التربية الأسرية
يحكى ( ** ) أن رجلاً تعلم الطب ومَهَر فيه، ثم ترك الاشتغال به وانصرف إلى الاشتغال بأمور التربية ومعالجة مسائلها، فلما سئل عن سر ذلك التحول أجاب: «وجدت بالاستقراء الدقيق أن معظم أسباب العلل الإنسانية الجسمية والنفسية يرجع إلى نقص في التربية، فآثرت أن أستأصل الداء من جذوره باستئصال سببه الأول. عليَّ أن أقضي الوقت في علاج ما ينجم عن هذا السبب، والوقاية خير من العلاج، ولا شك أني بذلك أقوم بخدمة أعظم للإنسانية بقدر ما بين طب الأمم وطب الأفراد»( الموسوعة العلمية الحديثة: 1/26 )
القيام بالتربية الأسرية واجب شرعي دلت عليه النصوص الشرعية وتفرضه المصلحة الواقعية ويقتضيه العقل الحصيف، قال الحق - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْـحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: ٦]. وقال علي - رضي الله عنه -: «علموا أنفسكم وأهليكم الخير» (الحاكم في المستدرك )
وقال بعض أهل العلم: إن الله - سبحانه وتعالى - يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عــن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً فللابن على أبيه حق؛ فكما قال - تعالى -: {وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إحْسَانًا} [الأحقاف: 15]، قال - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: ٦].
واستمع إلى هذه الأبوة الحانية وهي تسوق تأديبها في حلة قشيبة من التذكير والحض وإيقاظ دوافع النفس الخيرة: {وَإذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الإنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إلَيَّ الْـمَصِيرُ (14) وَإن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ ثُمَّ إلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إنَّهَا إن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ} [لقمان: 13 - 19].
التربية عملية منهجية تحتاج إلى معرفة ومهارات وصبر على المتابعة. ولأسلوب التنشئة الاجتماعية الذي يسلكه الوالدان في الأسرة أثرُه الفعال في الصحة النفسية لأبنائهما، فالأسلوب القائم على الشورى والتقبل يولد شعوراً إيجابياً لدى الناشئ تجاه ذاته أولاً، ويساعده على التكيف مع الأسرة والمدرسة والمجتمع والأصدقاء ثانياً.
بينما الأسلوب القائم على القهر والتسلط والإلزام الدائم فإنه يولد شعوراً سلبياً عند الناشئ تجاه ذاته أولاً ثم تجاه الأسرة والمدرسة والمجتمع والأصدقاء ثانياً، بل ويزيد من احتمالات ظهور مشكلات سلوكية لديه، وهذا ما انتهت إليه دراسة أجرتها أ. د نسيمة داود، و أ. نزيه حمدي على عينة من الطلبة العاديين والمضطربين سلوكياً في الأردن(الأسرة والطفل, ص 54-56. )
كما تظهر نتائج البحوث أن هناك مجموعة من المهارات التي يسهم الوالدان في تعليمها لأولادهما تحدد مستوى نجاح الطفل أو فشله في مرحلة الرشد. وتقع هذه المهارات في ثلاثة مجالات:
المجال الاجتماعي، والمجال المعرفي واللغوي، والمجال السلوكي.
المجال الاجتماعي:
تتضمن مظاهر النمو السوي في المجال الاجتماعي ما يلي:
1 - التفاعل الناجح مع الآخرين والتعاون معهم.
2 - غياب السلوك العدواني في العلاقة مع الآخرين.
3 - وجود علاقات صداقة بين الطفل وأقرانه.
4 - فهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم.
5 - استخدام أسلوب حل المشكلات عند مواجهة تلك المشكلات.
وثمرة النجاح في المجال الاجتماعي أمران مهمان:
1 - القدرة على إنشاء أسرة، وإقامة علاقات جيدة مع أفرادها، والقدرة على إقامة علاقات ناجحة مع الأهل والأقارب والأصدقاء.
