فضلُ الصحابةِ في القرآنِ الكريمِ:




لقد اختار الله سبحانه لصحبة نبيه صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم نماذجَ فذَّةً من البشر؛ آمنوا به، وصدَّقوه، ونصروه، واتبعوا النور الذي أُنزِل معه، فكانوا من المفلحين في الدنيا والآخرة، بذلوا أنفسهم وأموالهم لنشر دعوة الإسلام، والذود عنها، فاستحقوا من الله عظيم الثواب، وحسن المآب، وحقَّ لهم أن يُخلَّد ذكرُهم في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة.
إنهم جميعًا شموسٌ أشرقت في سماء الإنسانية، فأناروا الدنيا، وملأوها عدلًا ورحمةً، بعد أن مُلئت جورًا وظلمًا، فكانوا خيرَ صَحْبٍ لخير نبي، أُرسِل لخير أُمَّةٍ أُخرِجت للناس.
ومن الواجب على الذين يأتون بعد الصحابة أن يرددوا بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10] الآيات.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ} هم الذين هاجروا بعدما قَوِيَ الإسلامُ، أو التابعون بإحسان، وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة، {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا} أي: في الدين، الذي هو أعزُّ وأشرفُ عندهم من النسبِ، {الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} وصفوهم بذلك اعترافًا بفضلهم، {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} هو: الحقد، {لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا} على الإطلاق، {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} أي مُبالِغٌ في الرأفةِ والرحمةِ، فحقيقٌ بأن تجيب دعاءنا".
وقال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب":إنَّ مِنْ شأن مَنْ جاء مِنْ بعد المهاجرين والأنصار، أن يذكر السابقين، وهم المهاجرون والأنصار، بالدعاء والرحمة، فمن لم يكن كذلك، بل ذكَرَهم بسوء، كان خارجًا من جملة أقسام المؤمنين بحسب نص هذه الآية.
وما أكثر الآيات التي وردت في القرآن الكريم تبيِّن فضل الصحابة الكرام، وسرعتهم في الاستجابة لأمر الله سبحانه، ونصرة النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم. ولا غرو؛ فهم الذين شرَّفهم الله بصحبة نبيه، والتبليغ عنه، وهم الذين كانوا رهبانًا بالليل، فرسانًا بالنهار.
وقد أثنى القرآن الكريم على الصحابة ثناءً عامًا، يشملهم جميعًا، ويشهد لهم بالفضل والإحسان. وثناءً خاصًا، يُفضِّل بعضهم؛ بسبقهم في الإيمان والإنفاق والجهاد.
فمن الآيات التي وردت في الثناء على الصحابة ثناءً عامًا:ـــ
قول الله تعالى: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29].
قال ابن كثير في تفسيره: يخبر تعالى عن محمد صلوات الله عليه، أنه رسوله حقا بلا شك ولا ريب، فقال: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ}، وهذا مبتدأ وخبر، وهو مشتمل على كل وصف جميل، ثم ثنى بالثناء على أصحابه فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}، كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]، وهذه صفة المؤمنين أن يكون أحدهم شديدًا عنيفًا على الكفار، رحيمًا بَرًّا بالأخيار، غضوبًا عبوسًا في وجه الكافر، ضحوكًا بشوشًا في وجه أخيه المؤمن، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]، وقال النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجَسَدِ بالحمَّى والسَّهَر"، وقال: "المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشُدُّ بعضُهُ بعضًا" وشبَّك بين أصابعه، وكلا الحديثين في الصحيح.

وقوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}؛ وصفهم بكثرة العمل، وكثرة الصلاة، وهي خير الأعمال، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عز وجل، والاحتساب عند الله جزيل الثواب، وهو الجنة المشتملة على فضل الله، وهو سَعَة الرزق عليهم، ورضاه تعالى عنهم، وهو أكبر من الأول، كما قال: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72]. وقوله: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ}؛ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم} يعني: السَّمْتُ الحَسَن. وقال مجاهد وغير واحد: يعني: الخشوع والتواضع.

وقال السدي: الصلاة تحسن وجوههم. وقال بعض السلف: من كثُرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار. وقال بعضهم: إن للحسنة نورٌ في القلب، وضياء في الوجه، وسَعَة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس. وقال أمير المؤمنين عثمان: ما أَسَرَّ أحدٌ سريرةَ إلا أبداها الله على صَفَحَات وجهه، وفَلتَاتِ لسانه.

والغرضُ أن الشيءَ الكامنَ في النفسِ يظهَرُ على صفحات الوجه، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة مع الله أصلح الله ظاهره للناس، كما روي عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أنه قال: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته. فالصحابة رضي الله عنهم خلُصَت نيَّاتُهُم، وحسُنَت أعمالُهُم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم.

