وَصَفَ ابن الأثير عماد الدين زنكي بأنه كان عظيم السياسة[1]، والسياسة كما عرَّفها ابن عقيل أنها: «ما كانت فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإنْ لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وَحْيٌ»[2]. وهذا هو التعريف الذي يعتمده ابن القيم[3]، ومفهوم طبعًا أنها لا تعني خروجًا عن الشرع، ولكنها تعني ابتكار الوسائل المناسبة للعصر وللظروف لإصلاح حياة الناس وإبعادهم عن الفساد.
أمَّا السياسة في التعريفات المعاصرة فهي كما جاءت في معجم روبير: «فنُّ إدارة المجتمعات الإنسانيَّة[4]». وكما جاءت في المعجم القانوني: «أصول أو فنُّ إدارة الشئون العامَّة»[5].
وسواء اعتمدنا التعريفات الإسلاميَّة الأصوليَّة، أو التعريفات القانونيَّة الحديثة فإنَّ عماد الدين زنكي قد بلغ الغاية في السياسة بكل تعريفاتها.
سياسة عماد:
لقد عاش عماد الدين زنكي في زمان مُلِئَ بالتقلُّبات والأحداث، وتعامل مع شتَّى أنواع البشر، ومختلَف الزعامات والقيادات، فكان حكيمًا في كل تصرُّفاته، سياسيًّا في كل عَلاقاته، وكان نادرًا ما يفقد إنسانًا، أو يقطع عَلاقاته بأمير، وكانت له من الأفكار السديدة ما يفلح به في إدارة المجتمعات الإنسانيَّة مهما كانت معقَّدة.
مع الخلفاء والسلاطين:
كان يُدرك مراكز القوى، ويُقَدِّر قوَّة الخصوم بعناية، وكان لا ينخدع بالألفاظ ولا بالألقاب، وعَلِمَ من أوَّل أيَّامه أنَّ سلاطين السلاجقة أقوى بكثير من خلفاء الخلافة العباسية؛ لذلك جعل ولاءه واضحًا لهم؛ لكنه لم يُغفل حسن معاملة الخلفاء والتقرُّب إليهم، لكن عند حدوث صدام حتميٍّ بين السلاطين والخلفاء، كان يقف إلى جوار السلاطين لوضوح الرؤية عنده.
وعندما ضعف أمر السلاطين، وصار عماد الدين زنكي هو القوَّة العظمى في الأُمَّة الإسلاميَّة، لم يُعلن ذلك ليتجنَّب حدوث فتن ومكائد، ولكنه أعلن أنه يحكم باسم ألب أرسلان السلجوقي[6]، مع أنه لم يكن لألب أرسلان أيُّ وزن إلى جوار عماد الدين زنكي، ولكنه حُسْنُ السياسة الذي سكَّن جوارح ألب أرسلان والسلاجقة من ورائه، وسكَّن جوارح العامَّة[7].
في الحروب ومع الأعداء:
وكان له من الأساليب الذكيَّة التي يُفَرِّق بها الأحزاب المتحالفة ضدَّه ويُشَتِّتها، وما أروع ما فعله لفكِّ تحالف الصليبيين مع البيزنطيين[8]، وكذلك لفكِّ التحالفات الإسلاميَّة ضدَّه[9]! وكلُّها أساليبُ يصلح أن تُدَرَّس في فنِّ السياسة.
وكانت له سياسته الخاصَّة في تحقيق النصر، وإسقاط القلاع، وفتح البلاد بأقلِّ خسارة ممكنة، وكان بعضهم يتَّهمه بالغدر عند بعض المواقف[10]، لكنه كان يعتمد مبدأ «الحرب خدعة»، وهو منهج نبويٌّ حكيم، فكان يتجنَّب به الدخول في أزمات هائلة، وسنأتي في تفاصيل قصَّته على بعض المواقف التي أخذوها عليه، وتسويغ فعله في هذه المواقف.
مع الخصوم:
وكان يُقَدِّر الشخصيات المعادية له، ويُحاول الاستفادة منها؛ حتى لو كانت فاسدة، وما أحكم ما فعله مع جاولي -وهو الأمير الذي كان يطمع في الولاية بعد مقتل آق سنقر البُرْسُقي، فذهبت الولاية إلى عماد الدين زنكي- إذ أقطعه عماد الدين زنكي إقليم الرحبة في حلب[11]! ولم يُقْصِه عن كلِّ شيء؛ وبذلك تجنَّب أذاه، وأراح قلبه، واستفاد من طاقاته وقدراته.