2 - النجاح في العمل بمعناه الواسع والذي يبدأ بالعلم المدرسي الذي يستهدف التأهيل لمهنة معينة، ثم النجاح في خط مهني يختاره الشخص ويسير عليه.
المجال المعرفي واللغوي:
تتضمن مظاهر النمو السوي في المجال المعرفي واللغوي ما يلي:
1 - القدرة على التفكير المنطقي بحيث يكون الناشئ قادراً على الوصول إلى استنتاجات منطقية صحيحة قائمة على الحقائق الموضوعية.
2 - القدرة على استخدام التفكير العلمي في حل المشكلات القائم على جمع البيانات، والموازنة بين الفروض المختلفة للوصول إلى الحل السليم.
3 - القدرة على فهم أفكار الآخرين فهماً سليماً.
4 - القدرة على توصيل الأفكار إلى الآخرين باستخدام الرسائل اللفظية وغير اللفظية.
المجال السلوكي:
وتتضمن مظاهر النمو السوي في المجال السلوكي ما يلي:
1 - ضبط الرغبات وتأجيل الإشباع عندما يتعلم الناشئ أن يضبط رغباته ويتصرف بطريقة عقلانية قائمة على التفكير وليس على القهر العاطفي، فهو يمكن أن يؤجل رغبته في الخروج إلى رحلة أو مشاهدة ما يحب من أجل أن ذلك يتعارض مع أدائه لواجباته المدرسية مثلاً.
2 - الضبط الذاتي للانفعالات والسلوك، فإذا غضب استطاع أن يسيطر على غضبه، وهو يتحكم في مستوى الانفعال لديه ولا يستسلم للمعالجات الخاطئة، فلا يقوده التوتر والقلق إلى اللجوء إلى المهدئات أو المخدرات ونحوها، بل يستخدم الأساليب المناسبة؛ كالتفكير بشكل منطقي واستخدام تدريبات الاسترخاء.
في تلك المجالات الثلاثة يجب أن تقوم الأسرة بواجبها في التنشئة الإسلامية من خلال:
1 - تقديم نموذج حي في هذه المجالات الثلاثة، فالوالدان يتصرفان مع الآخرين بطريقة تعاونية ويبديان تفهماً وتعاطفاً لسلوك الآخرين. كما يقدمان نموذجاً حياً للتفكير المنطقي البعيد عن الغلو والانفعالات؛ باستخدام أساليب حل المشكلات في فهم أفكار الآخرين وتوصيل الأفكار إليهم.
كما يكون الوالدان مثالاً حياً في ضبط الرغبات والضبط الذاتي والتحكم بالانفعالات وتأجيل الإشباع للحاجات والمشتهيات.
2 - تعزيز السلوك الصحيح لدى الأبناء في المجالات الثلاثة والإشادة به والمكافأة عليه.
3 - إيجاد القناعة لدى الأطفال بأساليب التنشئة الصحيحة ورفع مستواهم الثقافي في معرفتها ومعرفة فوائدها.
4 - تدريب الناشئة على المهارات اللازمة في المجالات الثلاثة من خلال دورات متخصصة أو مراقبة سلوكية دائمة تعزز الصواب وتدل على الخطأ برفق.
وقبل هذه المجالات بل هو الموجه لها: التربية الإيمانية التي تربط المربي بالله - عز وجل - وتعلقه بخالقه، ويتجلى ذلك في:
1 - المحبة لله - عز وجل - من خلال النظر إلى نعمه والاستغراق في التفكير في موارد إحسانه، ورؤية اللطف في موارد قدره.
2 - الخوف من الله خوفاً يملأ القلب ويكف عن المحارم ويزجر عن غشيان الفساد.
3 - تعظيم حرمات الشريعة وامتلاء القلب يقيناً باشتمالها على ما يضر العبد في دنياه قبل أخراه.
والوالدان هما المثل الحي أمام الأبناء في ظهور السلوكيات الدالة على وجود هذه المعاني الإيمانية في نفوسهم، مع التذكير بها دوماً وربط المتربي بها في السلوك اليومي.
