ما أكثر مشكلات العالم! وما أكثر مصائبه المتنوِّعة والمتوزِّعة على كل المجالات! فليس على الأرض الفسيحة من مكان إلا وتتناوله المشكلات، إن لم نقل تتسابق إليه، ولم يَعُدِ الإنسان الذي يعيش في كهف بعيد أو فوق قمة جبل منعزل أو في قلب جزيرة تحاصرها المياه، لم يعد إنسان هذه المناطق بمنأى عن مشكلات العالم وآثارها.
ومن المثير للعجب أن الجميع يعترفون بوجود المشكلات والأزمات، ويُعانون منها، لكن المشكلات باقية وموجودة كأنَّ أحدًا لا يعرف بوجودها إلا قليلاً.
مشكلة التعامل مع الطبيعة
ومن أخطر مشكلات العالم في عصرنا الحاضر مشكلة التعامل مع البيئة، وهي مشكلة لم يكن ليتوَّقعها أحد ممن عاشوا قبل عصرنا هذا، فلم يخطر ببال أحد أن الإنسان الضئيل يستطيع إيذاء تلك الأرض المتسعة والغابات الفسيحة، ولا إيذاء تلك البحار بعيدة الغور والأعماق، ولا إفناء أنواع من الحيوانات وهي لا تكاد تُحصى، ومعظمها يعيش حياة تبدو -لأول وهلة- بعيدة عن حياة الإنسان ونشاطاته، كما لم يخطر ببال أوسع الناس خيالاً أن الهواء نفسه قد يفسد بما كسبت يد الإنسان.
مشكلة البيئة – مشكلة الطبيعة
لقد أصبحت مشكلة البيئة المحيطة بنا أهم مشاكل الكون منذ زمن؛ حيث أصابت الحياة الإنسانية بأضرار بالغة، فأنواع التلوث قد أصابت الموارد الأساسية الطبيعة على الأرض، فثمة تلوث الهواء وتلوث الماء وتلوث التربة وتلوث الغذاء، وكل هذه الأنواع من التلوث انعكست على حياة الإنسان بالضرر، فنتجت كوارث مروعة ذهب ضحيتها الآلاف من البشر والكائنات الحية؛ كما نتجت أنواع جديدة من الأمراض، وسلالات جديدة من الفيروسات، وكلها تهدِّد الحياة الإنسانية والحيوانية، وتصنع اختلالاً بالغًا في الطبيعة التي خلقها الله –عز وجل- بقدر، كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]. وجعلها مستقرًّا للإنسان ومتاعًا له، كما في قوله تعالى لأبي البشر آدم –عليه السلام: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].
وهذه المشكلة الكونية لم تتوقَّف عند حدود الجيل الحالي من البشر، بل إنها تهدِّد كذلك حياة الأجيال القادمة، والتي ستعاني -أيضًا- من العديد من الأمراض والمشكلات الصحية والكوارث البيئية، وبعض هذه المشكلات يبدو أنه لا مفرَّ منه، ولم توجد له حتى اللحظة حلول مناسبة؛ فالنفايات النووية -مثلاً- تحتوي على عناصر يمكنها البقاء دون تحلُّل لمئات وآلاف السنين، فحتى إذا عُزلت في أعماق المحيطات وتحت طبقات من الأسمنت والرصاص، فإن هذه الطبقات لن تصمد تحت الضغط وملوحة المياه لمئات وآلاف السنين، وفي لحظة ما ستتسرب هذه النفايات إلى الطبيعة، وتُؤتي أثرها الفتَّاك.
مشكلة استثمار الموارد الطبيعية
ومشكلة البيئة المحيطة لا تتوقَّف عند حدود تلوث الموارد الطبيعية والأضرار الناتجة عنه فقط، بل إنها تتعدَّى هذا إلى مشكلة في استثمار هذه الموارد؛ فالماء العذب يُعاني من التلوث ولكنه -أيضًا- في معظم مناطق العالم لا يُستفاد منه بالشكل الصحيح، فنجد أطنانًا هائلة من المياه العذبة تضيع في البحر، على الرغم من أن البشر في مناطقها يعيشون في فقر مائي ويحتاجون المياه العذبة.
