نتكلم في هذا المقال عن صفتين أساسيتين للحاكم المسلم، وهما: الجدِّيَّة والحسم، فكم أضاع الترف والتردُّد فُرَصًا على المسلمين؟ وكم أدخلا المسلمين في أزمات ومشكلات؟ وهاتان الصفتان كانتا واضحتا المعالم في شخصية القائد عماد الدين زنكي، فلنقترب منهما:
أولًا: الجدِّيَّة:
وُلد عماد الدين زنكي ونشأ وعاش في ظروف تفرض عليه الجدِّيَّة في كل أموره؛ فقد وُلد في زمان فتن، كان التصارع فيه بين الأمراء المسلمين مشتهرًا، وقُتل أبوه في واحد من هذه الصراعات، ونشأ عماد الدين زنكي يتيمًا ووحيدًا؛ إذ كان لا أخ له، وترك موطن نشأته حلب واتجه إلى الموصل، وعاش حياة عسكريَّة منذ نعومة أظافره، ورأى الصليبيين يجتاحون بلاد المسلمين، فعاش القضيَّة بكل ذرَّة في كيانه، وكان لا ينسى قط أن الأقصى أسير في يد الصليبيين، وأن أنطاكية والرها وبيروت وعكَّا وطَرَابُلُس وغيرها -أيضًا- في يد الصليبيين، وأن أرواح المسلمين تُزْهَق ليلَ نهارَ، وأموالهم وأعراضهم تُستباح بشكل متكرِّر.
هذه الظروف جعلت منه شخصًا جادًّا تمامًا، وأيُّ شخص يفقد جدِّيَّته في مثل هذه الظروف هو رجل منزوع المروءة، ليِّن الدين والعقيدة.
وهذا الجِدُّ الذي تميَّز به عماد الدين زنكي كان يمنعه من الاستسلام للراحة، فلا يستريح ولا يَقْبَل بالترف، وليس معنى هذا أنه لم يكن يبتسم؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أكثر الناس تبسُّمًا، فعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكْثَرَ تَبَسُّمًا مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم»[1]. ولكنه كذلك كان أكثر الناس جديَّة، وأكثرهم بُعدًا عن الهزل والمزاح، وكان في مزاحه القليل لا يكذب ولا يتجاوز.
وهكذا تابعه عماد الدين زنكي في حياته، لقد كان دائم الفكر، كثير الصمت، لا يتكلَّم مع الناس إلاَّ قليلاً؛ لأن ذهنه دائم العمل لصالح المسلمين، ودائم التدبير للأمور العظام، وهذا كان يُعطيه هيبة عظيمة، كتلك التي كان يلاحظها الجميع على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي هيبة غير منكرة ما دام ليس فيها ظلم أو تجاوز أو كبر.
والأشخاص العظيمة دائمًا لها هيبة، وراجعوا بعض المواقف من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نعرف أن هذه الهيبة غير منكرة بضوابطها الشرعية. روى ابن ماجه عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلٌ فكلَّمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: «هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ»[2].
فهذا رجل يرى الرسول صلى الله عليه وسلم فترتعد فرائصه، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس، ولكن لهيبته ولمركزه ولاحترام الناس له ارتعدت فرائص الرجل؛ فهوَّن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطمأن قلبه.
وهكذا كان عماد الدين زنكي.. خرج يومًا من قلعته، وكان الحارس نائمًا، فأيقظه حرَّاس عماد الدين زنكي، فلمَّا استيقظ ورأى عماد الدين زنكي سقط على الأرض من الخوف، فقلبوه، فوجدوه ميتًا[3]!
وليس معنى هذا أن ذلك غلظة في عماد الدين زنكي أو قسوة، فما عُلِمَ عنه تجاوزٌ في معاملة الناس أو الرعيَّة، ولكنها الهيبة التي جعلت له مكانًا عظيمًا في قلوب الناس.