وغني عن القول أن أصول التنشئة الصحيحة حفلت بها نصوص الشريعة، ففي مجال التعاون يقول الحق - سبحانه -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ والْعُدْوَانِ} [المائدة: ٢].
وفي تكوين سمة الاعتدال والتوسط يقول الحق - سبحانه -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143 ويقول أيضاً: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ الْـمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وفي تأسيس الإيجابية وحب المبادرة يقول: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
وفي تعزيز الانضباط السلوكي وتحمل الضغوطات النفسية يقول صلى الله عليه وسلم
: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملكه نفسه عند الغضب»، ويقول أيضاً: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف...» الحديث.
وفي تتمة روح المسؤولية يقول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته...» الحديث.
وفي تقوية ملكة التأمل وشحذ قوة التفكير يقول -تعالى -: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: ١٠١]، ويقول: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر: ٩]، ويقول: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: ١١] .
وفي تقوية الروح الاجتماعية وإحسان التكامل مع الآخرين يقول - سبحانه -: {وإذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86]، ويقول أيضاً: {إنَّمَا الْـمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]( يراجع: كتاب الأسرة والطفل، أ. د نسيمة داود، و أ. د نزيه حمدي، دراسة أعدت بتكليف من مكتب التربية العربي لدول الخليج. ص 65-73)
تتفق أكثر الدراسات التي اطلعت عليها والتي جرى بحثها على شرائح من المجتمع السعودي أو بعض المجتمعات الخليجية أو العربية عموماً؛ على وجود خلل كبير في التربية الأسرية على الأقل في الميادين التي تناولتها تلك الدراسات، ففي دراسة الدكتور محمد السيف «تربية المراهقين والمراهقات في الأسرة السعودية» يشتكي عامة المراهقين من كون الآباء يطلبون منهم عمل المستحيل؛ كالانقطاع عن الأصدقاء، أو يقف الوالدان موقفاً متحيزاً في حال عراك المراهقين وجدالهم، وكذا السماح بالوشاية بين الأبناء ضد بعضهم، أو الغلظة في العقوبة التي تلجئهم إلى الكذب، أو ضعف المهارة في الاتصال، وهو ما يدفعهم إلى الانصراف عن الإنصات والاحترام لنصيحة الوالدين، أو الخشونة في اللفظ التي تعود بذاتها إلى استعمال الولد ذاته الأسلوب نفسه المتبع معه.
وأسوأ ما يكون حينما يربي الوالدان ابنهما تربية سلبية تجاه الأسرة الجديدة التي سيقودها، فيمتد ذلك الشقاء إلى الأسرة الجديدة التي لم يؤهَّل قائدها أو على العكس من ذلك أهِّل تأهيلاً غير سوي، وقد أدى ذلك بالفعل إلى واقع مؤلم في فشل مشروع الزواج في المجتمع، حيث أثبتت الإحصائية الرسمية الصادرة من وزارة العدل من عام 1404هـ ـ1424هـ أن ثلث مشاريع الزواج ينتهي بالطلاق، وتتراوح النســـب السنــوية ما بين 31% عام 1403هـ إلى 22% عام 1424هـ. هذا إذا نُظر إلى ظاهرة الطلاق بعامة، لكن إذا نظر إلى حالات الزواج الحديثة في المحافظات والمدن السعودية؛ فالأمر أشد، حيث تتراوح النسب ما بين 41% في منطقة الرياض إلى 17% في منطقة المدينة إلى 31% في المجمعة وهكذا. وينتهي الباحث الدكتور محمد السيف في دراسته الثانية (العشرة الزوجية والطلاق في الأسرة السعودية) إلى أن هذه الظاهرة نتاج خلل في ثقافة المجتمع وبنائه الاجتماعي بشكل أعم، ولا يصح إسناد هذه الظاهرة إلى تفسير جزئي كالدخل الاقتصادي أو عمل المرأة، أو مستوى التعليم وهكذا.
ومن أهم الجوانب المؤثرة في هذه الظاهرة: التربية الخاطئة من الأسرة للــرجل أو المرأة(ص 55، 58.)
