شكّلت الحرب الأهلية موضوعاً لأغلب الروايات اللبنانية الصادرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة، وفي روايته الثانية "حارس الموتى" لا يبتعد جورج يرق عن هذا الموضوع. ولكن، ما يميّز الرواية أنها تتناول الموضوع من مكانٍ جديد هذه المرة، وتحديداً من البراد الذي تحفظ فيه جثث الموتى قبل دفنها.
بطل الرواية "عابر ليطاني" شاب في مقتبل العمر، يمارس الصيد في ضيعته الهادئة، يجد نفسه فجأة أمام المدرّس المدمى بعد أن خطفه ثلاثة من رجال أحد الأحزاب لأنه يشتم الحزب على مسامع التلاميذ، وتركوه مرمياً لمصيره. ولأنه يخاف أن يُتهم بهذه الفعلة بعد أن رأى المدرّس وجهه، وعرفه، فإنه يهرب بعيداً عن القرية، كي ينقذ نفسه من انتقام عائلة الرجل أو الحزب الذي ينتمي إليه. في ذلك الوقت كان السلاح بيد الجميع، وكانت النفوس متوترة، وتكفي شرارة واحدة لإشعالها. "المصادفة وحدها مسؤولة عما أعانيه الآن. كنت أتصيّد في السهل. وكان الوقت غروباً. لدى مروري قرب مكب الزبالة التابع للضيعة، سمعت أنيناً متقطعاً. أول وهلة ظننت أنني أتوّهم ذلك. لكن عند تكراره تأكد لي أن ما أسمعه هو صوت بشريّ. فازدحمت الاحتمالات".
بعد أن يصل إلى بيروت التي كانت غارقة في حربها الأهلية، يجد "عابر" نفسه مشرداً دون مأوى، فلا يجد حلاً سوى الالتحاق بإحدى الميليشيات المتقاتلة، لأن ذلك يوفر له طعاماً ومأوى. وهناك في الثكنة سيكون شاهداً على الحرب وكواليسها، وعلى أبطالها وممارساتهم.
شخصيات الثكنة فقدت جزءاً كبيراً من إنسانيتها، وأصاب العطب روحها وأخلاقها، ولم تعد تتورع عن فعل شيء ما دام القانون المسيطر عليها هو إرضاء نزعاتها وغرائزها. هكذا يصبح "عابر" شاهداً على "نابليون"، رئيس القطعة، الذي يقوم بقتل صائغ وسلب حقيبته، وعلى "بو فهد" القناص الذي تكون سعادته القصوى عندما يقنص أحدهم، فيتجمع الناس حوله لسحب جثته، فيما هو يغرق في الضحك ويستأنف قنصه للمحتشدين كي يردي جثثاً أخرى فوق الجثة الأولى. كما يصبح شاهداً على عمليات السرقة والنهب والاغتصاب التي تتم تحت غطاء الحرب، وفي ذلك كله يرفض أن يكون هو "فاعلاً" في هذه الحرب، بل يصرّ على البقاء "شاهداً" فقط، وحتى حين يُطلب منه أن يكون قناصاً فإنه لا يستطيع قتل أي شخص. "لمّا كنت أرى في المنظار ضحيّتي المحتملة تنتاب يدي رجفة فأفقد دقة التصويب. وشيء مثل غشاوة يغطي فوهة المنظار فلا أعود أرى، وإذا رأيت فلا أرى جيداً. غشاوة كان يطلقها عدم اقتناعي بما أفعل، ورفضي إزهاق روح ذنب صاحبها العبور في هذه اللحظة المشؤومة".في الثكنة تتوطد علاقته مع "عزيزي" الشاب الذي يخبره بأنه يسجل مذكرات تحوي الكثير من الأسرار عن الحرب وممارسات رفاقه في دفتر صغير، تلك الممارسات التي يعلم بها الحزب ويغضّ الطرف عنها، رغم فداحتها، والتي في النهاية يُقتل "عزيزي" بسبب معرفته لها. هذا ما يدفع "عابر" إلى ترك السلاح والعودة إلى حياة التشرد قبل أن يجد عملاً في ثلاجة الموتى في أحد المشافي، وهناك سيكون "شاهداً" أيضاً على جملة من الممارسات التي تكون الحرب وراءها، فيصف الفساد الطبي، وكيف أن المشفى يعالج جرحى الحزب مجاناً في حين أنه يترك أي مريض آخر يموت لأنه ليس من الحزب، هذا عدا السرقة، وأخذ المعونات الدولية التي يجب أن تكون من نصيب الناس وبيعها…
