كانت صديقتي ريباكا معيدة العلوم السياسية في جامعة بوسطن كوليدج تحدثني عن إحدى المواد التي تدرّسها للطلبة: "Rights in conflict أو حقوق في الصراع". بدأت توضح لي أن كثيراً ما تكون حقوقنا في صراع، ربما يكون حقي في الخصوصية في صراع مع حق المجتمع في الأمن، ففي المجتمعات الحرة تتصارع دائماً الحقوق والحريات.
من أشهر هذه الصراعات، صراع الحرية الدينية مع الحريات الفردية. مثلاً، قبل عدة شهور تم فصل مضيفة طيران من عملها في شركة Express Jet الأمريكية، لأنها رفضت أن تقدم المشروبات الكحولية للمسافرين. تحولت شيري أستانلي للإسلام قبل عامين. ارتدت الحجاب في البداية، فلم تعترض شركة الطيران. ثم امتنعت عن شرب الخمور، وهذا يدخل في إطار الحرية الشخصية، ولن يزعج أحداً، بل ربما لن يلاحظه أحد. لكنها بعد فترة تعلمت أن الإسلام لا يحرّم فقط شرب الخمر، لكن تقديمه أيضاً، وعندئذ بدأت الأزمة. فالقضية هنا لا تتعلق بحريتها الشخصية، بل في رغبتها أن تفرض على الآخرين معتقداتها. فهي لا تكتفي بأن تمتنع عن شرب الخمر لأنها مسلمة، وتؤمن أن شرب الخمر حرام، بل كذلك تريد أن تمتنع عن تقديمه للمسافرين بغض النظر عن اختياراتهم.
هنا تبدأ المشكلة، عندما أقرر أن أفرض عليك معتقداتي، لا أكتفي أن أطبقها على نفسي، بل أريدك أنت أيضاً أن تعيش بحسب اعتقادي أنا، معتدياً بذلك على حريتك. كأنما شيري تقول لركاب الطائرة: أنتم مخطئون، إن شرب الخمر معصية، حتى إن كانوا هم في الأصل غير مسلمين، ولا يؤمنون بأن شرب الخمر مخالف لعقيدتهم أو مبادئهم. حتى لو أفترضنا أن بعضهم مسلمون ويريدون شرب الخمر، فمن هي حتي تفرض عليهم اختياراتها. ربما هي اختارت أن تصبح ملتزمة وهم لم يتبنوا خيارها، فهذه هي حريتهم التي ينبغي احترامها.
علماً أن ما ذكرته هو مثال بسيط لمظهر من مظاهر فرض الاعتقاد علي الآخرين، المنتشرة في عالمنا العربي. ولكن العالم الحر يقدس الحريات الفردية، ولذا تم فصل شيري من العمل. ليس لأنها مسلمة، ولكن ببساطة لأنها رفضت القيام بإحدى مهمات عملها. المستغرب أنها رفعت دعوى على الشركة مطالبة بعودتها إلى العمل. والحقيقة أنني لا أفهمها، فإذا كان جزءاً أساسياً من عملك هو تقديم الخمور بينما أنت تؤمنين أن تقديم الخمور معصية، فلماذا تصرين على الرجوع إليه؟ وما الصعب في أن تجدي عملاً آخر لا يتطلب القيام بأمر يخالف عقيدتك؟
في عالمنا العربي مظاهر فرض الاعتقاد سائدة، بل أدّعي أنها القاعدة، والاستثناء هو احترام حريات الآخرين. ولدينا أمثلة كثيرة على انتهاك الحريات باسم فرض الاعتقاد. فشيخ الجامع الذي يصلي عبر ميكروفون عالي الصوت الساعة الرابعة فجراً، يتخيل أنه يفعل خيراً، لأنه يوقظ الناس ويذكرهم بصلاة الفجر. ربما احتاج الناس إلى ذلك في الماضي، لكننا اليوم في زمن يمتلك كل منا هاتفاً منبهاً، أو على الأقل، منبهاً عادياً. ومن يريد أن يستيقظ للصلاة فجراً يستطيع أن يضبط منبهه الشخصي على موعد الصلاة من دون الحاجة لإزعاج حي بأكلمه. فربما كان هناك مريض مسن يحتاج إلى النوم ليتعافى، أو طفل رضيع يرعبه صوت هذا الميكروفون كل ليلة، أو حتى شاب يريد أن ينام من دون إزعاج، ليواجه يوم عمل طويلاً وشاقاً.