بل إن التربية الخاطئة دفعت إلى جرائم خطيرة كما في دراسة أجريت على 228 من الخاضعات للتأهيل في مؤسسات رعاية الفتيات، حيث كشفت الدراسة عن أن 86.8% من عينة الدراسة ارتكبن ما وقعن فيه بحثاً عن مشاعر الحب والحنان والعلاقة الحميمة التي افتقدنها في بيت الزوجية أو بيت الوالدين من خلال سلوكيات الوالدين في التفرقة والتفضيل بين الأولاد وخاصة الذكور والإناث، أو تفضيل أولاد إحدى الزوجات، أو معاملة البنت بأسلوب النبذ والإهمال وعدم اهتمام الوالدين بحاجات البنت النفسية والاجتماعية والمادية(الحرمان العاطفي في الأسرة وعلاقته بجرائم البنات والزوجات، الدكتور محمد السيف، ص 38، وما بعدها.)
وشبيه بهذا من حيث الدلالة على ضعف أساليب التربية لدى الأسرة ما توصلت إليه الباحثة مها العلي في دراستها التي بعنوان: (إدراك الأبناء في مرحلة الطفولة المتأخرة لأساليب العقاب الضابطة المتبعة من قبل أمهاتهم، دراسة مسحية في ضوء بعض المتغيرات في مدينة الرياض)، وتكونت عينة الدراسة من 306 طلاب(215، وما بعدها )
وإذا تجاوزنا ذلك إلى خارج المحيط السعودي فسنجد شبيهاً بمثل هذه النتائج، ففي الدراسة التي أجراها د. حمدي ياسين، ود. حسن الموسوي، وأ. محمد الزامل على عينة من أطفال الروضة في مصر والكويت؛ نجد أن ثمة صوراً ومظاهر شائعة لإساءة المعاملة لطفلة الروضة في كل من مجتمعي عينة الدراسة، وتتراوح هذه الإساءة ما بين الإساءة العدوانية (كالتأنيب، والصراخ، والسخرية، والتهديد، والتخويف، والإحساس بالذنب، والاحتقار، والشكوى، والحديث بجفاء).
وبين أنواع أخرى من الإساءة (كتفضيل الإخوة، ورفض الطلبات، وعدم الاهتمام، والضيق، والحرمان من العطف).
كما تكشف الدراسة عن أن إساءة المعاملة للذكور أكثر من الإناث كان بهدف خلق الرجولة لديه وإعداده وتهيئته لمسرح أحداث الحياة وما تحمله من شظف وقوة (المجلة التربوية، عدد 55، ص 50، 58.)
إن الأسرة المسلمة بل والأسرة عامة تمر بها جملة من المتغيرات التي أثرت في الأدوار والمجالات التي تنهض بها الأسرة في تربية أفرادها، ومن جملة المتغيرات: المتغير الاقتصادي الذي كان له بجانب الجوانب الإيجابية جوانب سلبية تمثلت في ظهور الأسرة الثروية واتسامها بالعزلة والتفرد وتغير العلاقة بين الآباء والأبناء وضعفها، وتخلي الأسرة عن كثير من أدوارها في التعليم والتدريب على المهن المختلفة، وظهور بعض الأمراض النفسية والاضطرابات السلوكية عند الأبناء (ندوة: دور الأسرة في رعاية وتنمية الطفل: نظرة مستقبلية، ورقة الدكتورة آمنة خليفة، ص 13.)
ومن أهم المتغيرات: المتغير الإعلامي، حيث يعيش المتلقي في جو ثقافي كثيف وخفي يشكل وجدانه وعقله وتوجهاته. وقد دأبت أكثر أجهزة الإعلام على اقتباس النموذج الثقافي العالمي الذي يجري تعميمه على العالم كله، بل لم تكتف بذلك حتى أنتجت ثقافة مشوهة؛ ثقافة المتعة العابرة مع إشاعة التفاهة والسطحية والابتذال (المرجع السابق ورقة الدكتور حسن مدن، والدكتور علي عبد الرحمن عواض، ص 235-283.)