والأرض الخصيبة تستهلك بشكل متسارع تحت وقع التوسُّع في البناء، وهي تعاني -أيضًا- في معظم مناطق العالم من عدم استثمارها بالشكل العلمي المناسب، فما زالت الزراعات تجري بالأساليب القديمة والبدائية، وتغفل عن تطور العلم في مجالات تحسين أساليب الري والزراعة، وتحسين أنواع البذور، وتنظيم الدورات الزراعية لتفادي إجهاد التربة، وتغذيتها بالعناصر المخصبة والمساعدة.
وما زال العالم يخطو بطيئًا في استثمار الطاقات الطبيعية النظيفة كطاقة الشمس وطاقة الرياح، ويعتمد على أنواع الطاقة التي ثبت تأثيرها الضار على الطبيعة؛ فهذه كذلك مشكلة استثمار تتعرَّض لها الموارد البيئية، وتُسَبِّب ضررًا مضاعفًا للحياة الإنسانية.
الإسلام ومشكلات الطبيعة
لا يقف الإسلام متفرجًا على هذه المشكلات، فهو الدين الرباني الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى للعالمين، وهو الدين الذي امتاز بشموله، وبقدرته على تنظيم حياة البشر على هذه الأرض، وهو دين يتناول كل الحياة البشرية في واقع المسلم؛ قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 162- 163].
الإسلام والبيئة
وهو الدين الكامل الذي ختم الله به الرسالات، وختم برسوله –صلى الله عليه وسلم- الرسل، وأنزل فيه قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
كما كانت حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- تطبيقًا لهذا الشمول ولهذا الكمال؛ فلقد حفلت حياته –صلى الله عليه وسلم- بإسهامات ووصايا وتعاليم في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وكذلك في مجال الاهتمام بالطبيعة المحيطة.
وعلى الرغم من امتياز الإسلام بهذا الشمول وبهذا الكمال فإنه يُهاجم الآن بأعنف ما يكون، فيتم وصفه بالعنف والإرهاب والظلم والقسوة والتخلُّف عن مواكبة العصر، وعلى الرغم من أن المسلمين لم يتسبَّبُوا في كوارث العالم البيئية، وعلى الرغم من أنهم لا حول لهم ولا قوَّة في التأثير العالمي فإن الهجوم على الإسلام قائم، بل ويزيد ويتصاعد وتشتدُّ ضراوته.
فأصبح المنهج الرباني الشامل الكامل القادر على حلِّ مشكلات الإنسانية محاصرًا وغير مسموح له بالعطاء، ولو استطاعوا لما سمحوا له بالبقاء، كما قال ربنا تبارك وتعالى:{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 217].
وفي ظلِّ هذه الصورة القاتمة نتساءل: أين المسلمون الذين ينبغي أن يتكلموا عن ذلك المنهج الإلهي بألسنتهم، وأن يكتبوا عنه بأقلامهم؟
إن جهل المسلمين بدينهم وما فيه من روائع مشكلة أخرى وكبرى تُضاف على عاتق العلماء والدعاة والمصلحين، ولقد وصف الله أهل الكتاب ممن يحملون الحقَّ ولا يفقهونه بوصف شنيع، فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5]. والخشية أن يكون هذا الوصف منطبقًا على أمة الإسلام.
لماذا موضوع الإسلام والبيئة؟
ومن هنا كانت سعادتي كبيرة بكتابة هذا الموضوع؛ لأن الكتابة فيه تحقق عددًا من الأهداف، فمشكلة الحفاظ على النظام الطبيعي للكون مشكلة عالمية لا تقتصر على قوم دون قوم أو بلد دون بلد، فحيث ثبت أن الإسلام يقدم لها الرؤية والحل المناسبين، فذلك دليل على عالمية الإسلام، كما أن سبق الإسلام في عنايته بأمر الطبيعة -قبل أن يبدو للبشر أن الطبيعة قد تكون ذات يوم مشكلة- بحيث لا يكاد توجيهٌ من التوجيهات في الشرع الإسلامي الحنيف إلا ويلامس موضوع الطبيعة بوجه أو بآخر، يثبت ربانية هذا الدين. كذلك فإن حالة الجهل بالعطاء الإسلامي في هذا المجال والتي تشمل غير المسلمين، وعامة المسلمين، بل أكاد أقول أيضًا: تشمل كثيرًا من الدعاة، كانت دافعًا آخر للكتابة في هذا الموضوع.
