يُحكى أنه، خلال معارك الحرب العالمية الثانية الطاحنة، بين الألمان والإنجليز، حاول كل من الفريقين أن يختلق نماذج أسطورية خارقة لمقاتليه. وكان من أهم هذه النماذج الجنرال الألماني "إرفين رومل" Erwin Rommel، الذي عُرف بقدراته التخطيطية العسكرية العبقرية، وبنشاطه وانتقاله على مختلف الجبهات القتالية الألمانية، حتى أعجب به خصومه قبل جنوده، فافتتنوا به. وقيل إن الجنود الإنجليز كانوا يعلقون صوره أمامهم قبل قتال قواته في معركة العلمين الفاصلة.
وعلى الخطى نفسها، وفي ظل الحروب والصراعات السياسية والمذهبية العنيفة، التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط حالياً، نجد أن إيران عملت على نسج خيوط قصة أسطورة عسكرية جديدة، هي "أسطورة قاسم سليماني".
في هذا المقال نستعرض أسباب شهرة وأهمية الجنرال قاسم سليماني، أو الحاج قاسم كما يصفه محبوه، ودوره في الأحداث المتشابكة بالشرق الأوسط.
سليماني: من الثورة الخمينية إلى قيادة فيلق القدس
ولد سليماني عام 1957، في بلدة صغيرة تدعى "رابور" في محافظة كرمان التي تقع جنوب شرقي إيران. ولما كان أبوه يعمل مزارعاً بسيطاً، فقد كان من الطبيعي أن ينشأ سليماني تنشئة ريفية بسيطة.
وفي العام الثاني والعشرين من عمره، اندلعت الثورة الإيرانية عام 1979، فشارك فيها الشاب الريفي البسيط، وأيدها، وانضم إلى الجموع المطالبة برجوع الخميني من منفاه، وإسقاط حكم الشاه.
وسرعان ما انضم سليماني إلى قوات الحرس الثوري الإيراني عام 1980، ومع مرور الوقت، أثبت كفاءة نادرة، فتدرج في المراتب العسكرية، حتى أصبح قائداً للفيلق رقم (41) المسمى بـ"ثأر الله"، واشترك معه في الحرب الإيرانية-العراقية التي عرفت باسم حرب الخليج الأولى.
وعام 1998، تم تعيين قاسم سليماني قائداً لفيلق القدس، أما عام 2011، وتزامناً مع رياح التغيير التي هبت على منطقة الشرق الأوسط، بفعل ثورات الربيع العربي، قام المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي بترقية سليماني من رتبة لواء إلى رتبة فريق، وهي أكبر رتبة عسكرية في إيران.
ولكن لماذا سليماني تحديداً؟
على الرغم من كثرة القادة العسكريين في الجيش الإيراني، إلا أن الفريق قاسم سليماني، سُلّطت عليه هالة إعلامية كبيرة، ندر أن حظي بها أحد من رفقاء سلاحه ونظرائه الإيرانيين.
السبب الرئيس في ذلك يرجع لحساسية المركز الذي يشغله سليماني من جهة، ولدوره القوي في سير جميع الأحداث العسكرية المتشابكة في منطقة الشرق الأوسط من جهة أخرى.
فالمتابع لبنية التنظيمات العسكرية الإيرانية، سيجد أن القوات المسلحة في إيران تنقسم إلى قسمين متمايزين. القسم الأول هو الذي يضم الجيش الإيراني النظامي، الذي يشبه بقية الجيوش في المنطقة والعالم. أما القسم الثاني فهو قوات الحرس الثوري، التي أسسها الخميني عقب نجاح ثورته، وهي قوات مشبعة بأفكار ومبادئ الثورة.
ويقود سليماني قوات "فيلق القدس" الذي هو بمثابة رأس حربة للحرس الثوري الإيراني، فالمهمة الأساسية الملقاة على عاتق هذا الفيلق، هي تقديم يد الدعم والمساعدة والعون لجميع القوى العربية التي تؤمن بولاية الفقيه.