يختار يرق أن يسرد روايته على لسان البطل، فيرصد ما يراه بعينيه، تاركاً الحقائق التي لا يعرفها لتظل على شكل احتمالات يقلبها بطله في رأسه دون أن يصل، أو نصل معه، إلى نتائج نهائية، فليس المهم هنا هو النتيجة أو الحقيقة، بل المهم في رؤية ذلك الشخص للحرب، في تحولاته النفسية التي لم يكن من الممكن رصدها إلا بتسليم "الحكي" له، وإلا فإن الرواية كانت ستذهب في اتجاه المباشرة لتوصل فكرتها.
بعد أن يتعلّم "عابر" حشو الجثث وتنظيفها، ويتصالح مع وجوده في البراد، لا بل يصبح هذا البراد الملآن بالجثث المكان الوحيد الذي يشعر فيه بالأمان، ويصبح الموتى هم من يحمونه، تظهر أعظم تحولات هذه الشخصية، يغادر ما كان عليه حتى الآن، أن يكون "شاهداً" على ما يجري، ليصبح "فاعلاً"، يصبح همّه جمع المال، بأي طريقة، لحماية نفسه من كل ما عاناه: يسرق، يمارس النصب والاحتيال، يشتهي شابة ميتة، يقتلع الأسنان الذهبية للجثث ويبيعها، تصبح الجثة عنده وسيلة رزق فقط،.... وغيرها من الأفعال التي كان لا يستطيع فعلها، فصار يمارسها إلى أن ينتهي مخطوفاً من قبل جهة لا يعرفها.
كل ذلك يحدث بعد أن يحلم بنفسه كجثة، "رأيت النعش، نعشي، أمام المذبح على طاولة مغطاة بشرشف أبيض. وعلى واجهته، اسمي الثلاثي وتاريخا ميلادي ووفاتي (...) وأبصرتني عائداً وحدي من المقبرة، كان الفتى يمشي كالتائه. عندما رآني توقف ومضى ينقل نظره بين الصورة الكبيرة وبيني. ثم ابتسم ابتسامة هي مزيج من السخرية والمكر. شاء إفهامي بها أنه يعرف أن الذي مات ليس أنا، وأن الذي بقي حياً ليس أنا أيضاً".
ذلك الحلم، هو النقطة الفاصلة بين ما كان وما صار، بين موت "الشاهد" وولادة "المُشارك"، بين موت الإنسان وولادة الجثة، "عابر" لم يعد يتعرّف إلى نفسه، فقد أفقدته الحرب ذاك الذي كانه، غيّرت مصيره كما غيّرت مصائر الجميع، ورسمت قدراً جديداً، وتركته مشطوراً بين اثنين، فلا يعرف أيهما هو، ولا يستطيع إنكار أيٍّ منهما، وكل ما يعرفه أنه محمّل بذاكرة مثقلة لن تسعفه، مهما رواها، في الخلاص منها، كما لن تسعفه في معرفة من خطفه ولماذا؟ ويبقى السؤال معلقاً...
جورج يرق روائي لبناني من مواليد عام 1958، عمل محرراً وكاتباً حراً في بضع صحف ومجلات لبنانية، مثل "النهار"، "اللواء"، "الحياة"... صدرت له رواية "ليل" عام 2013، ورواية "حارس الموتى" هي الثانية له وقد وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2016.