- ألا استحى من رجل تستحى منه الملائكة
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم
بهذا العنوان نبدأ الكلام عن هذا الصحابى الجليل, انه صنف من الرجال الأطهار يندر وجوده فى كل العصور والأزمان...رجل تستحى منه ملائكة الرحمن!!!
هو ذور النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه بن أبي العاص بن أمية، أبو عبد الله، ذو النورين، القرشي الأموي, ذلكم الرجل الذى إذا جائت سيرته وجدنا بين ثنايا سطورها ريح الحياء والتواضع والجود والكرم والخشية....ولد بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح, وكان ربعة حسن الوجه رقيق البشرة عظيم اللحية بعيد مابين المنكبين.
لما قالوا لعلي حدثنا عن عثمان قال : ذاك امرؤ يدعى فى الملأ الأعلى ذو النورين.
وهو الذى بشره الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بالشهادة و الجنة .... فعن ابى موسى رضى الله عنه قال : "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وأمرنى بحفظ باب الحائط, فجاء رجل يستأذن فقال : ائذن له وبشره بالجنة فإذا أبو بكر, ثم جاء اَخر يستأذن فقال له : ائذن له وبشره بالجنة فإذا عمر, ثم جاء اَخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال له : ائذن له وبشره بالجنة على بلوى ستصيبه فإذا بعثمان" رواه البخارى ومسلم.
وهو الذى قالت فيه امرأته حين قتل : لما قتلتموه, وإنه ليحي الليل كله بالقراَن فى ركعة"
وكان رضي الله عنه فى أيام الجاهلية من أفضل الناس فى قومه فهو عريض الجاه ثرياً متواضعاً شديد الحياء عذب الكلمات فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه.
لم يسجد فى الجاهلية لصنم قط ولم يقترف فاحشة قط ولم يظلم إنساناً قط.
ولما أهل الإسلام بنوره على مكة كان عثمان من السابقين إلى الإستضاءة بمشكاته...
وعلى الرغم من مكانته بين قومه ومحبتهم له إلا أنه ما أن أعلن إسلامه واستعلى بإيمانه حتى سلطوا عليه الأذى.
حتى انه لمّا أسلم - أخذه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية فأوثقه رباطاً ، وقال: أترغبُ عن ملّة آبائك إلى دين محدث ؟ والله لا أحلّك أبداً حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين فقال عثمان : والله لا أدعه أبداً ولا أفارقُهُ فلمّا رأى الحكم صلابتَه في دينه تركه.
ولكنهم لما يئسوا من عودته إلى الشرك وإرتداده عن دين محمد صلى الله عليه وسلم أطلقوا سراحه فهاجر إلى الحبشة ومعه زوجه رقية رضي الله عنها .. ابنة نبي الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهناك اشتد الحنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاد عثمان وزوجه رضي الله عنهما مرة أخرى إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى أن أذن الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى المدينة المنورة, فكان عثمان وزوجه مع المهاجرين . وبذلك يكون رضي الله عنه – قد هاجر الهجرتين.
جهاده فى سبيل الله و تسميته بذى النورين
سهم بدر
ولقد شهد عثمان رضي الله عنه المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعدا غزوة بدر فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر خلفه على ابنته رقية يمرضها – فقد كانت مريضة ولم يكن معها أحد – ولما عاد الحبيب صلى الله عليه وسلم من الغزوة علم أن ابنته رقية قد لحقت بجوار ربها فحزن حرناً شديداً ... وواسى عثمان فضرب له بسهمه وأجره , فكان كمن شهد بدراً , ثم زوجه ابنته الثانية أم كلثوم وقال وبعد وفاتها قال : والذي نفسي بيده لو كان عندي ثالثة لزوجنكها يا عثمان... وسمى ذا النورين لجمعه بين بنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غزوة تبوك ... جيش العسرة
جاءت غزوة تبوك, والناس فى عسرة شديدة , وحين طابت الثمار وأحبت الظلال, والناس يحبون المقام ويكرهون الخروج.
وحض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين على الجهاد ورغبتهم فيه وأمرهم بالصدقة, فحملوا صدقات كثيرة , وكان أبو بكر رضي الله عنه أول من حمل بماله كله ...أربعة اَلاف درهم.
وقام عثمان بن عفان -رضي الله عنه- بنفسه وماله في واجب النصرة فجهّز جيش العُسْرَة بتسعمائةٍ وخمسين بعيراً وخمسين فرساً ، واستغرق الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء له يومها ، ورفع يديه حتى أُريَ بياض إبطيه....فقد جاء عثمان إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- بألف دينار حين جهّز جيش العسرة فنثرها في حجره ، فجعل -صلى الله عليه وسلم- يقلبها ويقول ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم )....مرتين
بئر رومة
ولما كان المسلمون لا يجدون الماء العذب الذى هم فى أشد الحاجة إايه...قام النبى صلى الله عليه وسلم يعرض على أصحابه تلك الصفقة الرابحة, فقال : "من حفر رومة فله الجنة...."