يقوم فيلق القدس بتخطيط وتنفيذ كل العمليات العسكرية والمخابراتية في الخارج الإيراني، كما يقوم بالتواصل مع الجيوب العسكرية لإيران خارج الحدود الإيرانية.
ولما كانت تلك الجيوب الإيرانية منتشرة بشكل كبير في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين، كان من الطبيعي أن يستحوذ سليماني على القدر الأكبر من الاهتمام الإعلامي، بوصفه المنسق الأول بين خامنئي ومناطق نفوذه المتعددة ومنفّذ المهمات النوعية الخاصة بالسياسة الإيرانية.
في المنطقة العربية، ظهر اسم سليماني بشكل واضح، بعد مقتل نائبه اللواء حسين همداني في حلب في أكتوبر 2015. إذ أدى مقتل همداني إلى اشتراك سليماني بنفسه في المعارك السورية، وكان معنى ذلك أن الحرس الثوري قد دخل بكل ثقله في المعركة.
وفي العراق، حيث الغالبية الشيعية، تم الاستعانة بقاسم سليماني بشكل رسمي، عقب اجتياح قوات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للموصل، الأمر الذي مكنه من العمل على الأراضي العراقية، وتجنيد الكثير من أفراد الحشد الشعبي، للعمل تحت إمرته مباشرة، حتى أن جريدة الغارديان البريطانية نشرت مقالاً تناولته فيه، تحت عنوان "سلطته مطلقة ولا أحد يستطيع تحديه"، ووصفته بأنه "الحاكم السري للعراق". ولا يخفى عن أنظار المتابعين أن سليماني هو القائد الفعلي لمعركة الموصل، التي تدور رحاها حالياً في الشمال العراقي.
ولا يقل دور سليماني في اليمن عن مثيله في كل من سوريا والعراق، فقد ظهرت أنباء تفيد أن سليماني سافر إلى اليمن مع بدء عاصفة الحزم. وبذل الكثير من الجهود لإيصال الأسلحة والدعم المادي والتقني، لقوات الحوثيين المتحالفة مع نظام الولي الفقيه بإيران.
ويعتبر سليماني هو المسؤول الأول عن توصيل المساعدات العسكرية لحزب الله اللبناني، وذلك بحسبما قال الأمين العام للحزب في إحدى المقابلات التلفزيونية.
ولا يكتفي سليماني بكل تلك المسؤوليات العسكرية الملقاة على عاتقه، بل يضطلع ببعض الأدوار الدبلوماسية المهمة، فقد وردت الكثير من الأخبار عن سفره إلى موسكو، للاجتماع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، للتنسيق بين الجانبين، تجاه عجلة الأحداث المتسارعة في سوريا والعراق. وقد حظي ذلك اللقاء بصخب إعلامي كبير من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، التي هاجمت تلك الزيارة، واعتبرتها مخالفة صريحة لقرارتها بحظر سفر قادة الحرس الثوري باعتباره منظمة إرهابية.
كيف تُصنع أسطورة سليماني؟
تضافرت العديد من الأسباب لاختلاق أسطورة ترتبط بقائد فيلق القدس. بعض تلك الأسباب يأتي من الجانب الشيعي، فسليماني يحظى بمقام كبير ومكانة مرتفعة في الأوساط الشيعية عموماً، والمؤيدة للهيمنة الإيرانية وحكم ولاية الفقيه خصوصاً. والكثير من شيعة سوريا والعراق نظروا إليه كونه مبعوث العناية الإلهية لحفظ المذهب والتصدي لأعدائه المتربصين.
وهنالك العديد من المقاطع المصورة على موقع يوتيوب، تحتوي على أناشيد وأهازيج، تتغنى بشجاعة قاسم سليماني وبجهوده في التصدي للإرهاب السني.
من تلك المقاطع، مقطع استغل مسألة تشابه الأسماء، فشبه قائد فيلق القدس بالصحابي الجليل سليمان الفارسي، الذي يحظى بمقام رفيع في التراث الشيعي.
