كان للحضارة الصينية منجزات عظيمة في مجال العلوم والصناعة والطب والفلك والمعمار؛ ففي مجال العلوم كتب الصينيون عن الخسوف وعن مجموعات من النجوم كما أوردوا ملاحظاتٍ على الضوء، وعلى المرايا بأنواعها: المقعَّرة والمحدَّبة والمستوية، كما أدركوا النسبة الصحيحة في النحاس والقصدير.

وتذكر كتب التاريخ فضل أسرة (سونج 960- 1279م) في النهضة العلمية بالصين القديمة؛ حيث حَفِلَت فترة سونج بالعديد من الاختراعات، ونشأت في عام 1100م مصانع الحديد والصلب العملاقة والتي أنتجت حوالي 150 ألف طن من الحديد والصلب. وأنتج الصينيون عام 1078م من الصلب ما يعادل ما أنتجته إنجلترا في بداية الثورة الصناعية في القرن الثامن عشر. وكانت الدولة تكافئ المخترعين على اختراعاتهم.
ومن أهم الاختراعات التي قام بها الصينيون:

الطباعة واختراع الورق:
صنع الصينيون (105م) الورق من قشر الشجر والقِنَّب والخرق، وقد كانوا قبله يكتبون على الخيزران والحرير.

وقد حوت المتاحف وقتئذٍ مجموعاتٍ موحيةً من النقوش الفنية على البرونز وأحجار اليشب[1]، ومن الصور الزيتية والمخطوطات؛ وأُنشِئَت في البلاد دور الكتب التي بقي بعضها بعد أن زالت آثار الحروب، وكانت كلتا العاصمتين الشمالية والجنوبية من أهم مراكز العلم في آسيا.

وقد دخلت الطباعة في أيام أسرة سونج فأحدثت في حياة الصين الأدبية ثورة كاملة وإن لم يدرك الناس - حينها - مداها، وكان هذا الفن قد نما شيئًا فشيئًا خلال القرون الطوال حتى بلغ أَوْجَه في أيام تلك الأسرة، فأتم مرحلتيه الكبيرتين؛ إذ صُنِعَت الألواح المحفورة لتُطبَع عليها صفحاتٌ كاملة، وصُفَّت الحروفُ المفكَّكة المفرَدة من المعادن المجموعة في القوالب، وكان هذا الاختراع الصيني الخالص أعظم اختراع في تاريخ الجنس البشري بعد الكتابة[2].

وكانت الخطوة الأولى في هذا الاختراع العظيم هي كشف مادة تكون الكتابة عليها أسهل منها على الحرير أو الغاب اللذين قنع بهما الصينيون؛ ذلك أن الحرير غالي الثمن والغاب ثقيل، وكانوا يحتاجون إلى ثلاث عربات نقل تحمل عليها الكتب المدونة على شرائح الغاب التي كانت أثمن ما يملكون من متاع الدنيا آنذاك.
وكان اختراع الحبر أيضًا في بلاد الشرق. نعم إن المصريين قد صنعوا الورق والحبر في العهد الذي نستطيع أن نسميه أقدم العهود، ولكن الصين هي التي أخذت عنها أوروبا طريقة خلط الحبر بسناج المصابيح. ولقد كان "الحبر الهندي" صيني الأصل، وكذلك كان الحبر الأحمر المصنوع من كبريتور الزئبق[3] شائع الاستعمال في الصين من أيام أسرة (هان)؛ فلمّا ظهر الحبر الأسود في القرن الرابع الميلادي أصبح استعمال الحبر الأحمر ميزة خاصة بالأباطرة[4]. وكان اختراع الحبر الأسود من العوامل المشجعة على انتشار الطباعة؛ لأنه كان أصلح المواد للاستعمال في القوالب الخشبية، ويمتاز بأن الكتابة به لا تكاد تُمحَى مطلقًا؛ فلقد وُجِدَت أكداسٌ من الورق في آسيا الوسطى ظلت تحت الماء حتى عطنت، ولكن ما عليها من الكتابة ظلَّ واضحًا تُستَطَاع قراءتُه[5].

وكان استخدام الأختام في مهر الأوراق هو البداية غير المقصودة التي نشأت عنها الطباعة، ولا يزال اللفظ الصيني الذي يطلق على الطباعة هو نفسه الذي يطلق على الخاتم، وكانت الأختام الصينية تطبع في بادئ الأمر على الطين كما كانت تُطبَع عليه في بلاد الشرق الأدنى، ثم أخذوا في القرن الخامس الميلادي يُنَدُّونها بالحبر، وفي هذه الأثناء كانت أمهات الكتب الصينية القديمة تُحفَر على الحجر في القرن الثامن بعد الميلاد، وسرعان ما نشأت بعدئِذٍ عادةُ استخراج صورٍ من هذه النقوش المحفورة بعد طلائها بالحبر. وفي القرن السادس نجد الدَّوَّيين يستعملون أختامًا من الخشب لطبع الرُّقى السحرية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت أخذ المبشرون البوذيون يُجرُون التجارب بقصد استخراج عدَّة نسخ مطبوعة باستخدام أختام وألواح وورق نضّاح وطباعة على المنسوجات، وقد أخذوا هذا النوع الأخير عن الهنود، وأقدم ما وصل إلينا من الطباعة على لوح محفور ألف ألف رُقْيَة سحرية طُبِعَت في اليابان حوالي عام (770م) مكتوبةً باللغة السنسكريتية وبحروف صينية، فهي بذلك مثل طيب لتفاعل الحضارات في بلاد آسيا. وطبعت أشياء أخرى كثيرة من القوالب (الكليشهات) في أيام أسرة تانج، ولكن يلُوحُ أنها قد تلفت أو فُقِدَت في أثناء الفوضى والقلاقل التي أعقبت عهد (منج هوانج).