وقال مالك رحمه الله: بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون: "والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا"، وصدقوا في ذلك؛ فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة، وأعظمها وأفضلها: أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم، وقد نوه الله تبارك وتعالى بذكرهم في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}، ثم قال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ}.
وجاء في "التفسير الوسيط": "ثم بيَّن سبحانه صِفَتهم في الإِنجيل فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَئَازَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ}، قوله: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ} معطوف على ما قبله وهو مثلهم في التوراة؛ والإِنجيل: هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيِّه عيسى عليه السلام. والشطء: فروع الزرع، وهو ما خرج منه وتفرع على شاطئيه، أي: جانبيه. وقوله: {فَئَازَرَهُ} أي: فَقَوَّتْ تلك الفروعُ أصولَها، وآزرتها، وجعلتها مكينة ثابتة في الأرض. وقوله: {فَاسْتَغْلَظَ} أي: فصار الزرع غليظًا بعد أن كان رقيقًا. وقوله: {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} أي: فاستقام وتكامل على سيقانه التي يعلو عليها. وقوله: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أي: يعجب الخبراء بالزراعة؛ لقوته وحسن هيئته.

والمعنى: أن صفة المؤمنين في الإِنجيل، أنهم كالزرع، يظهر في أول أمره رقيقًا ضعيفًا متفرقًا، ثم ينبت بعضه حول بعض، ويغلظ ويتكامل حتى يقوى ويشتدَّ، وتعجب جودتُهُ أصحابَ الزراعة العارفين بها. فكذلك النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم وأصحابه، كانوا في أوَّلِ الأمرِ في قِلَّةٍ وضعفٍ، ثم لم يزالوا يكثرون ويزدادون قوة، حتى بلغوا في ذلك".
ومنها ــ أيضًا ــ قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
جاء في "زاد المسير" لابن الجوزي: "قوله تعالى {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} فيهم ستة أقوال:

أحدها: أنهم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم؛ قاله أبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين، وقتادة.

والثاني: أنهم الذين بايعوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم بيعة الرضوان، وهي الحديبية؛ قاله الشعبي.

والثالث: أنهم أهل بدر؛ قاله عطاء بن أبي رباح.

والرابع: أنهم جميع أصحاب رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم حصل لهم السبق بصحبته. قال محمد بن كعب القرظي: إن الله قد غفر لجميع أصحاب النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم، وأوجب لهم الجنة: محسنِهم ومسيئِهم، في قوله {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ}.

والخامس: أنهم السابقون بالموت والشهادة سبقوا إلى ثواب الله تعالى؛ ذكره الماوردي.

والسادس: أنهم الذين أسلموا قبل الهجرة؛ ذكره القاضي أبو يعلى.
وقال "ابن كثير" في تفسيره: "يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ورضاهم عنه بما أعد لهم من جنات النعيم والنعيم المقيم. وقال محمد بن كعب القرظي: مرَّ عمر بن الخطاب برجُلٍ يقرأ هذه الآية {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ}، فأخذ عمر بيده فقال: من أقرأَكَ هذا؟ فقال: أُبَيُّ بن كعب، فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه. فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأتَ هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم، قال: وسمعتها من رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم؟ قال: نعم، قال: لقد كنت أرى أنا رُفِعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أُبَيُّ: تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: {وَءَاخَرِينَ مِنْهُمْ لْمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وفي سورة الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُو مِن بَعْدِهِمْ} [الجمعة: 3]الآية، وفي الأنفال: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ} [الأنفال: 75] الآية".
وقال "القرطبي" في تفسيره: "قال ابن العربي: السبق يكون بثلاثة أشياء: الصفة؛ وهو الإيمان، والزمان، والمكان. وأفضلُ هذه الوجوه، سبقُ الصفات، والدليل عليه قوله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم في الصحيح: "نحن الآخرون الأولون، بيْد أنهم أُوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له، فاليهود غدًا والنصارى بعد غدٍ".

فأخبر النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم أن من سبَقَنَا من الأمم بالزمان، سبقناهم بالإيمان، والامتثال لأمر الله تعالى، والانقياد إليه، والاستسلام لأمره، والرضا بتكليفه، والاحتمال لوظائفه، لا نعترض عليه، ولا نختار معه، ولا نبدِّل بالرأي شريعته، كما فعل أهلُ الكتاب، وذلك بتوفيق الله لما قضاه تيسيره لما يرضاه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله".
ومنها ــ أيضًا ــ قوله تعالى: {لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُولَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} التوبة [88: 89].
جاء في "التفسير الوسيط": "قوله سبحانه: {لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ} استدراك لبيان حال الرسول صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم والمؤمنين، بعد بيان حال المنافقين. أي: إذا كان حال المنافقين كما وصفنا من جبن وتخاذل؛ فإن حال المؤمنين ليس كذلك؛ فإنهم قد وقفوا إلى جانب رسولهم صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم، فجاهدوا معه بأموالهم، وأنفسهم، من أجل إعلاء كلمة الله، وأطاعوه في السر والعلن، وآثروا ما عند الله على كل شيء في هذه الحياة.
وجاء في "فتح القدير" للشوكاني: "المقصود من الاستدراك بقوله: {لَـكِنِ الرَّسُولُ} إلى آخره: الإشعار بأن تَخَلُّفَ هؤلاء غيرُ ضائر؛ فإنه قد قام بفريضة الجهاد مَنْ هو خيرٌ منهم، وأخلصَ نيَّةً، كما في قوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89]. ثم ذكر منافع الجهاد فقال: {وَأُولَـئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} وهي: جمع خير، فيشمل منافع الدنيا والدّين، وقيل المراد به: النساء الحسان، كقوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70].
وقال "القشيري" في تفسيره في قوله تعالى: {لَـكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ...}: "ليس مَنْ أَقْبَلَ كمَنْ أعرض وصدَّ، ولا مَنْ قُبِلَ أَمْرُه كَمَنْ رُدَّ، ولا من وحَّدَ كمن جَحَد، ولا من عَبَدَ كَمن عَنَدَ، ولا مَنْ أَتَى كمن أَبَى. فلا جَرَمَ رَبِحَتْ تِجَارَتُهم، وجَلتْ رُتْبَتُهم".
ومنها ــ أيضًا ــ قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110].
قال "ابن كثير" في تفسيره: "الصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة، كل قرن بحسبه. وخير قرونهم هم الذين بُعث فيهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونهم، كما قال في الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: خيارًا {لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]الآية".
وقال "القشيري" في تفسير قوله تعالى {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...}: لمّا كان المصطفى صلوات الله عليه أشرفَ الأنبياء، كانت أُمَّتُه ــ عليه السلام ــ خيرَ الأمم".
قال ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة": اعلم أن الذي أجمع عليه أهل السنة والجماعة، أنه يجب على كل أحد تزكية جميع الصحابة: بإثبات العدالة لهم، والكف عن الطعن فيهم، والثناء عليهم؛ فقد أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في آيات من كتابه:

منها قوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، فأثبت الله لهم الخيرية على سائر الأمم، ولا شيء يعادل شهادة الله لهم بذلك؛ لأنه تعالى أعلمُ بعبادِهِ، وما انطوَوْا عليه من الخيراتِ وغيرِها، بل لا يعلم ذلك غيره تعالى، فإذا شهد تعالى فيهم بأنهم خير الأمم، وَجَبَ على كُلِّ أحد اعتقاد ذلك، والإيمان به، وإلا كان مكذِّبًا لله في إخباره. ولا شكَّ أن من ارتابَ في حقِّيَّة شيء مما أخبر الله أو رسوله به، كان كافرًا بإجماع المسلمين.
وقال بعض العلماء: كنتم بمعنى "أنتم" خير أمة. وقيل: "كنتم في علم الله"، وقد روى بهز بن حكيم بن معاوية بن حيوة القشيري عن أبيه، عن جده قال: سمعت النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم يقول: "ألا إِنَّكُم تُوفُون تِسْعِين أُمَّةً أَنْتُم خَيْرُهَا وأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ" ومعلوم أن مواجهة رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم لأصحابه بقوله: "أَنْتُمْ خَيْرُهَا" إشارة بالتقدمة في الفضل إليهم على من بعدهم. والله أعلم.
وقال أبو سعيد الخدري: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] قرأها رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم حتى ختمها وقال: "النَّاسُ خَيْرٌ، وأَنَا وأَصحَابِي خَيْرٌ"، وقال: "لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفتحِ؛ ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ".