وقد عاش عماد الدين زنكي حياة الجدِّيَّة دون تكلُّف؛ فهو لم يكن يُرغم نفسه على الجدِّيَّة، بل كان يأْلفها ويأنس بها، حتى قال ابن الأثير في حقِّه: «كانت أصوات السلاح ألذَّ في سمعه من غناء القينات»[4]. فبينما كان هناك مَنْ يستمتع بسماع الموسيقى والأغاني، كان عماد الدين زنكي يجد متعته في سماع أصوات السلاح؛ سواء في ميادين الجهاد أو في ساحات التدريب.
وقد أثَّرت هذه الجدِّيَّة في هواياته، فكان إذا أراد التخفُّف قليلاً من الأعباء الثقيلة التي عليه، وأن يُرَوِّح عن نفسه ساعة فإنه كان يقوم بواحدة من ثلاث:
إمَّا أن يخرج إلى صيد الطيور والوحوش، ولا يخفى ما في ذلك من تدرُّبٍ على الرماية والمناورة والتخفِّي[5]، وهو بذلك يُساعد نفسه على مهارة أعلى تعود عليه بالنفع في ميادين الجهاد، وكانت أحبُّ الهدايا إليه ما كان صيدًا، وكذلك كان يُهدِي هو إلى الملوك والأمراء ما اصطاده هو من فهودٍ وصقور ونحو ذلك[6].
وإمَّا أن يتمرَّن على الفروسيَّة ويعقد مسابقات الخيل، وكان من أمهر الخيَّالين، وأعظم الفرسان.
وإمَّا أن يأخذ قاربًا ويتنزَّه منفردًا في نهر دجلة، سابحًا في ملكوت الله، متفكِّرًا في السموات والأرض، أو متدبِّرًا في الأحداث والمواقف، وهذه الخلوات كانت كثيرًا ما تفيض عليه بفكرة جميلة، أو حيلة ذكيَّة، أو بخشوع في القلب، أو سكينة في الجوارح[7].
هذه هي لحظات الترفيه في حياة المجاهد العظيم عماد الدين زنكي!
ثانيًا: الحسم:
وهي صفة من ألزم صفات الحاكم الواعي، ومن ألزم صفات عماد الدين زنكي أيضًا، لقد كان عماد الدين زنكي حاسمًا في كل أموره، فكان سريعًا ما يقطع بما يُفيد، ويبدأ في التنفيذ دون تردُّد.
ففي بداية ولايته أدرك أنه لا طاقة له بحرب الصليبيين قبل أن يُعِدَّ العُدَّة، فعقد معهم هدنة مؤقَّتة، ثم بعد ذلك تَراه يُحارب ويُجاهد، ولا يقبل بأطروحات السلام من الصليبيين، وفي كِلا الأمرين كان حاسمًا في عرضه للهدنة وفي سعيه للجهاد، وكثيرًا ما قرَّر الهجوم في النهاية، وفي ظروف أخرى كان يُقَرِّر الانسحاب، ويرى أنَّ الظروف لا تحتمل حربًا وقتها، فلا يُكابر أو يُعاند، إنما يُفَكِّر سريعًا، ويُنَفِّذ سريعًا، ويُرِيح الجميع بقراره الحاسم.
والأمثلة هنا أكثر من أن تُحْصَى، بل هي كلُّ حياته، والتفصيلات في المقالات القادمة عند الحديث عن خطواته في حكمه وجهاده ستبيِّن لنا ذلك بوضوح.
فتابع معنا.
[1] الترمذي: كتاب المناقب، باب في بشاشة النبي ﷺ (3641)، وقال: هذا حديث حسن غريب. وأحمد (17740)، وقال شعيب الأرناءوط: حديث حسن.
[2] ابن ماجه: كتاب الأطعمة، باب القديد (3312) واللفظ له، والحاكم (3733)، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وقال الألباني: صحيح (7052) صحيح الجامع.
[3] ابن واصل: مفرج الكروب 1/105.
[4] ابن الأثير: الباهر ص81.
[5] انظر: ابن منقذ: الاعتبار ص192، 193.
[6] ابن العديم: زبدة حلب 2/263.
[7] عماد الدين خليل: عماد الدين زنكي ص181.
د. راغب السرجاني