وأخطر ما في واقع التربية الأسرية أن عناصرها الأساسية (أعني: الوالدين) منصرفة عن التعلم والتدرب لقيادة الأسرة بشكل منهجي صحيح قائم على معرفة نفسيات من يربونهم وحاجاتهم المتنوعة بتنوع جنسهم وعمرهم، ومعرفة الأساليب المساعدة في تحقيق الطموحات التي تريدها الأسرة.
وإذا كانت الثقافة في هذا المجال ضعيفة؛ فأضعف منها الإحساس بالحاجة إلى تكوين هذه المهارات، فضلاً عن البحث عن تحصيل هذه المهارة، فضلاً عن الانخراط في برنامج منتظم لتحصيلها.
فالأكثر يعتمد في أساليبه التربوية على محاكاة ما كان يعامله به والداه، أو ما يسمعه من أقاربه وأصدقائه، أو ما يشاهده من بعض الممارسات الإيجابية.
وعلى هذا؛ فهو يخوض معركة ليس معه سلاحها، ويكون ضحية هذا التفريط براعم هذه الأسرة، وقد لا يدرك الوالدان كثيراً من أخطائهما إلا بعد فوات الأوان.
ومن أخطر الأشياء: الاتكال على المؤسسات المجتمعية الأخرى؛ كالمدرسة والظن بأن هذه المؤسسة أو تلك تكفي للقيام بكل المهمة، ومن ثم يضعف الشعور بالمسؤولية لدى الوالدين ويكلان أمر التربية إلى جهة خارجية.
تتراوح أساليب التربية الأسرية - كما يذكر بعض الباحثين - بين ثلاثة أساليب، أسلوب الحرص المبالغ فيه الذي يقف فيه الوالدان بكل دقة وراء تصرفات أفراد الأسرة، متبعين ذلك بسيل من الإرشادات والتوجيهات وألوان من العتاب والعقاب؛ بغية النشأة التي يتصورون أنها خير نشأة، وربما اصطحبوا تربية الوالدين لهم ونصبوا أمامهم آمالهم التي يبتغون وصول ولدهما إليها.
وأسلوب ثانٍ غير مبالٍ بتصرفات الأولاد تاركاً للآخر أن يقوم بالدور، وربما ظن أن عوامل السن التي يصير إليها المتربي كافية في اختفاء السليبات وحصول الإيجابيات. وقد يكون هذا النوع من الأساليب استراتيجية دائمة عند المربي، وربما سلكه بعد يأس اعتراه إثر محاولات لم يكتب لها النجاح.
والأسلوب الثالث مزيج من الحدب والحرص على المتربي؛ مع قسوة أحياناً، وإهمال أحياناً، وذلك ناشئ من فقد الآلة المناسبة التي يرجو المربي أن يصل بها إلى مبتغاه.
وهناك أسلوب آخر ناجح قد تزود بالعلم وتسلح بالمهارة ومارس التربية بوعي ونضج، وهذا قليل، ولكن في غياب الدراسات الشاملة يصعب إعطاء نسب دقيقة لممارسة كل نوع من هذه الأساليب في المجتمع.
وفي الختام: يمكن اقتراح جملة من المقترحات التي أرى أنها تساهم في حل هذه الأشكال وتحقيق المبتغى.
وهذه الاقتراحات تندرج تحت دائرتين:
الأولى: دائرة الوعي، والثانية: دائرة العمل والممارسة.
ومن أهم هذه المقترحات ما يلي:
1 - إشاعة العلم بأهمية الثقافة الأسرية حتى يحس الناس بالحاجة الماسة إليها، ومن ثم السعي في تحصيلها، ويشترك في تحصيل هذا الوعي المسجد والمدرسة وجهاز الإعلام.
