د. علاء مشذوب
لنظرية استجابة القارئ مجموعة شروط منها ان يكون هذا القارئ على مستوى من الثقافة بحيث يستطيع استيعاب ما يطرحه الكاتب. ولما كانت الرواية تبتعد عن طريقة المباشرة وتتجه الى الإيحاء والرمز، فيجب ان تتوفر في القارئ القدرة على قراءة ما بين السطور بطريقة التأويل التي تليق بتلك الإيحاءات والرموز. وان يكون مطلعا على بعض المدارس الأدبية التي تنتمي إليها الرواية،
فكتّاب الرواية الفرنسية يختلفون عن كتّاب الرواية الروسية ومثلهم في أمريكا الشمالية واللاتينية والعربية والعراقية وهكذا.
وهذه مشكلة أو عقبة تواجه النصوص الواعية في عدم توفر ذلك القارئ الذي يمتلك الشروط والأدوات التي تستطيع فك مغلقات النصوص وإيحاءاتها، إلا من كان على مستوى النخبة أو من تمرس في قراءة النصوص بطريقة واعية. ولعل نص – سفاستيكا – من النصوص الواعية التي قرأت تاريخ العراق بشكل متميز ومنصف، هذا التاريخ له حكايات مؤلمة هيمن عليه الوضع السياسي وأصبح كل شيء فيه صدى له، حيث يحكي (علي غدير) قصة العراق السياسية من خلال روايته التي تحمل اسم (سفاستيكا) ومعناها (مُفضٍ الى الرفاهة) عن طريق (النائب) الذي نزح من أحدى القرى النائية من شمال العراق الى العاصمة بغداد من أجل هدف تافه هو أن يحقق رغبة جنسية مع فتاة – دلال – ذاع صيتها في قريته وقدرتها على إسعاد الشخص الذي يقضي معها ليلة حمراء. هذه الرغبة الجنسية ألقت بظلالها على الشخصية الرئيسة (حواس) ما جعله يسرق خلخال أمه ليطأ أرض العاصمة مركز القرار السياسي وما يتبعه من امتلاك مفاتيح كل ما بعده.
الرواية في بدايتها تتعرض لنقد الدين بشكل لاذع من خلال حوار يدور بين حواس وابن شيخ قريته، وهو يتذكر الحديث الذي دار بينهما ذات جلسة: يستطيع أبي أن يشتري الجنة بماله. صرخ حواس باستفزاز: أستغفر الله... لا تكفر؟ بل أن أبي يستطيع أن يكون رفيق النبي في الجنة، وأصبر حتى أبين لك. زفر حوّاس غيظه، وهز رأسه متأففاً: هات ما عندك. لو أن أبي كفل يتيما من أيتام القرية بماله، حتى أبلغه أشده، وزوجه، وأوكل إليه عملا يقتات عليه هو وعائلته، فإن أبي سيندرج ضمن حديث النبي (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، وفي (ص27) تستمر الرواية في توجيه النقد للدين من خلال توتر حوّاس وتخبطه عندما يقول: المدرس يكذب... لقد قال أيضا (الجنة تحت أقدام الأمهات) وكلما نظرت تحت قدمي أمي، وجدت فطورا غارزة في كعبها، ورائحة نتنة تنبعث من بين أصابعها... كيف للجنة أن تكون سبخة نتنة؟ إنه يكذب.
ثم يتسلسل الراوي الى القارئ من خلال نبوءة العرافة، فوضع مثل العراق لا يمكن له أن يقرأ قراءة طبيعية ضمن تسلسل زمني اعتيادي، فأحداثه جسام، والكوارث التي حلّت به لا يمكن لها إلا ان تكون أساطير من الزمن الغابر القائمة على الصدفة واللقاء المفاجئ والحلم وحلم اليقظة والسحر والخرافة، كما في لقائه مع الرجل العجوز المتخصص في تدريس (الحظ السعيد) وصاحب مقولة (العرافون فُتات الأنبياء) في القطار، لمح ورقة نقدية من فئة الدينار مكان العجوز، تناولها لكنه تفاجأ بأنها شطر من دينار، مدوّن عليه بحبرٍ أخضر تأريخ الليلة الماضية (ص19). او المرأة المكللة بالسواد، تجلس عند ركن المطعم، تفترش سجادة زرقاء من قماش القطيفة، يمتد بعضها أمامها، لتبعثر عليه أحجارا ملونات... قالت له وهي تمسك بأطراف أصابعه في (ص31): اليوم ستلتقي بشخص قوي متين، سيكون كالعفريت مع علاء الدين. ستدير المفتاح في يمناه، وتطلب منه ما تتمناه. سينفذه لك على الفور، بكلماتٍ خضر. سوف يتكرر اللقاء مرارا وفي كل مرة سيتأهب لتلبية رغبة جديدة.
هذا الشخص القوي هو السيد (النائب) الذي يتكرر في ثلاث شخصيات بطريقة متوالية من خلال شطر الدينار الذي يتكرر في الثاني والثالث، أولها شخصية نائب رئيس الجمهورية سابقا، وشخصية النائب الثاني المتمثلة بوصوله – أي حواس – الى منصب نائب رئيس الوزراء في الوقت الحاضر، وحكاية النائب الثالث التي أجهضها في مهدها والمتمثلة بقصة الصبي النازح من البصرة. وأغلبنا يعرف ان النائب – صدام حسين – كان هو الحاكم الفعلي في زمن إحكام نظام البعث المقبور قبضته على زمام الحكم في سبعينات القرن المنصرم، وهو من وقع اتفاقية الجزائر، وهو من مزقها وأقام الحرب مع إيران بعد إعلانها تصدير الثورة الإسلامية الى دول الجوار، ومن ثم إعلان وقف الحرب بعد مرور سنتين ولكنها تستمر لتأكل الحرث والنسل.
