إن أول ما يلفت الأنظار في كتاب رب العالمين، أن كل السور فيه - باستثناء سورة التوبة - قد صُدِّرت بالبسملة، وأُلحِق بالبسملة صفتا الرحمن الرحيم.. وليس يخفى على أحد أن تصدير كل السور بهاتين الصفتين أمر له دلالته الواضحة على أهمية الرحمة في التشريع الإسلامي.. ونجد أن سورة الفاتحة وهي أولى السور قد افتُتِحت بالبسملة - وفيها صفتا الرحمن الرحيم - كبقية السور، ثم تجد فيها صفتي الرحمن الرحيم قد تكررتا في السورة ذاتها، وهذا التصدير للقرآن الكريم بهذه السورة بالذات له دلالته الواضحة أيضًا..
وهو أن الرحمة مُقدَّمَة بلا منازع على كل الصفات الأخرى، وأن التعامل بالرحمة هو الأصل الذي لا ينهار أبدًا، ولا يتداعى أمام غيره من الأصول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي، فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ»[1]. فهذا إعلانٌ واضح أن الرحمة مقدمة على الغضب، وأن الرفق مقدم على الشدة.
رحمة عماد الدين زنكي:
لعلَّ الكثيرين يتعجَّبُون من وجود هذه الصفة في عماد الدين زنكي، أو في معرض حديثنا عن صفات الحاكم المسلم متمثِّلة في عماد الدين زنكي!
ووجه العجب أن الذي يشتهر عادةً عن القادة العسكريين هو الغلظة والجفاء وقسوة القلب، كما أن الحاكم بما يُقيمه من حدود، وبما في يده من وسائل للعقاب قد يأخذ صورة مخالفة للرقَّة والرأفة، غير ما اشتهر -للأسف الشديد- في بعض الكتب عن عماد الدين زنكي شخصيًّا أنه كان قاسيًا غليظًا!
وواقع الأمر أن صفة رقَّة القلب والرحمة من الصفات اللازمة للحاكم المسلم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس، مع كونه حاكمًا وقائدًا ومجاهدًا من الطراز الأول[2]؛ وكانت هذه الصفة موجودة -أيضًا- في عماد الدين زنكي، ولكن لجديته الشديدة ولانشغاله طيلة حياته بالأمور الجسيمة العظيمة، وبتحرير بلاد المسلمين من الغاصبين أُخذ عنه الانطباع بالقسوة والغلظة على خلاف طبيعته.
إن ما ذكرناه سابقًا عن رفقه بالفلاحين، وخوفه على أرزاقهم وأملاكهم وزرعهم وتِبنهم، لا يمكن أن يكون إلاَّ من قلب رقيق مفعم بالمشاعر.
ثم إنه كان لا يُؤاخذ الناس بالخطأ الأول، وكان يعفو ويصفح إلى أبعد الحدود، ولا يعزل أحدًا من منصبه إلاَّ بتكرار الخطأ، أو بارتكاب ما لا يجوز معه الغفران؛ ولذلك فإن معظم مَنْ عيَّنهم في الإمارات المختلفة ظلُّوا معه إلى آخر لحظات حياتهم، أو إلى آخر حياة عماد الدين زنكي نفسه؛ لأنه كان دائم الصفح عنهم.
وكان من عادته أن يتصدَّق جهرةً كل جمعة بمائة دينار[3]، وذلك رحمة منه على الفقراء والمساكين، وكان يفعل ذلك جهرًا ليُشَجِّع الأغنياء على الاقتداء به، فيعم الخير على الجميع، لكنه كان له في كل يوم صدقةٌ كبيرة لا يعرفها إلاَّ وزيره فقط، وفي هذا تُروى قصة لطيفة!
