اعتادت أم جاسم (63 عاما) منذ أربعة عقود على صناعة الأواني والأدوات الفخارية التي تستخدم في الحياة اليومية والتي أصبحت جزءا أصيلا من التراث العراقي.
ولا تزال تتذكر تلك الصناعة البسيطة التي اكتسبتها من طبيعة الحياة الريفية في جنوب العراق، إذ تقول إن “العوائل وخصوصا في ريف جنوب العراق كانت تستخدم أواني وأدوات حفظ الطعام المصنوعة من الطين الخالص، والتي تجفف بطرق بدائية”.
وتبين أم جاسم أن المنتجات الفخارية تستخدم في العديد من مناحي الحياة مثل “الشربة”، وهي عبارة عن آنية صغيرة تستخدم لتبريد الماء صيفا، وكذلك “الكوز” التي تستخدم لنقل الماء من النهر، و”السدانة” وهي عبارة عن آنية فخارية كبيرة تستخدم لحفظ الطعام وخاصة الحبوب.
ومن الأدوات الفخارية المنتشرة في هذا البلد ودول عربية عديدة ما يسمى في العراق “الحِب”، وهو وعاء فخاري كبير لحفظ ماء الشرب، ويعرف في مصر وبلاد الشام باسم “الزير”، وفي المغرب وبلدان عربية أخرى “الخابية”.
وتتحدث أم جاسم عن “الحِب” فتقول إن “العوائل كانت تستخدم الحِب لتبريد الماء صيفا، وهناك التنور الطيني الذي يستخدم لصناعة الخبز”. الطين الحر
وتبدي أم جاسم أسفها لاختفاء تلك الأواني إلى حد كبير حيث حلت محلها الأواني الزجاجية الصينية، وكذلك الأواني النحاسية وتلك المصنوعة من الألمنيوم.
وتشرح أم جاسم طريقة صناعة الأواني الفخارية، وتبين أنها تعتمد بشكل أساسي على الطين الأحمر الذي يعرف في العراق باسم “الطين الحر”، أي النقي والذي يستخرج من قعر النهر ويصفى من الشوائب ويضاف إليه خليط “البردي” (سعف النخيل).
وبحسب مقالة لرئيسة قسم الفخار السابقة في معهد الفنون الجميلة ببغداد نيران يارث يونان، فإن العراق عرف هذه الصناعة قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة ق.م، حيث كانت لصناعة الفخار وظيفة واحدة هي تلبية احتياجات الإنسان الذي أخذ يصنع أدواته المستعملة في الحياة اليومية كالأواني، وبعد ازدهار الحياة الاجتماعية في هذه العصور أخذت تدخل على الفخار المسائل الجمالية.
ويرى الصحفي والباحث في الشأن الشعبي كاظم العبودي في حديث للجزيرة نت أن “بلاد الرافدين، وخصوصاً الجزء الجنوبي منها، عرف هذه الصناعة مبكرا، واستمرت إلى وقت قريب من القرن الماضي، بل لا تزال أرياف الجنوب العراقي تشهد هذه الصناعة”.
وبيّن المتحدث أن كثيرا من العوائل الجنوبية الريفية “مصرّة على استخدام التنور الطيني” لصناعة الخبر، وكذلك “الحب” الذي لا يزال حاضراً بقوة، لاسيما وأن البلاد تعيش أزمة كهرباء مستمرة، مما يجعل عملية تبريد الماء في فصل الصيف صعبة مع عدم قدرة العوائل على توفير الطاقة الكهربائية، لذا تلجأ إلى هذه الوسيلة البدائية. عائلات متخصصة
ويشير إلى أنه في الماضي كانت هناك بعض العوائل التي كانت متخصصة ومعروفة بصناعة الفخار الشعبي.
في حين يرى الفنان والنحات أحمد الناصري أن هذه الصناعات البدائية كانت وسيلة لسد حاجات الناس ولم تكن ذات بعد جمالي في الأساس، ولذا فإنها زالت بزوال الحاجة إليها بعد التطور في الحياة الاجتماعية وتطور الصناعة في العالم.
ويضيف الناصري للجزيرة نت أن “صناعة الفخار الجمالية لا يمكن أن تزول نهائيا لأنها مرتبطة بذوق جمالي ومطلوبة للاطلاع على الإرث الحضاري، وكذلك ممازجة هذه الأعمال مع التطور الحضاري الذي يعيشه العالم”.
ويطالب الناصري بإنشاء متحف شعبي، إلى جانب المتحف الحضاري الذي افتتح مؤخرا في محافظة ذي قار، لتوثيق الحياة الشعبية، وكذلك جمع نماذج من هذه الأعمال اليدوية لإطلاع الأجيال والسياح والباحثين على طبيعة الحياة العراقية قبل أن تتطبع ببصمات العصر الحديث.
عن الجزيرة نت.