وقد كان الباعث الأول على اختراع الطباعة في بلاد الصين باعثًا دينيًا، كما كانت الحال في أوروبا في العصور الوسطى المتأخرة، وكما هي الحال بين بعض الشعوب البدائية في الوقت الحاضر؛ ذلك أن الأديان في ذلك الزمن القديم كانت تسعى لنشر عقائدها عن طريق العين وعن طريق الأذن معًا، ولجعل صلواتها ورقاها وأقاصيصها في متناول كل إنسان.

لقد كان الصينيون أقدر على الاختراع منهم على الانتفاع بما يخترعون؛ فقد اخترعوا البارود في أيام أسرة (تانج)، ولكنهم قصروا استعماله وقتئِذٍ على الألعاب النارية، ولم يستخدموه في صنع القنابل اليدوية وفي الحروب إلا في عهد أسرة سونج (عام 1161م).

وقد عرف المسلمون ملح البارود (نترات البوتاسا) - وهو أهم مركبات البارود - في أثناء اتِّجارِهم مع الصين وسمَّوه (الثلج الصيني)، ونقلوا سِرَّ صناعة البارود إلى البلاد الغربية، واستخدمه المسلمون في إسبانيا في الأغراض الحربية، ولعلَّ سير روجر بيكين - أول من ذكره من الأوروبيين - قد عرفه من دراسته لعلوم المسلمين، أو من اتصاله بـ (ده- بروكي) الرَّحّالة الذي طاف في أواسط آسيا.

والبوصلة البحرية أقدم عهدًا من البارود، وإذا جازفنا بأن نصدِّق ما يقوله عنها المؤرِّخون الصينيون فإن دوق جو قد اخترعها في عهد الإمبراطور تشنج وانج (1115-1078 ق. م) ليهتدي بها بعض السفراء الأجانب في عودتهم إلى بلادهم. ويقول الرواة: إن الدوق أهدى إلى السفارة خمس عربات جهزت كل منها "بإبرة تشير إلى الجنوب". وأكبر الظن أن الصينيين الأقدمين كانوا يعرفون ما لحجر المغناطيس من خواصّ مغناطيسية، ولكن استعماله كان مقصورًا على تحديد الاتجاهات في بناء الهياكل، وقد ورد وصف الإبرة المغناطيسية في (السونج- شو) وهو كتاب تاريخي مؤلَّف في القرن الخامس الميلادي، ويقول المؤلِّف: إنَّ مخترعَها هو الفلكي جانج هنج (المتوفى في عام 139م)[6]، على أن هذا العالمِ لم يفعل أكثر من أن يكشف من جديد ما كانت الصين تعرفه قبل أيامه. وأقدم ما ورد عن الإبرة من حيث فائدتها للملاحين هو ما جاء في كتاب أُلِّف في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي وهو يعزو استخدامها في هذا الغرض إلى البحارة الأجانب- وأكبر الظن أنهم من المسلمين - الذين كانوا يُسيِّرون سفنهم بين سومطرة وكانتون[7].

وكان الصينيون من أوائل الأمم التي اتخذت الفحم وقودًا واستخرجوه من الأرض بكميات قليلة منذ عام 122 ق. م.
وأنتجت الحضارة الصينية كذلك كتبًا من أرقى الكتب الدراسية في الزراعة، وفي تربية دود القز قبل ميلاد المسيح بقرنين كاملين، وأُلِّفت رسالاتٌ قيِّمة في علم تقويم البلدان.

وقد خلَّف عالمها الرياضي المعمَّر جانج تسانج (المتوفى في عام 152ق. م) وراءه كتابًا في الجبر والهندسة فيه أول إشارة معروفة للكميات السالبة، وقد حسب (دزو تسو تشونج- جي) القيمة الصحيحة للنسبة التقريبية إلى ثلاثة أرقام عشرية، وحسَّن المغناطيس أو "الأداة التي تشير إلى الجنوب"، وقد وردت عنه إشارة غير واضحة قيل فيها: إنه كان يجري التجارب على سفينة تتحرك بنفسها. واخترع تشانج هنج آلة لتسجيل الزلازل (سيمسغرافا) في عام 132م[8].

