف فصائل الدم وكثرة الجرحى، فابتكروا حلاً بديلاً وهو استخدام البلازما الدم بديلاً لسهولة نقلها وحقنها للمريض.
قد يُخيَّل لك -عزيزي القارئ- أنّ هذا المقال قد أحصى كل الإنجازات العلمية التي سبّبتها الحرب العالمية الثانية، لكنّ تاريخ هذه الحرب يحوي العشرات من الإنجازات والإسهامات التي لم نذكرها، ولعل بعضها طال الصناعات الغذائية والعصائر والمأكولات؛ وذلك لأنّ الحرب استمرت سنوات عديدة وشارك فيها الكثير من الدول وتكاتف من أجل نصرة بلاده العديد من العلماء، وكثرت التحديات فألهمت العباقرة واستنزفت اقتصاد البلاد فأدت إلى حدوث طفرة في البحث العلمي.
ولربما كانت الحكمة المدرَكة من هذه الحرب هي (مصائبُ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ ) وأنّ الوسيلة الوحيد لنهضة البلاد والتغلب على الأزمات التي تحيط بنا وتعيقنا عن التقدم هي العلم، العلم الذي يصنع المعجزات ويحمي الشعوب ويلهم أبناء أوطاننا.