ومنها قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، والصحابة في هذه الآية والتي قبلها هم المشافهون بهذا الخطاب على لسان رسول الله حقيقة. فانظرْ إلى كونه تعالى خلقهم عُدُولًا وخيارًا؛ ليكونوا شهداء على بقيَّة الأُمَم يوم القيامة، وحينئذ فكيف يَسْتَشْهِد الله تعالى بغير عُدُول.
ونقل ابن حجر الهيتمي في "الصواعق المحرقة" عن ابن حزم قوله: الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعًا؛ قال تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، فثبت أن جميعهم من أهل الجنة، وأنه لا يدخُل أحد منهم النار؛ لأنهم المخاطبون بالآية الأولى التي أثبتت لكل منهم الحسنى، وهي الجنة، ولا يُتوهَّم أن التقييد بالإنفاق أو القتال فيها وبالإحسان في الذين اتبعوهم بإحسان يخرج من لم يتَّصفْ بذلك منهم؛ لأن تلك القيود خرجت مخرج الغالب، فلا مفهوم لها على أن المراد من اتَّصفَ بذلك ولو بالقوة أو العزم.
ومنها ــ أيضًا ــ قوله تعالى: {قُلِ الْحُمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى...} [النمل: 59].
قال القرطبي في تفسيره: {قُلِ}: يا محمد، {الْحُمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} يعني: أمته عليه السلام، قال الكلبي: اصطفاهم الله بمعرفته وطاعته، وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم.
ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:74].
يقول أبو السعود في تفسيره: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَاوَوا وَّنَصَرُوا أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} كلامٌ مسوقٌ للثناء عليهم والشهادة لهم بفوزهم بالقدح المعلَّى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله تعالى: {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لا تبعةَ له ولا منة فيه.
وجاء في "التفسير الوسيط" بعد أن ذكر الآية: هذا كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار؛ إذ إن الآية الأولى من هذه الآيات الكريمة قد ساقها الله ــ تعالى ــ لإيجاب التواصل بينهم؛ أما هذه الآية فقد ساقها سبحانه؛ للثناء عليهم والشهادة لهم بأنهم هم المؤمنون حقَّ الايمان وأكمله؛ بخلاف من أقام من المؤمنين بدار الشرك، مع الحاجة إلى هجرته وجهاده.
قال الفخر الرازى: أثنى الله تعالى على المهاجرين والأنصار من ثلاثة أوجه:
أولها قوله: {أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} فإن هذه الجملة تفيد المبالغة في مدحهم؛ حيث وصفهم بكونهم حقين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك؛ لأن من لم يكن مُحِقًّا في دينه لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال.
وثانيها قوله: {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ} والتنكير يدل على الكمال، أي: مغفرة تامة كاملة.
وثالثها قوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}، والمراد منه الثواب الرفيع.
والحاصل: أنه ــ سبحانه ــ شرح أحوالهم في الدنيا والآخرة؛ أمَّا في الدنيا فقد وصفهم بقوله: {أُولَـئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}. وأما في الآخرة فالمقصود؛ إما دفع العقاب، وإما جلب الثواب. أما دفع العقاب فهو المراد بقوله {لَّهُم مَّغْفِرَةٌ}، وأما جلب الثواب فهو المراد بقوله: {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
ومن الآيات التي أثنت على بعض الصحابة ثناءً خاصًا:
أولًا: ثناء الله على المهاجرين:
أثنى الله تعالى على الصحابة عامة وعلى المهاجرين خاصة ثناء خالدًا في آيٍات كثيرة تُتلى إلى يوم الدين؛ منها قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
قال الإمام أبو السعود في تفسيره: "{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} حيث اضطرهم كفار مكة وأحوجوهم إلى الخروج، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} من الديار والأموال، وقُيِّدَ ذلك ثانيًا بما يوجبُ تفخيمَ شأنِهِم ويؤكده: {وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي: ناوينَ لنصرةِ الله تعالى ورسولِهِ. {أُولَئِكَ} الموصوفونَ بما فُصِّلَ من الصفاتِ الحميدةِ، {هُمُ الصَّادِقُونَ} الراسخونَ في الصدقِ حيث ظهر ذلك بما فعلوا ظهورًا بيِّنًا.
ومنها قول الله عز وجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} رُوي عن ابن عباس أنه قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة؛ رواه سماك بن حرب عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقال عكرِمةُ عن ابن عباس في قوله: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}؛ قال: هُمُ الذين هاجروا مع محمد صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم إلى المدينة؛ هكذا قال: "مع محمد" وأكثر الرواة عن سماك يقولون: "إنهم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة" والمعنى واحد؛ لأنهم هاجروا بأمره، وإن لم يكونوا هاجروا معه في سَفَرٍ واحدٍ؛ وإنما أشار إليهم ابن عباس بالذكر؛ لأنهم الذين قاتلوا من خالفهم على الدين حتى دخلوا فيه، وكذلك قال أبو هريرة، ومجاهد، والحسن، وعكرمة: "خير الناس للناس الذين يقاتلون حتى يُدخِلوهم في الدين طوعًا أو كرهًا"؛ وإذا كان ذلك فمعلوم أن المهاجرين الأولين والأنصار في ذلك سواء.
وذكر محمد بن إسحاق السرَّاج في تاريخه عن عامر الشعبي قال: المهاجرون الأولون الذين بايعوا معه بيعة الرضوان، وعن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سُمُّوا المهاجرين الأولين؟ قال: من صلَّى مع النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم القبلتين جميعًا فهو من المهاجرين الأولين والأنصار، فقال أبو عمر رضي الله عنه: قول الشعبي وسعيد بن المسيب يقضي بأن قولهم: المهاجرين الأولين كمعنى قول الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ}. [التوبة: 100]؛ لأنهم صَلَّوا القبلتين جميعًا، وبايعوا بيعة الرضوان، وفي ذلك أقوال لغيرهم، سنذكرها بعدُ إن شاء الله تعالى.
ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 218].
قال الإمام الآلوسي في تفسيره: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} أخرج ابن أبي حاتم والطبراني في "الكبير" من حديث جندب بن عبد الله أنها نزلت في سرية عبد الله بن جحش لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر. {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} أي فارقوا أوطانهم، وأصله من الهجر ضد الوصل. {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}؛ لإعلاء دينه وإنما كرر الموصول مع أن المراد بهما واحد؛ لتفخيم شأن الهجرة والجهاد فكأنهما ــ وإن كانا مشروطين بالإيمان في الواقع ــ مستقلان في تحقق الرجاء، وقدم الهجرة على الجهاد؛ لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما. {أُولَئِكَ} المنعوتون بالنعوت الجليلة، {يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} أي يؤملون تعلق رحمته سبحانه بهم، أو ثوابه على أعمالهم، ومنها تلك الغزاة في الشهر الحرام، واقتصر البعض عليها بناءًا على ما رواه الزهري أنه لما فرَّج الله تعالى عن أهل تلك السرية ما كانوا فيه من غمٍّ طمعوا فيما عند الله تعالى من ثوابه فقالوا: يا نبيَّ الله أنطمع أن تكون غزوة نعطى فيها أجر المهاجرين في سبيل الله تعالى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ولا يخفى أن العموم أعم نفعًا، وأثبت لهم الرجاء دون الفوز بالمرجوِّ؛ للإشارة إلى أن العمل غير موجب؛ إذ لا استحقاق به، ولا يدل دلالة قطعية على تحقق الثواب؛ إذ لا علاقة عقلية بينهما، وإنما هو تفضل منه تعالى سيَّما والعبرة بالخواتيم، فلعله يحدث بعد ذلك ما يوجب الحبوط، ولقد وقع ذلك ــ والعياذ بالله تعالى ــ كثيرًا، فلا ينبغي الاتِّكَال على العمل، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييل لما تقدَّمَ وتأكيد له، ولم يذكر المغفرة فيما تقدم؛ لأن رجاء الرحمة يدل عليها وقدَّم وصف المغفرة؛ لأن درأ المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
وجاء في كتاب "فتح القدير": أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن مجاهد: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 217]، قال: كفار قريش. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في قوله: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} قال: هؤلاء خيار هذه الأمة جعلهم الله أهل رجاء؛ إنه من رجا طلب، ومن خاف هرب.
وجاء في "التفسير الوسيط": المعنى: إن الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، واستقاموا على طريق الحق، وأذعنوا لحكمه، واستجابوا لأوامر الله ونواهيه: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا} أي: تركوا أموالهم وأوطانهم من أجل نصرة دينهم: {وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} لإِعلاء كلمته {أُولَئِكَ} الموصوفون بتلك الصفات الثلاث، {يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} أي: يؤملون تعلق رحمته ــ تعالى ــ بهم، أو ثوابه على أعمالهم، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ أي: واسع المغفرة للتائبين المستغفرين، عظيم الرحمة بالمؤمنين المحسنين.
قال الشيخ السعدي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}؛ هذه الأعمال الثلاثة هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية، وبها يعرف ما مع الإنسان من الربح والخسران، فأما الإيمان، فلا تسأل عن فضيلته، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة، وأهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد قُبِلَت أعمال الخير منه، وإذا عُدِم منه لم يقبَلْ له صرفٌ ولا عدلٌ، ولا فرضٌ، ولا نفْلٌ، وأما الهجرة: فهي مفارقة المحبوب المألوف؛ لرضا الله تعالى، فيترك المهاجر وطنه وأمواله، وأهله، وخلانه؛ تقربا إلى الله ونصرة لدينه، وأما الجهاد: فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء، والسعي التام في نصرة دين الله، وقمع دين الشيطان، وهو ذروة الأعمال الصالحة، وجزاؤه أفضل الجزاء، وهو السبب الأكبر لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عُبَّاد الأصنام، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
ثانيًا: ثناء الله تعالى على الأنصار:
جاء ثناء الله تعالى على الأنصار في كتابه؛ ليثبت فضلهم ويؤكد مكانتهم في الإسلام؛ ومما ورد في القرآن من ثناء الله تعالى عليهم:
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُو الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} كلام مستأنف مَسُوقٌ لمدح الأنصار بخصال حميدة، من جملتها: محبتهم للمهاجرين، ورضاهم باختصاص الفيء بهم، أحسن رضا وأكمله. ومعنى تَبَوُّئِهِمْ الدارَ: أنهم اتخذوا المدينة والإيمان مباءةً، وتمكنوا فيهما أشدَّ تمكُّنٍ. {مِن قَبْلِهِمْ} أي: من قبلِ هجرة المهاجرين.
