يحب العديد منّا ذلك المذاق الحِرِّيف الذي يُخلّفه تناول الفلفل الحار، لكن هل يُلحق بنا ذلك أي ضرر؟ موقع (بي بي سي فيوتشر) يتقصى حقيقة ذلك الأمر.
من المتع العظيمة للحياة ومباهجها لدى الكثيرين؛ أن ينعموا بلذة المذاق الحِرِّيف اللاذع لوجباتٍ تجعل بشرة آكلها تتوهج، وجسده يتصبب عرقاً.
ويمكن لهؤلاء العثور على هذا الطعم الحار - مثلاً - في طبق شهي من الكاري أو من صلصة الطماطم المليئة بالتوابل والبهارات، أو من خلال التهام طبق صيني شهير يحمل اسم "وعاء سيتشون الحار"، ويحتوي على توابل حارة وفلفلٍ حِرِّيف بشدة تُعرف به مقاطعة سيتشوان الصينية.
ولا شك في أن البحث عن المذاق اللاذع والحارق أكثر من غيره للسان هوايةٌ من نوع غريب، ربما تصل إلى مرتبة الاستحواذ الذي يسيطر على صاحبه.
المثير أن عشاق مطاردة الأكلات الحِرِّيفة الحارة لا يتعرضون لأي خطر في هذا المضمار. فرغم أن الـ "كابسيسين"، وهو الجزيء ذو المذاق الحِرِّيف في الفلفل الحار، يُنشط مُسْتَقْبِلات الخلايا العصبية المسؤولة عن الشعور بالألم في الفم؛ فإنه لا يسبب أي أضرارٍ فعلية للإنسان.
فبعد دقائق معدودات سيتلاشى شعورك بأنك كما لو كنت قد أضرمت النار في نفسك. ولن يعاودك هذا الشعور سوى عندما - وعذرا لصراحتي - تخرج الوجبة بعد يومٍ أو نحو ذلك في صورة فضلات. لذا يبدو الأمر كله لهواً ومرحا، أليس كذلك؟
ربما تَصْدُق العبارة الأخيرة، حتى يأتي وقتٌ يلحق فيه الأذى بشخص ما جراء تناوله مثل هذه الوجبات.
بدايةً، يتعين توضيح أن ثمة مقياساً يُطلق عليه اسم "سكوفِلْ" لتصنيف أنواع الفلفل المختلفة، بحسب ما تتسم به من طعم حِرِّيف ولاذع وحار.
ويبدأ هذا التصنيف من "الفلفل الرومي" أو "الفلفل الحلو"، الذي يحتل أدنى درجات المقياس نظرا لافتقاره إلى الطعم المُحرِق واللاذع، وصولاً إلى القمة، حيث نوعٍ مفزعٍ بحق، يحمل اسم "كارولاينا ريبير" وتصل درجة حرارة طعمه إلى 2.2 مليون وحدة سكوفِلْ.
ورغم أنه من المستبعد أن يتأذى المرء جراء الكميات التي يتناولها يومياً من الطعام الحار أو المُتَبل؛ فإن بعضاً من عشاق الإثارة الحِرِّيفة قد مروا بتجارب مُقلقة في هذا الشأن، من بينها ما جرى عام 2014 لصحفييّن من جريدة تصدر في مدينة برايتون البريطانية باسم "ذا أرغوس"، عندما توجها إلى مطعم في المدينة لتجربة وجبة من "البرغر" ذات مذاق حِرِّيف بشدة ومُحرِق للغاية بغرض تصنيفها وتقييمها، وذلك بعدما حظيت بتصنيفٍ مرتفع للغاية من قبل موقع "تريب أدفايزر".
رغم أنه من المستبعد أن يتأذى المرء جراء الكميات التي يتناولها يومياً من الطعام الحار أو المُتَبل؛ فإن بعضاً من عشاق المذاق الحار قد مروا بتجارب مُقلقة في هذا الشأن
ويتخصص المطعم في هذه الوجبة، التي تُستخدم فيها صلصة حِرِّيفة جداً. ويقول صاحب المكان إن هذه الصلصة تفوق في ترتيبها على مقياس "سكوفِلْ" ترتيب "رذاذ الفلفل"، الذي يُستخدم لردع المهاجمين وإصابتهم بالعمى المؤقت في بعض الأحيان.