الرياضيات:
أكبر الظن أن علماء الرياضة الصينيين قد أخذوا الجبر عن علماء الهند، ولكنهم هم الذين أنشأوا علم الهندسة في بلادهم مدفوعين إلى هذا بحاجتهم إلى قياس الأرض، وكان في وُسْعِ الفلكيين في أيام (كونفوشيوس) أن يتنبَّأوا بالخسوف والكسوف تنبُّؤًا دقيقًا، وأن يضعوا أساس التقويم الصيني بتقسيم اليوم إلى اثنتي عشرةَ ساعةً، وتقسيم السنة إلى اثني عشر شهرًا يبدأ كل منها بظهور الهلال، وكانوا يضيفون شهرًا آخر في كل بضع سنين لكي يتفق التقويم القمري مع الفصول الشمسية.

الطب:
وكان الطب في الصين خليطًا من الحكمة التجريبية والخرافات الشعبية، وكانت بدايته فيما قبل التاريخ المدوَّن، ونبغ فيه أطباء عظماء قبل عهد أبقراط بزمن طويل، وكانت الدولة من أيام أسرة (جو) تعقد امتحانًا سنويًّا للذين يريدون الاشتغال بالمهن الطبية، وتُحدَّد مرتبات الناجحين منهم في الامتحان حسب ما يظهرون من جدارة في الاختبارات، وقد أمر حاكمٌ صينيٌّ في القرن الرابع قبل الميلاد أن تُشرَّح جثثُ أربعين من المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، وأن تُدرَس أجسامُهم دراسةً تشريحيةً، ولكن نتائج هذا التشريح وهذه الدراسة قد ضاعت وسط النقاش النظري، ولم تستمر عمليات التشريح فيما بعد[9].

وكتب (جانج جونج- تنج) في القرن الثاني عدَّة رسائل في التغذية والحِميَات (الريجيم) ظلَّت هي النصوص المعمول بها مدى ألف عام، وكتب (هوا- دو) في القرن الثالث كتابًا في الجراحة، وأشاع العمليات الجراحية باختراع نبيذٍ يخدِّر المريض تخديرًا تامًا. ومن إهمال المؤرِّخين أن ضاعت أوصاف هذا المخدِّر فيما بعد، ولم يُعرَف عنها شيءٌ[10].

وفي أوائل القرن السادس كتب داو هونج- جنج وصفًا شاملاً لسبعمائة وثلاثين عقارًا مما كان يستخدم في الأدوية الصينية، وبعد مائة عام من ذلك الوقت كتب جاو يوان- فانج كتابًا قيمًا في أمراض النساء والأطفال ظل من المراجع المهمة زمنًا طويلاً. وكثرت دوائر المعارف الطبية في أيام أباطرة أسرة تانج، كما كثرت الرسائل الطبية المتخصصة التي تبحث كل منها في موضوع واحد في عهد الملوك من أسرة سونج، وأُنشِئَت في أيام هذه الأسرة كُلِّية طبية؛ وإن ظل طريق التعليم الطبي هو التمرين والممارسة.

وكانت العقاقير الطبية كثيرة متنوعة حتى لقد كان أحد مخازن الأدوية منذ ثلاثمائة عام يبيع منها بنحو ألف ريال في اليوم الواحد. وكان الأطباء يطنبون في تشخيص الأمراض؛ فقد ميَّزوا من أنواع النبض أربعًا وعشرين حالة، واستخدموا اللقاح في معالجة الجدري، وإن كانوا لم يستخدموا التطعيم للوقاية منه، ولعلَّهم قد أخذوا هذا عن الهند، ووصفوا الزئبق للعلاج من الزهري. ويبدو أن هذا المرض الأخير قد ظهر في الصين في أواخر أيام أسرة (منج)، وأنه انتشر انتشارًا مروعًا بين الأهلين، وأنه بعد زواله قد خلَّف وراءه حصانة نسبية تقيهم أشد عواقبه خطورة.

ولم يتقدم علم الطب تقدمًا يستحق الذكر من أيام (شي هوانج- دي) إلى أيام الملكة الوالدة، ولعلَّ في وسعنا أن نقول هذا القول بعينه عن علم الطب في أوروبا من عهد أبقراط إلى عهد باستير. وغزا الطب الأوروبي بلاد الصين في صحبة المسيحية ولكن المرضى الصينيين من الطبقات الدُّنيا ظلوا إلى أيامنا هذه يقصرون الانتفاع به على الجراحة، أمّا فيما عداها فهم يفضِّلون أطباءهم وأعشابهم القديمة على الأطباء الأوروبيين والعقاقير الأوروبية[11].


[1] نوع من الأحجار الكريمة، كانت تستخدم للكتابة عليها.
[2] ول ديورانت: قصـة الحضارة 4/151 وما بعدها.
[3] المادة الخام التي يستخرج منها الزئبق.
[4] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/154.
[5] السابق: 4/157.
[6] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/251.
[7] السابق نفسه.
[8] ول ديورانت: قصة الحضارة 4/252.
[9] السابق 4/ 253.
[10] السابق 4/ 254.
[11] ول ديورانت: مصدر سابق 255.



د. راغب السرجاني