والحقيقة أنني لا أستثني نفسي من هذا الأمر، فلقد بدأت بكتابة هذه المقالات وفي ذهني القواعد والأصول الشرعية وعدد من الوصايا القرآنية والنبوية وبعض أقوال العلماء، ولكن البحث والتنقيب في تراثنا الفقهي الهائل كان دائمًا ما يزيدني انبهارًا وإعجابًا وإيمانًا كذلك، إلى الحدِّ الذي اضطرني إلى مقاومة الرغبة في التوسع والتفصيل، ساعيًا نحو الإيجاز ما استطعت، وبدا لي بوضوح كيف أن الشريعة التي نزلت لتنظيم حياة الناس على هذا العالم ضمَّت بين جنباتها ما يجعله أصلح وأنفع البيئات لحياتهم.
وقد ازددتُ إدراكًا لهذا المعنى الجديد للعبادة في قوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61]؛ فالله –عز وجل- خلق آدم –عيه السلام- وجعله خليفة في الأرض، وأمر الملائكة أن تسجد له، وكرَّمه وعظَّمه ورفعه، وعلَّمه الأسماء كلها، فأصبح مؤهلاً -بهذا العلم- أن يعمر الأرض.
لم يتفوَّق آدم –عيه السلام- على الملائكة بطول قيام، ولا بكثرة ذكرٍ أو تسبيحٍ، ولا بقوةٍ خارقة، ولا بطاعةٍ مطلقة.. فهذه الأمور كلُّها مما تتفوق فيها الملائكة بلا منازع، وإنما تفوق عليهم فقط في هذا العلم الذي جعله مستطيعًا لصورة جديدة من صور العبادة، وهي التعمير والبناء والإنماء؛ ومن أجل ذلك رفعه الله –عز وجل- فوق مصافِّ هؤلاء الملائكة العِظام، وفضَّله عليهم، بل وأسجدهم له، فاستحقَّ بهذا أن يكون خليفة الله في الأرض.
يقول تعالى في تقرير ذلك: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 30-34].
كيف تعامل الإسلام مع الطبيعة؟
لقد تعامل الإسلام مع قضية الطبيعة على مستويين، فوضع قواعد عامة وأصولاً كبيرة تنتظم تحتها كل ما يستجد في حياة البشر من أحداث وما يعتريهم من مشكلات، ثم وضع -أيضًا- كثيرًا من التفاصيل -وهذه حفلت بها السُّنَّة على وجه الخصوص- التي لا يلحقها التغير على طول الزمان؛ كإماطة الأذى، والنهي عن التبول في الماء الراكد، والأمر بتغطية الآنية... وأمثال هذا. وسنجد في هذا الكتاب الإعجاز في القواعد العامة، كما سنجده -بالقدر نفسه- في التفاصيل الصغيرة، ولا عجب! فإنها مشكاة واحدة.
ولقد كان من أثبت أدلَّة خلود المنهج الإسلامي وصلاحيته لكل العصور ما تحقَّق في عصور الحضارة الإسلامية المختلفة من حسن استعمال المسلمين لمصادر الطبيعة المحيطة؛ سواء بالاستثمار أو بالحماية، وعلى قدر ما كانت قضية الطبيعة في التشريع الإسلامي ثورة وقفزة على ما قبلها من الأفكار، كانت -أيضًا- سابقة على ما حدث بعدها حين ضعف المسلمون وتركوا منهجهم الرباني، فاستعلى عليهم غيرهم وساد على هذه الأرض، فكان أن {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
من كتاب الكون صديقي
د. راغب السرجاني