فقام عثمان رضي الله عنه السباق إلى كل خير فحفرها , ففاز بثواب كل من شرب شربة ماء أو توضأ من هذا الماء.
عثمان و العتق
وماكان البذل الذى يبذله – رضى الله عنه – ليقف أبداً عنه تجهيز جيش العسرة أو حفر بئر رومة , بل لقد كان دوماً وأبداً مواسياً لكل مسلم فى كربته ومعينه فى منته ومعيناً له فى فقره وحاجته.
يمضى- رضي الله عنه – مع نفسه موثقاً لا يخلفه طوال حياته : هو أن يعتق كل جمعة عبدً , ويحرر رقبة...يشترى العبد من سيده بأى ثمن , ثم يهبه حريته مبتغياً وجه ربه الأعلى.
خلافته الراشدة والفتنة
حمل عثمان عثمان الرحيم الذى تشع الرحمة فى حياته أمر المسلمين بعد الخليفة عمر فكان هو الخليفة الراشدي الثالث حيث قال رسول الله في حقهم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي ).
وفتح الله على يديه "أرمينية" و "القوقاز"....ونصر المسلمين وسودهم على " خراسان" و "كرمان"و"سجستان" و "قبرص" وطرف غير قليل من إفريقية.
ولقى الناس فى عهده من الثراء مالم يحظ به شعب على ظهر الأرض.واستمرت عملية الفتح ما يزيد على عشر سنوات من مدة خلافته التي دامت اثنا عشر عاماً ثم توقفت هذه الفتوحات بسبب الفتنة التي أجهضت الجهاد وأشغلت الناس وأوقعت الخلاف ،ودبت الفوضى وتعد هذه الفتوحات تتمة للفتوحات الكبرى التي كانت أيام الفاروق رضي الله عنه
لكن بعض الناس إذا شبعوا بطروا...و إذا أنعم عليهم كفروا...فعتب هؤلاء على عثمان أمورا, لو فعلها غيره ماعتبوها عليه....ولم يكتف هؤلاء بالعتب, ول أنهم اكتفوا به لهان الأمر.
فلقد ظل الشيطان ينفخ فى أرواحهم من روحه, ويبث فى نفوسهم شره حتى تألبت عليه طائفة كبيرة من أوباش الأمصار, فحصروه فى داره نحوا من أربعين ليلة, ومنعوا عنه الماء العذب.
وقد تناسى هؤلاء الظلمة الطغمة أنه هو الذى اشترى بئر رومة من ماله الخاص, ليرتوي منه سكان المدينة المنورة وروادها..
ثم أنهم حالوا دونه ودون الصلاة فى مسجد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه .
وقد تعامى هؤلاء عن أن ذا النورين هو الذى وسع ثانى الحرمين من خالص ماله, ليتسع للمسلمين بعد أن ضاق بهم ذرعا...
وحان وقت الرحيل
ولما اشتد على عثمان الكرب, وتفاقم عليه الشر نفر إلى حمايته نحو سبعمائة من الصحابة وأبنائهم. وفيهم عبد الله بن عمر بن الخطاب, وعبد الله بن الزبير بن العوام, والحسين والحسين ابنا على بن ابى طالب, وأبو هريرة, وغيرهم...
لكن ذا النورين, وصاحب الهجرتين, وباذل المعروف, اَثر أن يراق دمه على أن تراق دماء المسلمين دفاعا عنه...
فأقسم على الذين نفروا إلى حمايته أن يتركوه لقضاء الله.
ولقد غفت عين خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظات قبيل مصرعه فرأى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ومعه صاحباه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب...وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له :"أفطر عندنا الليلة يا عثمان", فأيقن عثمان أنه لاحق بربه...مقبل على لقاء نبيه....
أصبح عثمان رضوان الله عليه صائما...ودعا بسراويل طويلة فلبسها خشية أن تكشف عورته, إذا قتله الأثمة السفاحون.
واستسلم عثمان لأمر الله رجاء موعوده, وشوقا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم, ومصدقاً لكلماته حين قال : " ياعثمان, إن الله مقمصك قميصاً, فإن أرادك المنافقون على خلعه, فلا تخلعه حتى تلقانى".
وفى يوم الجمعة لثمانى عشرة ليلة خلت من ذى الحجة, قتل العباد , الزاهد , الصوام , القوام , جماع القراَن , صهر رسول الله فلحق بجوار ربه وهو ظماَن صائم, وكتاب الله منشور بين يديه... وسال الدم على قوله تعالى : "فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " البقرة 137
ورحل عثمان عن دنيا الناس بعد حياة طويلة مليئة بالبذل والتضحية والجهاد والعدل والسماحة والتواضع.
رحل بعد أن سالت دماؤه التى طالما امتزجت بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم... سالت دماؤه الشريفة التى انصهرت مع كل اَيات القراَن الكريم...
رحل بعد أن قدم للإسلام الكثير والكثير.
وها نحن بعد هذا الزمان الطويل نذكره ونذكر أعماله الجليلة, ولن ننساه أبداً ما دامت أرواحنا فى جسدنا.
فرضى الله عن عثمان وعن سائر الصحابة أجمعين