لطالما أراد الناس التواصل مع بعضهم البعض، ففي الأزمنة الغابرة كانوا يقومون بتبادل الزيارات. وكلما زادت المسافة كلما صعب عليهم الأمر أكثر. وخلال تاريخه الطويل، حاول الإنسان ابتداع طرق مختلفة للتواصل؛ البريد، الحمام الزاجل، البرقيات، الإشارات الضوئية، ثم الهاتف. فلو كُنتَ تعيش قبل عدة قرون من الآن لاحتجت لعدة أشهر لتحصل على جواب من بريد أو حمام أو أيٍ كان.
ولحسن حظنا، لم يتوقف الإنسان عن التفكير والإبداع، فابتكروا طرقاً جديدة وسريعة للتواصل. ولعلّ من أهم المنجزات التي جلبها لنا القرن الحادي والعشرين هو الإنترنت، وما جلبه معه من وسائل تواصلٍ اجتماعي مختلفة ومتنوعة.
أول رسالة بريد الكتروني في التاريخ
لأنّ التاريخ هو بوابة الحاضر والطريق إلى المستقبل، دعونا نتذكّر أول تجربة لإنشاء “تواصل اجتماعي” عبر الإنترنت. إنّ أول تجربة للتواصل الاجتماعي عبر الإنترنت كانت في عام 1971، عندما قام راي توملينسون بإرسال “ايميل” لنفسه عبر كمبيوترين بجانب بعضهما، وكانت الرسالة المرسلة:
“qwertyuiop”
ومن ثم توالت المحاولات لخلق منصات للتواصل الاجتماعي تكون فعّالة وقادرة على إعطاء تجربة بديلة للتواصل بين الناس.
وبالحديث عن شبكات التواصل الاجتماعي فإنّ أول ما يتبادر في ذهننا هو شبكة فيسبوك، على الرغم من ظهورها متأخرةً قليلاً عن المحاولات الأولى لإنشاء المنصات، حيث ظهرت في عام 2004 كشبكةٍ للتواصل بين طلاب الجامعات في الولايات المتحدة. وما لبث أن لاقى النجاح الكبير ليصبح مؤسسها مع الوقت من أغنى الرجال في العالم (سادس أغنى رجل في العالم).
وتضاربت الآراء فيما إذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي تلك قد قامت بخدمة البشرية فعلاً وخلقت جيلاً واعياً، أما أنّها، وكما يقال، قد دمّرت التواصل البشري، وخلقت جيلاً من الشباب بعيداً كل البعد عن الواقع.
ومع هذا الاختلاف، نجد أنّ عجلة تطور وسائل التواصل الاجتماعي لا تتوقف عن السير، بل تستمر وتتخذ مناحٍ جديدة كلياً. فبعد تأسيس فيسبوك ظهرت عدة شبكات بأفكار أخرى مثل انستغرام وسناب شات أو Penterist. وبالحديث عن انستغرام يتبادر لذهني ما قالته نيكولا ماندلسون، والتي تدير عمليات فيسبوك في كل من أوروبا، الشرق الأوسط، وأفريقيا، في مؤتمر في لندن، حيث قالت أنّها تتوقع انتهاء عصر الكتابة في شبكة التواصل الاجتماعي. وفي الخمس سنوات القادمة فإنّ شركة فيسبوك “ستتغير حتماً، وتصبح على الأرجح غير معتمدة على الكتابة وإنما على الفيديو.”
وقد صرّح قبلها المدير التنفيذي للموقع، مارك زاكربرغ، أنّ الفيديو سيصبح أكثر أهمية بالنسبة لفيس بوك من أي شيء آخر. لكن ماندلسون تجاوزت هذه المرحلة لتصرّح بأنّ الكلام المكتوب على شبكات التواصل الاجتماعي سيتم استبداله بشكل كامل، بصورٍ متحركة وكلام مسجّل، أي فيديو!
“إنّ أفضل طريقة يمكنك من خلالها إخبار قصةٍ ما، في عصرٍ مليء بالمعلومات الجديدة والهائلة، هي الفيديو. فهي تعرض الكثير من المعلومات في فترة قصيرة”
خطوة مستقبلية أم رجعية ؟!
وفيما يسعى فيس بوك لإلغاء عصر الكتابة في منصات التواصل الاجتماعي، يرى البعض أنّ شبكات التواصل الاجتماعي قد ساهمت بخلق جيل من الكتاب الممتازين القادرين على التعبير عن مشاعرهم ومشاكلهم. وأنّ الأشخاص الذين يتذمرون من عدم وجود كتّاب جيدين أو حتى كتب جيدة في هذا العصر هم نفسهم الأشخاص الذين يتذمرن من التدفق الكبير للمعلومات وعدم القدرة على متابعة آخر مستجدات العصر.