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ} أي: في نفوسِهِم، {حَاجَةً} أي: شيئًا كالطلب والحسد والغيظ، {مِّمَّا أُوتُوا} أي: ما أُوتِيَ المهاجرون من الفيء وغيره. {وَيُؤْثِرُونَ} أي: يقدمون المهاجرين، {عَلَى أَنفُسِهِمْ} في كل شيء من أسبابِ المعاش حتى إنَّ من كان عنده امرأتان كان ينزل عن إحداهما ويزوجها واحدًا منهم. {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} أي: حاجة. وكان النبي عليه الصلاة والسلام قسَّم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يُعطِ الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين: أبا دُجَانَةَ سماكَ بنَ خَرَشَةَ، وسهلَ بنَ حُنيفٍ، والحارثَ بنَ الصِّمَّةِ. وقال لهم: "إنْ شئتُمْ قسمتُم للمهاجرينَ من أموالِكُم وديارِكُم وشاركتُمُوهُم في هذه الغنيمةِ، وإن شئتُم كانتْ لكُم ديارُكُم وأموالُكُم، ولم يُقسم لكم شيءٌ من الغنيمةِ"، فقالِ الأنصارُ: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها، فنزلت الآية. {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} الشُّح: اللؤم، وإضافته إلى النفس؛ لأنَّه غريزة فيها، مقتضِّيَة للحرص على المنع الذي هو البخل. أي: ومن يُوقَ بتوفيق الله تعالى شُحَّها حتى يُخالفها فيما يُغلب عليها من حُبِّ المالِ وبغضِ الإنفاقِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: الفائزون بكل مطلوب، الناجون من كل مكروه.
ومنه قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100].
قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: لما ذكر عز وجل أصناف الأعراب، ذكر المهاجرين والأنصار، وبيَّن أن منهم السابقين إلى الهجرة، وأن منهم التابعين، وأثنى عليهم، وقد اختلف في عدد طبقاتهم وأصنافهم ونحن نذكر من ذلك طرفًا نبيِّن الغرض فيه إن شاء الله تعالى، وروي عن عمر بن الخطاب أنه قرأ: {وَالْأَنصَارُ} رفعًا؛ عطفًا على {السَّابِقُونَ}، قال الأخفش: الخفض في الأنصار الوجه؛ لأن السابقين منهما؛ والأنصار اسم إسلامي. قيل لأنس بن مالك: أرأيت قول الناس لكم: الأنصار؛ اسم سَمَّاكم الله به أم كنتم تُدْعَوْن به في الجاهلية؟ قال: بل اسم سمانا الله به في القرآن؛ ذكره أبو عمر في "الاستذكار".
كما نص القرآن على تفضيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين صلوا إلى القبلتين في قول سعيد بن المسيب وطائفة، وفي قول أصحاب الشافعي: هم الذين شهدوا بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقاله الشعبي، وعن محمد بن كعب وعطاء بن يسار: هم أهل بدر واتَّفقوا على أن من هاجر قبل تحويل القبلة فهو من المهاجرين الأولين من غير خلاف بينهم.
ثالثًا: ثناء الله على من شهد بيعة الرضوان:
قال تعالى: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18]، قال الطبري في تفسيره: عن محمد بن إسحاق، قال: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم حين بلغه أن عثمان قد قُتِل، قال: "لا نَبْرَحُ حتى نُناجِزَ القَوْمَ"، ودعا الناس إلى البيعة، فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، فكان الناس يقولون: بايعهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم على الموت فكان جابر بن عبد الله يقول: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم لم يبايعنا على الموت، ولكنه بايعنا على أن لا نفرَّ، فبايع الناسُ رسولَ الله، ولم يتخلف عنه أحدٌ من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس أخو بني سلمة، كان جابر بن عبد الله يقول: لكأني أنظر إليه لاصقًا بإبط ناقته، قد اختبأ إليها، يستتر بها من الناس، ثم أتى رسولَ الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم أن الذي ذُكر من أمر عثمان باطل".
وروى إياس بن سلمة، قال: قال سلمة: "بينما نحن قائلون زمن الحديبية، نادى منادي رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم: أيها الناس البيعةَ البيعةَ، نزل روح القدس صلوات الله عليه، قال: فَسِرْنَا إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم، وهو تحت شجرة سمرة، قال: فبايعناه، وذلك قول الله: {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}.
وقال صاحب "الظلال" رحمه الله في تفسير هذه الآية: وإنني لأحاول اليوم من وراء ألف وأربعمائة عام أن أستشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كلُّه ذلك التبليغَ العُلْوي الكريم من الله العلي العظيم إلى رسوله الأمين عن جماعة المؤمنين. أحاول أن أستشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون؛ وهو يتجاوب جميعه بالقول الإلهي الكريم، عن أولئك الرجال القائمين إذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود. وأحاول أن أستشعر بالذات شيئًا من حال أولئك السعداء الذين يسمعون بآذانهم، أنهم هم؛ بأشخاصهم وأعيانهم، يقول الله عنهم: لقد رضي عنهم. ويحدد المكان الذي كانوا فيه، والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضا: {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}. يسمعون هذا من نبيهم الصادق المصدوق، مبلغًا عن ربه العظيم الجليل.
يا الله! كيف تلقوا ــ أولئك السعداء ــ تلك اللحظة القدسية، وذلك التبليغ الإلهي؟ التبليغ الذي يشير إلى كل أحد، في ذات نفسه، ويقول له: أنت أنت بذاتك. يبلغك الله: لقد رضي عنك، وأنت تبايع تحت الشجرة! وعلم ما في نفسك، فأنزل السكينة عليك!
إن الواحد منا ليقرأ أو يسمع: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ ءَامَنُوا} [البقرة: 257] فيسعد. يقول في نفسه: ألست أطمع أن أكون داخلًا في هذا العموم؟ ويقرأ أو يسمع: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] فيطمئن. يقول في نفسه: ألست أرجو أن أكون من هؤلاء الصابرين؟ وأولئك الرجال يسمعون ويبلغون. واحدًا واحدًا. أن الله يقصده بعينه وبذاته. ويبلغه: لقد رضي عنه! وعلم ما في نفسه. ورضي عما في نفسه!
يا الله! إنه أمر مهول! {لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا}.
علم ما في قلوبهم من حمية لدينهم لا لأنفسهم. وعلم ما في قلوبهم من الصدق في بيعتهم. وعلم ما في قلوبهم من كظم لانفعالاتهم تجاه الاستفزاز، وضبط لمشاعرهم؛ ليقفوا خلف كلمة رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم طائعين مسلمين صابرين.
وقال تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}. [الحديد: 10].