وفي مقطع آخر ورد أن "المذهب الشيعي أمانة بيد سليماني". هناك أيضاً عدد من المقاطع التي تظهر سليماني في ميدان الحرب وسط جنوده، وفي بعضها يوجه رسالة تعزية باللغة العربية لأبناء أحد الشهداء ويظهر فيها تأثره الشديد.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل نجد أن هناك حملة ترويجية دعائية واسعة النطاق في الصحف ووكالات الأنباء، هدفت إلى تلميع سليماني وأسطرته. من ذلك التقريرالذي نشرته قناة العالم الفارسية، بعنوان أوباما عن قاسم سليماني: "كم أتمنى لو أن بين ضباطي نظيراً له". وهو عنوان واضح الكذب، ولم يكن ليصدر من رئيس الولايات المتحدة التي لطالما اعتبرت الحرس الثوري مجرد جماعة إرهابية، مثلها مثل غيرها من الجماعات التي يغص بها الشرق الاوسط.
كما أن تلك الصحف اعتادت أن تطلق على سليماني لقب "الشهيد الحي"، وهو اللقب الذي لقبه به علي خامنئي.
صناعة الأسطورة السليمانية لم يقتصر على الصف الشيعي وحده، بل نجد أن هناك العديد من الجهات المعادية لإيران، تورطت بشكل كبير في خلق تلك الأسطورة والتأكيد عليها. فقد وصف جون ماغواير، العميل السابق لوكالة الاستخبارات الأميركية "سي آي أيه" في العراق، قائد فيلق القدس بأنه "أكثر فرد نشاطاً في الشرق الأوسط اليوم، وفي الوقت نفسه لم يسمع به أحد".
أما بالنسبة للإعلام العربي المعارض للهيمنة الإيرانية، فقد ساعد، من دون قصد، في تصاعد أسطورة سليماني. أفردت الكثير من وكالات الإعلام والمحطات التلفزيونية الفضائية، مساحات واسعة للحديث عن الحرس الثوري، وفيلق القدس وقائده القوي. وتم إنتاج عدد من الأفلام الوثائقية عنه، وتم إجراء عدد من المقابلات والبرامج الحوارية التي ضخمت من تأثير سليماني، وعظمت من نفوذه وإمكانياته، حتى وُصف بالشبح "الذي هو في كل مكان وعلى مختلف الجبهات". وخصصت مجلة نيوزويك الأمريكية صفحة الغلاف الرئيسي لعددها الصادر في 27 نوفمبر 2014، لوضع صورة كبيرة مهيبة لقاسم سليماني، وتم التعليق على الصورة بـ"إله الانتقام، قاتل أمريكا والآن يسحق داعش".
ولعل آخر المجادلات الإعلامية التي ارتبطت بسليماني، وتوضح الحجم الحقيقي لأسطورته المتنامية، هو ما أذاعته إحدى القنوات المناهضة للتوسع الإيراني، عن إنتاج إيران لفيلم دعائي للترويج لسليماني، وأن ذلك الفيلم سيُعرض في عدد من الدول العربية.
وأدى ذلك لحالة من الصخب، انتهت بعد أن تم اكتشاف أن الفيلم المشار إليه بعنوان "الحارس"، ليست له أي علاقة من قريب أو بعيد بسليماني، وأن القناة أخطأت في استنتاجها، بسبب الشبه بين بطل الفيلم وسليماني.
مستقبل الأسطورة: هل ينتقل سليماني إلى ميدان السياسة؟
كل تلك المهمات التي يقوم بها سليماني جعلته يحظى بدور قوي في صنع وتوجيه سياسات الشرق الأوسط برمتها، حتى أن نفوذه قد زاد عن نفوذ قائده المباشر محمد علي جعفري قائد قوات الحرس الثوري نفسه.
وقد أدى ذلك إلى ظهور عدد من التقارير، التي تنبأت أن قائد فيلق القدس قد يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية الإيرانية في الانتخابات المزمع عقدها في 2017، لكن سليماني نفى ذلك بشكل قاطع.
وقال بحسب بيان له نشرته وكالة تسنيم "أنا جندي صغير للولاية ونظام الجمهورية الإسلامية والشعب الشجاع الأعز علي من روحي وإن شاء الله، وبالاستعانة بالله سبحانه وتعالى سأبقى مدى حياتي في موضع الجندية".