وما إن أخذ الاثنان قضمةً من "البرغر" حتى شعرا - بحسب "ذا أرغوس" - بآلام لا تُطاق، ما دفع أحدهما إلى أن يتجرع على الفور كمياتٍ كبيرة من الحليب في مسعى لتبديد تلك الآلام. أما الآخر فقد بدأ يُكابد آلاماً مبرحة في المعدة، وفقد الشعور بيديه، بل وشرع جسده في الاهتزاز وتسارعت أنفاسه إلى حد اللهاث.
ولم يفلح الحليب في الحيلولة دون أن يشعر رفيقه بألم مبرحٍ بدوره، ليضطر الاثنان للتوجه إلى المستشفى. وقال أحدهما في ذلك الوقت: "شعرت بألمٍ هائل، أحسست بأنني أُحتَضر".
أما آكلو الفلفل الحار الجسورون، ممن أقدموا على تذوق بعضٍ من أكثر أنواعه الحِرِّيفة واللاذعة أمام الكاميرات، فقد وجدوا أنفسهم يقيئون علناً على مرأى من الجمهور.
وهنا يمكن الاستعانة بما كتبه الروائي والناقد آرين ذَير في مطبوعة متخصصة في الطعام تحمل اسم "لاكي بيتش" (الخوخ المحظوظ) عما وصفه بمهرجانٍ مصغر لمقاطع مصورة - تخطف الأبصار - توجد على موقع "يوتيوب"، وتظهر التهام البعض للفلفل الحار وما ينجم عن ذلك من عواقب.
ويصف الكاتب في مقاله مقطعاً صُوِّر بالحركة البطيئة لتجمع دنماركي في هذا الصدد، شهد تناول ألف شخص لنوع فلفل يُعرف باسم "الفلفل الشبح" ويُصنِفه البعض كأكثر أنواع الفلفل حرارة.
ويقول ذَير في هذا الشأن: "تصبب الجميع عرقاً وأصابهم الفواق كالمعتاد، ولكن طريقة إعداد وتقديم المشاهد (بالسرعة البطيئة) أكسبتها طابعاً أسطورياً وأبدياً وخيالياً. ليبدو القيء ذا طابع منتشٍ وجذل".
إفادة أخرى قدمها مات غروس لمجلة "بون أبيتي"، المتخصصة في الطبخ ووصفات الأطعمة، بشأن إغواء المذاق الحار الحِرِّيف.
ورغم "حرارة" الموضوع، يبدأ غروس كلماته بأرقام صماء باردة جامدة؛ إذ يقول: "في 21.85 ثانية التهمت ثلاثة من قرون فلفل كارولاينا ريبير، وهو الفلفل الأكثر حرارة على الإطلاق في العالم، ولكن تعافييّ من آثار هذه التجربة استغرق حوالي 14 ساعة". (آثار تناول هذا النوع من الفلفل شملت بالمناسبة شعور الكاتب بأعراض نوبة قلبية).
فما الأمر إذاً؟ إذا كان كل ما يؤدي إليه تناول الفلفل الحار لا يعدو خداع جسد المرء لجعله يشعر بأن حريقاً محدوداً اندلع في فمه، فلِمَ يقود التهام هذا النوع من الطعام إلى إثارة ردود فعل خطيرة كتلك التي تحدثنا عنها في السطور السابقة؟
إذا كان كل ما يؤدي إليه تناول الفلفل الحار لا يعدو خداع جسد المرء لجعله يشعر بأن حريقاً محدوداً اندلع في فمه، فلِمَ يقود التهام هذا النوع من الطعام إلى إثارة ردود فعل خطيرة لدى البعض
للإجابة عن هذا السؤال، قد يتعين علينا العودة إلى الطبيعة البيولوجية لجزيء "كابسيسين" الحارق في الفلفل. فقد يكون هذا الجزيء قد تطور بداخل النباتات التي يعيش فيها كعنصرٍ مضاد للفطريات الموجودة هناك. ولكن صدف أن يصبح بوسع هذه المادة تنشيط خلايا بعينها مسؤولة عن الشعور بالألم، ليثير بذلك بهجة الإنسان وافتتانه وخوفه أيضا.
وترسل هذه الخلايا - تحديداً - رسالة إلى المخ تفيد بوجود شعورٍ بالاحتراق، سواء أكانت قد نُشّطت بفعل حريقٍ فعلي أو إثر التهام فلفل حار حِرِّيف. فليس من شأن خلايا الجسم أو أجهزته التفريق ما بين هذه الاحتمالات المزعجة، إذ أن توخي الحرص والحذر في مثل هذه المواقف هو الخيار الأمثل، عوضاً عن الندم بعد فوات الأوان.