بل فعل أكثر من ذلك مع دُبَيْس بن صدقة، وهو زعيم قبيلة بني مزيد، وكان شيعيًّا اثني عشريًّا، وكان فاسدًا، أظهر الفوضى والاضطراب في بغداد، وحاول أن يخلع الخليفة، وكان متعاونًا مع الصليبيين، وكان شخصيَّة مكروهة بكل المقاييس، ومع ذلك استنقذه من أَسْرِهِ بدمشق، ورفض تسليمه للخليفة[12]، بل استخدمه وولاَّه بعض الإقطاعات، وكان يهدف إلى استخدامه في السيطرة على قبيلته الكبيرة بني مزيد، وكان يستفيد -أيضًا- من عَلاقاته ومخابراته، ولقد أرشد دبيسُ بن صدقة عماد الدين زنكي ذات مرَّة على مؤامرةٍ كان يحيكها له السلطان السلجوقي مسعود، فعرف السلطان أن دبيسَ بن صدقة هو السبب في كشف المؤامرة فأمر بقتله فقُتِلَ[13]، فعندها قال عماد الدين زنكي: «فديناه بالمال (أي من الأسر)، ففدانا بالرُّوح!»[14].
وكان يقرأُ أطماع مَنْ يخالفونه من القادة، فيُريح بالهم، ويُعطيهم ما يُريدون؛ فيضمن بذلك ولاءهم وطاعتهم، وإن كانت العَلاقات بينهم متوتِّرة وغير طبيعيَّة.
مع الجُند:
وكان يُحسن سياسة جنده، ويُتْقِن سياسة الترغيب والترهيب؛ فبينما كان يضاعِف لهم رواتبهم، ويتعامل معهم بالرأفة والمودَّة كان –أيضًا- عقابه صارمًا، وكان لا يقبل تهاونًا قط في أداء الوظيفة، ولقد سمع مرَّة أنَّ أحد قوَّاده تعرَّض للنساء، بينما كان عماد الدين زنكي وجنوده في سفر بعيد، فأرسل فورًا مَنْ يعزله من منصبه، ويُجَرِّده من كل ممتلكاته، بل لمَّا عَلِمَ أنَّ الأمر تجاوز التعرُّض إلى التحرُّش الصريح أمر بقتله[15]، ثم قال كلمته الصارمة: «إن جنودي لا يُفارقوني في أسفاري، وقلَّما يُقيمون عند أهليهم، فإنْ نحن لم نمنع مِن التعرُّض إلى حُرُمهم هلكْنَ وفسدْنَ»[16]. وبعدَ هذا العقاب الرادع لم يتجاسر أحدٌ على التعرُّض للنساء طيلة حكم عماد الدين زنكي رحمه الله.
ففي هذا الموقف نَرَاه قد جذب قلوب الجنود إليه من ناحية بعد أن أظهر حرصه الشديد على نسائهم، وعَزَلَ قائدًا من أجلهم، وفي الوقت نفسه أظهر الردع المناسب لمن يُخالف الأوامر، ويتعدَّى على حدود الشرع، ويأتي بالأفعال المنكرة القبيحة.
والحديث عن سياسة زنكي حديث لا ينقطع؛ فقد استطاع بتوفيق من الله أنْ يتعامل مع ظروف قاسية كأفضل ما يكون التعامل، فصار بلا جدال من أعظم السياسيين في تاريخ الأُمَّة.
[1] ابن الأثير الكامل في التاريخ 9/340.
[2] ابن القيم: بدائع الفوائد 3/673.
[3] ابن القيم: ابن قيم الجوزية الدمشقي، شمس الدين. من كبار العلماء، مولده سنة 691هـ، وتتلمذ لشيخ الإسلام ابن تيمية، وكان حسن الخُلُق، محبوبًا للناس، من تصانيفه: إعلام الموقعين، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، مفتاح دار السعادة، زاد المعاد، توفي سنة
751 هـ. انظر: الزركلي: الأعلام 6/56، وكحالة: معجم المؤلفين 9/106.
[4] معجم روبير.
[5] المعجم القانوني.
[6] ويقول ابن الأثير في الباهر: فكان إذا أرسل رسالة أو أجاب على رسول كان يقول: قال الملك كذا. الباهر ص71.
[7] عماد الدين خليل: عماد الدين زنكي ص227.
[8] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/302.
[9] انظر: محمد سهيل طقوش: تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام ص111.
[10] وممن اتهموه بالغدر ابن العديم انظر: زبدة حلب 2/273.
[11] ابن الأثير: الباهر ص34.
[12] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/258، 259.
[13] ابن الجوزي: المنتظم 10/53.
[14] ابن العديم: زبدة حلب 2/250.
[15] أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية 1/161.
[16] ابن الأثير: الباهر ص84.
د. راغب السرجاني