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أيْ: أيُّ شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم، وأنتم تموتون وتُخَلِّفُون أموالَكم، وهي صائرة إلى الله تعالى. فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق. وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: إنهما راجعتان إليه بانقراض من فيهما، كرجوع الميراث إلى المستحق له. واتَّفَقَ أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح في قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ}؛ هو فتح مكة. وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة: كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك. وفي الكلام حذف، أي: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل"، فحذف؛ لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم؛ لأن حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب. والله أعلم. وقوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعًا الجنة مع تفاوت الدرجات.
وقال صاحب "الظلال" في تفسير قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ...}: إن الذي ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة، والأنصار قلة، وليس في الأفق ظل منفعة، ولا سلطان، ولا رخاء؛ غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة، والأنصار كثرة، والنصر والغلبة والفوز قريبة المنال. ذلك متعلق مباشرة بالله، متجرد تجرُّدًا كاملًا، لا شبهة فيه.. عميق الثقة والطمأنينة بالله وحده.. بعيد عن كل سبب ظاهر، وكل واقع قريب.. لا يجد على الخير عونًا، إلا ما يستمده مباشرة من عقيدته. وهذا له على الخير أنصار، حتى حين تَصِحُّ نيَّتُه، ويتجرَّد تجرُّدَ الأولين.
وقال "القشيري" في تفسيره: لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح مكة والحديبية والذين أنفقوا من بعد ذلك. بل أولئك أعظم ثوابًا وأعلى درجةً من هؤلاء؛ لأنَّ حاجةَ الناسِ كانت أكثر إلى ذلك، وكان ذلك أشقَّ على أصحابه. ثم قال: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} إلاَّ أنَّ فضيلة السَّبْقِ لهم، ولهذا قالوا:
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قولًا وفعلًا حَذِّروا النَّفسَ حَسْرَةَ المسبوقِ
ومما ذكر الله تعالى في فضلهم قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10].
يقول الأستاذ سيد قطب: أما الحديث عن الوفاء بالبيعة والنكث فيها في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} فالإيحاء فيه أكثر إلى تكريم المبايعين وتعظيم شأن البيعة.
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}. وهو تصوير رهيب جليل للبيعة بينهم وبين رسول الله ــ صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم ــ والواحد منهم يشعر وهو يضع يده في يده، أن يد الله فوق أيديهم. فالله حاضر البيعة. والله صاحبها. والله آخذها. ويده فوق أيدي المتبايعين.. ومن؟ الله! يا للهول! ويا للروعة! ويا للجلال! وإن هذه الصورة لتستأصل من النفس خاطر النكث بهذه البيعة مهما غاب شخص رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم؛ فالله حاضر لا يغيب. والله آخذ في هذه البيعة ومعطٍ، وهو عليها رقيب. {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ..} فهو الخاسر في كل جانب. هو الخاسر في الرجاع عن الصفقة الرابحة بينه وبين الله تعالى. وما من بيعة بين الله وعبد من عباده إلا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله، والله هو الغني عن العالمين. وهو الخاسر حين ينكث وينقض عهده مع الله فيتعرض لغضبه وعقابه على النكث الذى يكرهه ويمقته، فالله يحب الوفاء ويحب الأوفياء: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا..} هكذا على إطلاقه: {أَجْرًا عَظِيمًا..} لا يفصله ولا يحدده. فهو الأجر الذي يقول عنه الله: إنه عظيم.
عظيم بحساب الله وميزانه ووصفه الذي لا يرتقي إلى تصوره أبناء الأرض المقلون المحدودون الفانون!
رابعًا: ثناء الله تعالى على من شهد غزوة تبوك:
في قوله تعالى: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 117].
وجاء في "التفسير الوسيط": قال الإِمام الرازى: اعلم أنه تعالى لما استقصى في شرح أحوال غزوة تبوك، وبيَّن أحوال المتخلفين عنها، وأطال القول في ذلك على الترتيب الذى لخصناه فيما سبق، عاد في هذه الآية إلى شرح ما بقي من أحكامها، ومن بقية تلك الأحكام أنه قد صدر عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم ما يجري مجرى ترك الأولى، وصدر عن المؤمنين كذلك نوع زلة، فذكر سبحانه أنه تفضَّل عليهم، وتاب عليهم، في تلك الزلات، فقال تعالى: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ}.
وللعلماء أقوال في المراد بالتوبة التى تابها الله على النبى صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم وعلى المهاجرين والأنصار: فمنهم من يرى أن المرد بها قبول توبتهم، وغفران ذنوبهم، والتجاوز عن زلاتهم التى حدثت منهم في تلك الغزوة أو في غيرها، وإلى هذا المعنى أشارة القرطبى بقوله:
قال ابن عباس: كانت التوبة على النبى صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم؛ لأجل أنه أذن للمنافقين في القعود، بدليل قوله سبحانه قبل ذلك: {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ...} [التوبة: 43] وكانت توبته على المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلف عنه ــ أى: إلى التخلف عن الخروج معه إلى غزوة تبوك.