ويقول برُس برايانت، الخبير في علم الأحياء بمركز "مونُل للحواس الكيمياوية" في مدينة فيلادلفيا الأمريكية، إن التغيرات التي تطرأ على الجسم بفعل التهام الفلفل قد تشكل ردود فعل من جانبه على ما قد تعتبره أجهزته حريقاً حقيقياً محتملاً.
فتصبب العرق ما هو إلا إجراءٌ يتخذه الجسم لتقليل درجة حرارته، بهدف التكيف مع الوضع الناشئ عن اندلاع "حريق". كما أن استثارة الخلايا المسؤولة عن الشعور بالألم يفضي إلى إفراز مواد تقود إلى توسيع الأوعية الدموية.
ويؤدي ذلك بدوره إلى حدوث التهاب، وهي الطريقة المثلى لإيصال الدم للمنطقة التي تضررت من الحريق المفترض، وهو ما يشكل رد الفعل الأوليّ من جانب الجسم على ما يعتبره خطراً يتعرض له.
ويضرب برايانت مثالاً على ذلك بتقيؤ المرء عندما يَمُسُ ما يأكله من فلفل "كارولاينا ريبير" بطانة معدته، قائلاً إن ذلك يمثل رد فعل نظراً لوجود نهايات عصبية تستشعر الألم في المعدة. ويشير إلى أن لسان حال الجسم يقول هنا "سأتخلص (من ذلك الشعور)، من دون أن أكترث بما إذا كان ناجماً عن مصدر حراري (أي حريق حقيقي) أو كيمياوي".
ويماثل رد الفعل الذي قد يصدره الجسم عند ابتلاع المرء مادة كاوية، ذاك الذي يصدر عنه للتعامل مع التهام فلفل يحتوي على قدر كبير من جزئ الـ"كابسيسين"؛ إذ أن تأثير ذلك الجزيء يشابه - في الأساس - ما يُحدثه ابتلاع المواد الكاوية.
فعندما يبتلع المرء شيئاً ما يُحدِثُ تأثيراً حارقاً، تؤدي الخلايا العصبية التي تستشعر وجود مثل هذه التأثيرات - سواء أكانت في الفم أو المعدة أو أي مكان أخر في الجسم - مهمتها حيال ذلك فحسب، دون اكتراثٍ بما إذا كان ما ابتلعته سيقتلك أو سيثير انزعاجك قليلاً عند قضاء الحاجة ليس أكثر.
ثمة نظرية مثيرة للاهتمام تفيد بأن نبات الفلفل طوّر جزيء الـ"كابسيسين" الحارق، كوسيلة لردع الحيوانات الثديية ومنعها من مضغ بذوره وابتلاعها
ولكن إذا نحينا جانباً تلك الساعات أو حتى ذلك اليوم الذي نعاني فيه من ضيق بالغ للغاية جراء تناول الأطعمة الحِرِّيفة، فسنجد أن الإقدام على التهام الفلفل الحار بشدة، لا يُخلّف في حد ذاته - على ما يبدو - أي أضرار أو مخاطر طويلة المدى.
رغم ذلك، فقد لاحظ علماء الأحياء - كما يقول برايانت - أن استهلاك الثدييات في الصغر للـ"كابسيسين" لفترات طويلة، يؤدي إلى إماتة الخلايا العصبية المسؤولة عن الإحساس بالألم لديها. فتنشيط الخلايا العصبية بشكل متكرر مرةً تلو الأخرى يجعلها تفقد فعاليتها تماماً، دون أن يتسنى لها العودة إلى طبيعتها ثانيةً أبدا.
وثمة نظرية مثيرة للاهتمام تفيد بأن نبات الفلفل طوّر جزيء الـ"كابسيسين"، كوسيلة لردع الحيوانات الثديية ومنعها من مضغ بذوره وابتلاعها. أما الطيور، التي تبلع تلك البذور دون مضغ ويُؤمل في أن تنشرها من خلال خروجها منها كفضلات، فليس لديها من الأصل مُستَقبِلاتٌ حسية للشعور بالمذاق الحارق للفلفل.
الأمر مع البشر يختلف، فقد وجد نبات الفلفل هنا نفسه إزاء نوعٍ خاص من الثدييات، بلغ هيامه بالإحساس اللاذع الحِرِّيف الناجم عن التهام هذا النبات أقصى حدود العقل، وربما تجاوز ذلك بقليلٍ أيضاً.
على أي حال، من حسن حظ الفلفل أن غرام الكثيرين بمذاقه الحار لا يبدو أنه يقضي على وجوده أو انتشاره.