أما ما يحدث في رمضان فهو غريب، لدينا تهمة غريبة في بلادنا اسمها الاكل والشرب! ففي نهار رمضان من الممكن أن يتم القبض عليك لو رآك شرطي تشرب بعض الماء أو تأكل ساندويش. والعقوبة تراوح بين الغرامة والحبس في العديد من الدول العربية. ففي البحرين قد تقضي عاماً في السجن، لأنك أكلت في الشارع، وفي السعودية قد تتعرض للجلد، وليس الحبس فقط، أو الترحيل إن كنت أجنبياً. ورغم أننا في مصر ليس لدينا قانون يجرم الأكل في نهار رمضان، فإن حالات القبض على المفطرين تكررت في السنوات الماضية.
مصر مثلاً فيها مسيحيون ويهود وبهائيون ولا دينيون، وربما أصحاب ديانات أخرى، لا مسلمون فقط. فلماذا نفرض الصوم على المجتمع كله، في حين أنه فريضة تخص المسلمين وحدهم؟ وماذا عن المسلمين الذين اختاروا عدم الصوم؟ هل دور الدولة هو فرض الصيام على المواطنين بقوة القانون؟ أليس الأمر شأناً شخصياً يخص كل فرد على حدة؟
وبالرغم من أن معظم غير المسلمين يمتنعون عن الأكل والشرب في الأماكن العامة مراعاة لمشاعر المسلمين الصائمين. إلا أن هناك فرقاً كبيراً بين الواجب الذي تقوم به عن سابق تصميم وإرادة حرة، وبين قانون يعاقبك على حقك في أن تأكل أو تشرب بحجة أن بقية المواطنين صائمون.
ماذا لو كان المُعاقٓب شخصاً مصاباً بالسكري، وأكله لهذا الساندويش قد يحميه من إغماءة بسبب نقص السكر في جسمه؟ ماذا لو كانت المُعاقٓبة امرأة حاملاً ولا تستطيع الصيام؟ هل مطلوب من المواطن أن يرفع لافتة ويكتب عليها أنا مريض قبل أن يشرب بعض الماء في الشارع؟
ولماذا على الآخرين وحدهم مراعاة مشاعر المسلمين إلى حد تجريم شرب الماء، بينما العكس غير وارد؟ فلماذا لا تمنع الدولة المصرية أكل اللحوم مثلاً أثناء صوم المسيحيين؟ المسيحيون الأرثوذكس، وهم غالبية المسيحيين المصريين، يصومون عن تناول لحوم الضأن والدواجن، ويأكلون الأكل النباتي فقط نحو 7 أشهر في السنة. تخيل لو أنك في شهر ديسمبر، وهو جزء من فترة صيام الميلاد عند الأقباط، ومدته 43 يوماً، وينتهي يوم عيد الميلاد 7 يناير. تخيل لو أنك ذهبت لتشتري وجبة من ماكدونالز، وبينما أنت تهم للخروج من المطعم يُقبض عليك بتهمة الجهر بالإفطار. وعندما سألت لماذا؟ قالوا لك لأنك تجرح مشاعر الأقباط الصائمين. فأنت بلا أي أحساس تسير في الشارع وفي يدك ساندويش هامبرغر لذيذ من دون مداراة مشاعرهم. أليس هذا اعتداءً صارخاً على حريتك؟
يضاف إلى ذلك مواقف كثيرة جداً، تبدأ بمنعك من الأكل والشرب بحجة مراعاة مشاعر الآخرين، وتنتهي بحرمان البعض من أهم حق في الوجود، وهو الحق في الحياة عندما يخالفون معتقداتنا. في بلادنا نقتل من يترك الإسلام ونقتل من نراها دنست شرف العائلة. نقتلهما بلا رحمة وكأن القتل أمر بسيط أو عادي وليس أبشع جريمة ممكن أن يرتكبها إنسان في حق أخيه الإنسان.
إن أصل الداء واحد. فالذي يوقظك فجراً ضد رغبتك في نوم عميق، والذي يسجنك لأنك أكلت ساندويش، يتشارك في الدافع نفسه مع من قتل الفرنسيين الأبرياء في نوفمبر الماضي. أصل الداء واحد، عش كما أريد أنا وإلا! اتبع أفكاري ومعتقداتي، فأنا على حق وأنت على باطل. عش كما أعتقد وأختار أنا، وليس كما تعتقد وتختار أنت. ليس كافياً أن أحيا حراً وأمارس اعتقادي، بل لا بد أن يعيش الجميع ما أراه أنا حقاً، وإلا فالعواقب وخيمة!