وما ان تمر السنين ويُحتل العراق من قبل التحالف الدولي بقيادة الأمريكان، حتى تعاد قصة النائب الزاحف من القرى والأرياف الى مركز القرار السياسي ليسيطر على كل مقومات البلد – العراق – بعد رفع الحصار وتدفق مليارات الدولارات على الخزينة الخاوية إبان فترة الحصار المرهقة والمميتة لشعب العراق وأرضه. وسواء أكان هذا النائب متمثلا بشخص أو بمجموعة أشخاص هي الأحزاب الإسلامية الحاكمة والتي عاثت بالأرض فسادا، فإن لها سقفا زمنيا ذاهبا الى الزوال، ومن ثم يتنبأ للعراق من خلال نبوءة ان تجربة هذا النائب سواء أكان نائب رئيس الجمهورية أو نائب رئيس الوزراء، لم ولن تتكر مرة ثانية، من خلال قتل النائب الموعود واسمه (ناموس) يتجلى ذلك بوضوح من خلال السرد الدائري للنص بحيث تعود الحكاية من جديد تسرد نفسها ففي (ص34) والتي تليها، نقرأ الحوار التالي:
- لا والله... أنا ابن عشائر، لست متشردا.
بلهجة قروية صاح حواس، الذي بقي مقيدا، عاجزا عن الحراك.
انفتح باب المركبة الأمامي الأيمن بهدوء، حطت على الأرض قدم تحتذي حذاءً كحليا برّاقا، تلتها القدم الأخرى، اعتلت إطار الباب كف يسرى كبيرة، تمسك بقوة بين سبابتها ووسطها بسيجارة فاخرة، يتصاعد دخانها بزهو. بان من وراء الباب بطلّته التي تبث الرهبة. وجهه الحنطي، شارباه الأسودان المنمقان بعناية فائقة يتوجان ابتسامة لا تكاد تميّز من الوقار، نظرته الثاقبة، شعره الأسود المرجل دُبراً، قامته الفارعة الممشوقة، بزته الكحلية، انصياح المحيطين به... انه الرجل القوي بلا ريب، الرجل الذي أربك حوّاس غاية الإرباك، وهو يتجه صوبه بعد ان أومأ إليه بأطراف يمناه سأله بثقة:
- من أين أنت؟
- من قرى كركوك.
هذا الحدث والحوار يتكرر نصا في (ص138)، مع فارق بسيط جدا هو وصف الشارب والشعر الأشقر، بين نائب رئيس الوزراء (وسمان) وهو يصدم شابا في وسط الشارع أثناء تنفيذه لوصية النائب الأول قبل إعدامه وهو يطلب منه أن يسير في شوارع الكرادة، وكذلك عندما يسأله النائب وسمان:
- من أين أنت؟
- من قرى البصرة.
عندها أمر وسمان حرسه بتفتيش جيوب ناموس: فتشها الحارس بدقة، وجد ورقة في جيبه، ناولها لوسمان. كانت شطرا من دينار، بلون أخضر مزرقٍ، وزخارف منمقة معقدةٍ، دوّن عليه تاريخ الليلة الماضية السابع من شباط العام 2007، بخط جميل وحبر أخضر. أخرج وسمان محفظة نقوده، فتح جيبا سريا فيها، أخرج منها شطر دينار احتفظ به ثمانية وعشرين عاما. قارن بين أرقام التسلسل في الشطرين، كانت الأرقام متماثلة (51243) قدحت عيناه في وجه الشاب، ألقى السيجارة بين قدميه، كاد ينفجر... تنهد وسمان، هز رأسه موافقا، نظر الى حارسه، قال له بهدوء: هل ترضى أن يحكم شخص كهذا أبناءك، في المستقبل؟ ضحك الحارس بسخرية، قال: كهذا؟! مستحيل. عندها قال له وسمان: إذا عليك أن تصفي الموقف. انطلقت المركبة مسرعة، أضاء وسمان مصباحها الداخلي، قارب شطري الدينار، التحما لأول مرة، أخرج قلمه الأحمر، خط خطا تحت رقم التسلسل (51243)، كتب حروف اسمه (وسمان) تحت الأرقام... قرأ الكلمة وفق الترتيب الجديد، بهت مما ظهر أماهه. في تلك الأثناء كان خرير دم ينساب من صندوق المركبة، ليرسم خطا أحمر، يمتد كذيل طويل، خلف المركبة التي ولجت رئاسة وزراء جمهورية العراق (ص140).
أما الجانب الفلسفي للنص فيدور حول أفضلية يجريها الكاتب بين الجنس والمال المعزز بالمناصب، ورغم انها مقارنة قد لا تصح مع الإنسان العربي الشرقي، إلا انه يجريها بطريقة بارعة، عندما يطمع ذلك القروي بالمال الذي منحه إياه النائب الأول، ويرفض ان يقتسمه مع العرافة "سيهبك مكافأة مالية كبيرة. عليك ان تقسمها بيني وبينك، وإن خنت العهد حلّت عليك لعنتي (ص31). فتحل عليه اللعنة، لكنها لا تؤرق (حواس) الذي تُغيّر اسمه حواء الى (وسمان) ليتلاءم مع الوضع الجديد الذي أصبح فيه. رغم تعرضه باستمرار لامتحان الذكورة مع الكثير من النساء أثناء تسنمه مناصب متقدمة في الدولة، وربما أراد أن يوحي الراوي من خلال هذا العقم الى ان فكرة النائب لا يمكن أن تتكرر مرة أخرى في قادم الأيام كما أسلفنا سابقا.