2 - رسم استراتيجية وطينة للنهوض بالتربية الأسرية يسهم فيها أجهزة المجتمع؛ بدءاً من وزارة التربية والتعليم ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الشؤون الإسلامية ووزارة العدل ووزارة الإعلام؛ من خلال الندوات والمحاضرات وحلقات النقاش وإعداد كتيبات ومطويات تدعم المهمة التربوية للوالدين وتنمي القيم التربوية لدى البنين والبنات.
وتقترح الورقة أن يكون هناك أسبوع سنوي للتربية الأسرية تكثف فيه البرامج التوعوية بهذا الأمر. ومن نافلة القول: أن هذا المشكل التربوي لا يقل أهمية عن البرامج التوعوية التي تأخذ أسبوعياً سنوياً في التوعية بذلك المجال.
3 - تضمين المناهج التعليمية في مدارس البنين والبنات الثقافة الأسرية المناسبة في أواخر المرحلة الثانوية والمرحلة الجامعية، حيث يكون الوقت مناسباً لبناء الأسرة عند بعضهم.
4 - إيجاد كراسي بحث في الجامعات السعودية لأبحاث الأسرة والمجتمع؛ لتشجيع البحوث الميدانية ورصد الظواهر السلبية ورسم الخطط لمقاومتها والقضاء عليها، واستثمار نتاج تلك الأبحاث الميدانية في المواد التعليمية للثقافة الأسرية.
5 - الإكثار من مراكز الإرشاد والتدريب الأسري في المدن والأحياء، ومن الأمل الذي نرجو أن يتحقق أن تنتشر تلك المراكز حتى تكون في كل حي من أحياء المدن الكبرى؛ لتكون عوناً للأسر في تجويد التربية ومقاومة الظواهر السلبية وإعانة الأسرة على حسن التصرف مع من يربونهم.
6 - اشتراط حدٍّ أدنى من المعرفة والمهارة بإدارة الأسرة وحل المشكلات لدى من يريد بناء أسرة جديدة؛ يطالب به الزوجان كما يطالبان بالكشف الطبي. ومما يرشح هذا المقترح نجاح تجربة بعض مشاريع الزواج في المملكة في احتواء المشاكل الأسرية لدى من يدعمونهم، وتخفيض حالات الطلاق من خلال دورات قصيرة في إدارة الأسرة.
7 - لقد آن الأوان لوجود المجلس الأعلى للأسرة الذي يعتني بهذه الجوانب كلها بل وأكثر من ذلك. وأعتقد أن وجود مثل هذا المجلس ضرورة شرعية ووطنية واقتصادية وأمنية؛ نظراً لكونه يحقق المصالح الشرعية في كل هذه الجوانب.
وإذا كانت هذه المقترحات عامة يقوم بأكثرها أجهزة مساعدة خارج الأسرة؛ فذلك لا يغني عن مبادرة الأسرة إلى جملة من الأسباب، منها:
1 - التثقيف الذاتي؛ بالقراءة وحضور الندوات والانتظام في الدورات التدريبية.
2 - بلورة رسالة مستقبلية للأسرة يشترك في رسمها أفراد الأسرة كافة؛ ليتولد لدى هؤلاء الأفراد دافع ذاتي لتحقيقها ومن ثم الارتقاء بقيم هؤلاء الأفراد وأخلاقهم مع ما ينتج من ذلك من ترابط أسري وتوزيع للأدوار بشكل منهجي عملي.
3 - تعويد الأولاد على تحمل المسؤولية وتدريبهم على ذلك، وحينئذ يشعر الفرد بقيمته في أسرته، ومن ثم يصقل ذاته بالمهارات اللازمة للأسرة الجديدة التي سيقودها بإذن الله.
4 - تكثيف الاستشارة من الوالدين للخبراء في التربية؛ لعلاج المشكلات الطارئة التي تتعرض لها الأسرة، والمبادرة بذلك قبل أن تصل الحالة إلى درجة يصعب علاجها أو يطول.
وختاماً: فلست أجد أنفع في التربية ولا أجدى في تحقيق طموحات المربي من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «... وما أعطي أحد عطاءً أوسع من الصبر».