تكتب عتاب شبيب في روايتها الأولى "موسم سقوط الفراشات" الحرب السوريه بكل مآسيها وأحزانها وحكاياتها التي تكاد تكون أغرب من أي خيال، متخذة من مدينة حمص التي شهدت فصلاً من أكثر فصول الحرب شراسةً، مكاناً جغرافياً لسردها.
بطل الرواية نزار كاتبٌ مسرحي وجد نفسه مجبراً على حياة العسكر الجافة، بعد أن اقتيد إلى الخدمة الإلزامية، وانخرط في حرب طويلة لا نهاية لها، ولا يريد أن يكون طرفاً فيها. ولأن الحكي عن الحرب مأزق فإن الكاتبة تتخلى لبطلها عن تلك المهمة. "كل ما حدث منذ اللحظة التي استيقظ فيها نزار، وكل ما سمعه ودوّنه يدخل في باب الجنون الذي أصيب به الوطن، جنون جدير بأقدارنا، نحن الذين فتحنا أبواب بيوتنا للوثة الموت والفراق. سأصمت أنا الآن وأترك البوح له. إنها طريقتي للتنصل من مأزق الحكاية. يحدث لبعض الحكايات أن تكون ورطة حين يتعلق الأمر بوطن".
نقطة البداية تكون حين يعود نزار إلى منزله في إجازة بعد أن شعر بالقلق على زوجته التي لا تجيب على اتصالاته، فيكتشف أنها هجرته، بعد أن اختلفا حول كيفية التعامل مع ما يجري. وفي الوقت نفسه يسترجع علاقته مع صديقة الطفولة نور التي اختفى زوجها أيضاً بعد الاعتصام الكبير الذي شهدته حمص، ومصيره غامض. حالهما هذا يدفعهما إلى التقرب من بعضهما أكثر، هو يريد أن ينسى غيرها بها، وهي تقتل وقت انتظار زوجها الغائب برفقته. "لا قوانين في الحرب، لا مسلمات سوى الموت. يحق لك فتح أي باب لتنجو بإنسانيتك، افعلها بصمت، أنت تعرف أنها تنتظره وهي تعرف أنك تنسى غيرها بها، لا تبح وقبّلها من فمها كلما أوشكت على البوح، لا تقل لها: أحبك. (...) أنت لا تريد إيذاءها، لذا وللأمانة والعدالة توقع بينك وبينها عقداً صامتاً: أساعدك على انتظاره وتساعدينني على نسيانها، لهذا وُجد الأصدقاء".
ولأن حكايات الحرب لا تنتهي، ولأن الكاتبة لا بدّ أنها سمعت كثيراً منها وأرادت توثيقها، فكان لا بدّ من حيلةٍ فنيّة في الرواية لتستطيع تضمينها كل تلك الحكايات. وقد وجدته في أن تجعل البطل كاتباً، يتخذ من الكلمة حيلة للبقاء على قيد الحياة والإنسانية في حمى القتل التي تجتاح الوطن، وجعلت من صديقته نور امرأة تعالج نزف جروحها بالبوح وسرد حكايات من تعرفهم على صديقها الكاتب. هكذا، تبدأ الكاتبة بنثر الحكايات على امتداد السرد، فتروي عن علاقات حب انتهت لأن كل طرفٍ فيها ينتمي إلى الطائفة المعادية للطرف الآخر، وعن أشخاصٍ رفضوا مغادرة المدينة لأنها تحتضن ذكرياتهم، لكنهم فجأة وجدوا أنفسهم غرباء فيها، وعن أمهات ينتظرن جثث أبنائهن، وعن جثث بلا أسماء، تحمل أرقاماً فقط، وعن جنود معذبين في هذه المعارك التي لا يريدونها، وعن أحلامٍ كانت وبالاً على أصحابها، كما حال الطيار الذي احتفظ بقصاصة ورق كتبت عليها صديقة الطفولة "يا رب حقق أمنيتي أريد أن أتزوجه وأريده أن يصبح طياراً يطير فوق ضيعتي وألوّح له من سطح بيتنا"، فحقق حلمها بعد أن كبر وتزوجها، لكنه اكتشف بعد بدء الحرب أنه قصف الحيّ الذي هربت عائلته إليه، فما كان منه إلا أن طار إلى أرض خالية وأسقط طائرته منتحراً على الصخور.
تروي شبيب حكايتها، ولا تقف طويلاً عندها، ترميها وراءها وتقفز إلى غيرها، معلنةً: "لم نكن سوى فراشات، والحرب حوّلت الوطن إلى موسم واحد تتشابه طقوسه في سقوطنا".
اللافت في هذه الرواية من بين الروايات التي كتبت عن الحرب الدائرة في سورية، حتى الآن، أنها لا تعلن انحيازها إلى طرف، وأنها تبتعد عن الخطابات السياسية الجافة التي بدا صعباً على من يكتب عن سورية أن يبتعد عنها أو عن إظهار موقفه السياسي وانحيازه إلى أحد أطراف الصراع. هذه الرواية معنية أولاً بأولئك الهامشيين الذين لا يحفل أحد بهم، بأولئك الذين كانوا الخاسر الأكبر في حرب لا يملكون فيها شيئاً، "بعد وقت قصير كانت المعارضة والحكومة تتبادلان التهم حول جريمة موت واحد وعشرين طفلاً وإخفاء جثثهم في حفرة واحدة، بينما لم يكترث أي إنسان بالمرأة التي بلا اسم وبلا عمر، تلك التي لم تلاحظها عين سوى فوهة المسدس الذي قتلها".
المؤلفة: عتاب شبيب، سوريا