وقد وجدت أندريا لانسفورد الأستاذة في جامعة ستانفورد في الكتابة وفن البلاغة، بعد قيامها بدراسة تضمنت 15,000 عينة مكتوبة من الطلاب بين عامي 2001-2006؛ دراسة ستانفورد للكتابة، أنّ الكتابة في شبكات التواصل الاجتماعي قد ساهمت لحد كبير في تطوير القدرة على الكتابة والتعبير لدى هذا الجيل، فقبل هذه المواقع كانت الكتابة التي يقوم بها الطلاب تنحصر بشكل كامل ضمن حصصهم الدراسية. أما الآن وبفضل وسائل التواصل الحديثة فأصبح الطلاب (والأشخاص بشكلٍ عام) مدركين لما يكتبونه وواعين لأهمية الكلمة المكتوبة كونهم يوجهون كلامهم بشكلٍ دائم لجمهور أمامهم. ويردون على الأشخاص الذين يقولون أنّ هذا الجيل لا يعرفون كيف يكتبون جملاً كاملة، بقولهم أنتم لا تعرفون كيف تقرؤون في هذا العصر.
وحالما نرى الردّ القوي على مثل هذه الدراسات من خلال العديد من المناهضين لهذه الفكرة، ففي استطلاع رأيٍ جرى في العام 2013 للأساتذة في الولايات المتحدة، تبيّن أن التقنيات الحديثة مثل الإنترنت، الكتابة، وشبكات التواصل الاجتماعي لها دور كبير في جعل طلاب المدارس الثانوية والإعدادية يقومون بملء الأوراق الرسمية باللغة العامية الدارجة على شبكات التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى خلق مشاكل بقراءة النصوص الطويلة وخوض مناقشاتٍ معقدة.
فإذا كانت شبكات التواصل الاجتماعي، وبشكل أساسي فيسبوك، قد ساهمت في تحسين قدرات الطلاب في الكتابة والتعبير عن ذاتهم، فلماذا تقوم فيس بوك بتبني هذه السياسة التي تهدف إلى التخلي عن الكتابة في شبكات التواصل الاجتماعي؟
فخلال العام الفائت وضعت فيسبوك عملية التحول لمنصة فيديو نصب عينها، وخاصةً الفيديو الحي (live)، فكما نعلم قامت بالاستحواذ على انستغرام الشبكة الاجتماعية الخاصة بالصور والفيديو، وقامت بطلب شركة سناب شات الخاصة بمشاركة الفيديو.
وبالطبع فإنّ فيس بوك باتت تقوم بشكلٍ “خوارزمي” بالترويج للفيديو دوناً عن كل المحتوى الآخر وبحسبدراسة قامت بها شركة نيوزشيب، وهي شركة متخصصة بتحليل محتوى شبكات التواصل الاجتماعي. حيث تقوم بتتبع نشاط الاعجاب وعدد المشاركات عبر منصة الفيس بوك، أنّ البيانات تظهر
“تدني ملحوظ في التفاعل” مع المحتوى كلّه عدا الفيديو في الأشهر القليلة الماضية، وخاصةً في عدد مرات ضغط زر الإعجاب (Like)، التفاعل الأكثر سيطرة في فيس بوك، حيث انخفض بمقدار 55% بين شهري تموز من العام الماضي وشهر نيسان من هذا العام.
فهل حقاً نحن في عصرٍ لم يعد الكلام المكتوب والكتاب المدوّن قادراً على مجاراته وآن لنا أن نستبدل الطريقة التي بتنا نتعلم فيها ونتطوّر بها منذ ألاف السنين بطرقٍ أخرى “أكثر حداثة” كما يدعون، أم أنّ التطور الطبيعي للفكر الإنساني والحضارة البشرية يفرض علينا أنّ نتغير.
أم أنّ الكتابة، والتي كان اختراعها أهم لحظة في حياة الإنسان، لن تتغير فعند اختراع الإنترنت اعتقد الكثير أنّ الناس لن تقرأ أبداً وأنّ الكتب ستُهجر. لكن لم يحدث ذلك أبداً، بل وبالإضافة إلى اختراع الكتب الالكترونية (E-books) استمر الإنسان بكتابة الكتب، وصدرت العديد من الكتب الملهمة.