كان عماد الدين زنكي في يوم يركب خيله فعثرت به، وكاد يسقط من فوقه، فنادى على أمير كان معه، وقال له كلامًا وهو حزين أو غاضب، فلم يتبيَّن الأمير ماذا قال عماد الدين زنكي، ولكنه شعر بغضب عماد الدين زنكي، وظنَّ أن هذا الغضب تجاهه هو، ولم يتجاسر على سؤاله، فأسرع إلى بيته ليُعلن لزوجته خوفه الشديد من أن يكون قد أخطأ، فنصحته زوجته أن يذهب إلى نصير الدين جَقَر نائب عماد الدين زنكي، ويحكي له القصة، لعلَّه يجد حلاًّ عنده! وبالفعل ذهب إلى نصير الدين جَقَر وحكى له، فقال: لا عليك، إنما كان يطلب منك هذه الصُّرَّة. وأخرج صُرَّة كانت معه وأعطاها للأمير! فحملها الأمير إلى عماد الدين زنكي فأخذها راضيًا، فرجع الأمير إلى نصير الدين جَقَر وقال له: كيف علمت أنه يُريد الصُّرَّة؟ فقال: إنه يتصدَّق بمثل هذا القدر كل يوم، يُرسل إليَّ يأخذه من الليل، وفي يومنا هذا لم يأخذه، ثم بلغني أن دابَّته عثرت به حتى كاد يسقط إلى الأرض، فأرسلك إليَّ، فعلمتُ أنه ذكر الصدقة[4].
لقد ربط عماد الدين زنكي بين تأخُّره في إنفاقه للصدقة، أو نسيانه لها وبين تعثُّر دابته، وهذا من شدَّة حساسيته، ورقَّة مشاعره، والتفاته إلى الإشارات والحوادث، ولا يأتي كل ذلك إلاَّ من قلب رقيق؛ ثم انظر إليه وهو في غاية الشغل كل يوم بقتال وخطَّة وإدارة دولة كاملة، ثم هو لا ينسى أن يتصدَّق يوميًّا على الفقراء والمحتاجين.
إنه لا يتكلَّف الرحمة، إنها مزروعة في قلبه!
ومن رقَّة مشاعره أنه كان لا ينسى مَنْ أسدى إليه معروفًا، حتى لو مرَّ زمان طويل على هذا المعروف، وقصته مع نجم الدين أيوب معروفة؛ إذ إن نجم الدين أيوب أسدى معروفًا إلى عماد الدين زنكي في سنة (526هـ= 1131م) حيث آواه في قلعته التي يحكمها في تكريت حين هُزم زنكي في إحدى معاركه[5]، وردَّ له زنكي الجميل بعد ذلك بثماني سنوات في سنة (534هـ=1139م)، عندما ولاه حكم مدينة بعلبك بعد فتحها[6]، ولا يخفى على أحد أن هذا الرجل الذي يتذكَّر جميلاً فُعل فيه منذ ثماني سنوات هو رجل وفيّ، رقيق المشاعر.
بل إنه لم ينسَ ناصر الدين كوري بن جكرمش فأقطعه إقطاعًا؛ اعترافًا بجميل والده، مع العلم أن والده جكرمش قدَّم لعماد الدين خدمةً برعايته، والاهتمام به منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا[7]!
لقد كان عماد الدين زنكي رجلاً وفيًّا رحيمًا رقيقًا، غير أن الانطباع الذي أُخذ عنه بالقسوة لم يكن لشيء؛ إلا لأنه كان جادًّا في حياته جدًّا؛ مما أوهم كثيرًا من الناس أنه غليظ الطباع، وهو على العكس من ذلك تمامًا، ولعلَّ الصفة التالية التي سنتحدَّث عنها في المقال القادم ستُفَسِّر لنا هذا التناقض الذي يراه بعض المؤرخين.
فتابع معنا.
[1] البخاري: كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{بل هو قرآن مجيد. في لوح محفوظ} (7115)، واللفظ له، ومسلم: كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى (2751)، وابن ماجة (189)، وأحمد (9148)، وأبو يعلى (6422)، وفي رواية غلبت بدلاً من سبقت البخاري كتاب بدء الخلق (3022)، وابن حبان (6145).
[2] انظر للمزيد: كتاب "الرحمة في حياة الرسول ﷺ" للكاتب.
[3] ابن الأثير: الباهر ص81.
[4] ابن واصل: مفرج الكروب 1/105.
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/263.
[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/16.
[7] عماد الدين خليل: عماد الدين زنكي ص220.
د. راغب السرجاني