ومنهم من يرى أن المقصود بذكر التوبة هنا التنويه بفضلها، والحض على تجديدها، وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف فقال: {تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} كقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] وكقوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} [محمد: 19] وهو بعث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار، حتى النبي والمهاجرين والأنصار، وإبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله، وأن صفة التوابين الأوابين صفة الأنبياء كما وصفهم بالصالحين ليظهر فضيلة الصلاح.
ومنهم من يرى أن المراد بالتوبة هنا: دوامها لا أصلها، وإلى هذا المعنى أشار بعضهم بقوله: {لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ} أى: أدام توبته على النبي والمهاجرين والأنصار. وهذا جواب عما يقال: من أن النبي معصوم من الذنب، وأن المهاجرين والأنصار لم يفعلوا ذنبًا في هذه القضية، بل اتبعوه من غير تلعثم، قلنا: المراد بالتوبة في حق الجميع دوامها لا أصلها.
ومنهم من يرى أن ذكر النبي هنا إنما هو من باب التشريف، والمراد قبول توبة المهاجرين والأنصار فيما صدر عن بعضهم من زلات. وقد وضَّح هذا المعنى الإِمام الآلوسى فقال: قال أصحاب المعانى: المراد ذكر التوبة على المهاجرين والأنصار، إلا أنه جيء في ذلك بالنبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم؛ تشريفا لهم، وتعظيما لقدرهم، وهذا كما قالوا في ذكره تعالى في قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية، أى: عفا سبحانه عن زلات صدرت منهم يوم أُحُد ويوم حنين. ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب الآراء إلى الصواب؛ لأن الآية الكريمة مسوقة لبيان فضل الله تعالى على رسوله وعلى المؤمنين، حيث غفر لهم ما فرط منهم من هفوات وقعت في هذه الغزوة، وهذه الهفوات صدرت منهم بمقتضى الطبيعة البشرية، وبمقتضى الاجتهاد في أمور لم يبين الله تعالى حُكْمَه فيها، فهي لا تنقص من منزلة الرسول صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم ولا من منزلة أصحابه الصادقين في إيمانهم.
والمعنى: لقد تقبَّل الله تعالى توبة النبى صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم كما تقبَّل توبة أصحابه المهاجرين والأنصار، الذين اتبعوه عن طواعية واختيار وإخلاص في ساعة العُسْرَة. أى في وقت الشدة والضيق، وهو وقت غزوة تبوك، فالمراد بالساعة هنا مطلق الوقت.
وقد كانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة، كما كان الجيش الذى اشترك فيها يسمى بجيش العسرة؛ وذلك لأن المؤمنين خرجوا إليها في مجدبة، وحر شديد، وفقر في الزاد والماء والراحلة.
قال بعضهم: فإن قلت: قد ذكر التوبة أوَّلًا ثم ذكرها ثانيًا فما فائدة التكرار؟
قلت: إنه سبحانه ذكر التوبة أولًا قبل ذكر الذنب؛ تفضُّلًا منه وتطييبًا لقلوبهم، ثم ذكر الذنب بعد ذلك وأردفه بذكر التوبة مرة أخرى؛ تعظيمًا لشأنهم، وليعلموا أنه تعالى قد قَبِل توبتهم، وعفا عنهم، ثم أتبعه بقوله سبحانه: {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} تأكيدًا لذلك. والرأفة عبارة عن السعي في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعي في إيصال النفع.
وقال القرطبى: قوله {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} قيل: توبته عليهم أن تدارك قلوبهم حتى لم تزغ وتلك سنة الحق - سبحانه - مع أوليائه إذا أشرفوا على العطب ووطنوا أنفسهم على الهلاك، أمطر عليهم سحائب الجود فأحيا قلوبهم.
قال الشاعر:
منك أرجو ولست أعرف ربا يرتجى منه بعض ما منك أرجو
وإذا اشتدت الشدائد في الأر ض على الخلق فاستغاثوا وعجوا
وابتليت العباد بالخوف والجو ع، وصروا على الذنوبِ ولَجُّوا
لم يكن لي سواك ربي ملاذ فتيقنتُ
أنَّنِي
بك
أنجو
وكما تقبل الله تعالى توبة المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا رسولهم صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم في ساعة العسرة. فقد تقبَّل توبة الثلاثة الذين تخلفوا عن الاشتراك في غزوة تبوك.
يقول ابن عاشور في تفسيره "التحرير والتنوير": انتقال من التحريض على الجهاد والتحذير من التقاعس والتوبيخ على التخلف، وما طرأ على ذلك التحريض من بيان أحوال الناس تجاه ذلك التحريض وما عقَّبه من أعمال المنافقين والضعفاء والجبناء إلى بيان فضيلة الذين انتدبوا للغزو واقتحموا شدائده؛ فالجملة استئناف ابتدائي.
وافتتاحها بحرف التحقيق تأكيد لمضمونها المتقرر فيما مضى من الزمان حسبما دلَّ عليه الإتيان بالمسندات كلها أفعالًا ماضية. ومن المحسنات افتتاح هذا الكلام بما يؤذن بالبشارة لرضى الله على المؤمنين الذين غزوا تبوك. وتقديم النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم في تعلُّق فعل التوبة بالغُزاة؛ للتنويه بشأن هذه التوبة وإتيانها على جميع الذنوب؛ إذ قد علم المسلمون كلهم أن النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم قد غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
ومعنى: {تَّابَ} عليه: غفر له، أي: لم يؤاخذه بالذنوب؛ سواء كان مذنبًا أم لم يكنه، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] أي فغفر لكم وتجاوز عن تقصيركم وليس هنالك ذنب ولا توبة. فمعنى التوبة على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه أن الله لا يؤاخذهم بما قد يحسبون أنه يسبب مؤاخذة كقول النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم: "لعلَّ اللهَ اطَّلَعَ علَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ فَقَد غَفَرْتُ لَكُمْ".
وأما توبة الله على الثلاثة الذين خُلِّفوا فهي استجابته لتوبتهم من ذنبهم.
والمهاجرون والأنصار: هم مجموع أهل المدينة، وكان جيش العسرة منهم ومن غيرهم من القبائل التي حول المدينة ومكة، ولكنهم خُصُّوا بالثناء؛ لأنهم لم يترددوا ولم يتثاقلوا ولا شحُّوا بأموالهم، فكانوا أُسوةً لمن اتَّسى بهم من غيرهم من القبائل. ووصف المهاجرون والأنصار بـ {الَّّذِينَ اتَّبَعُوهُ}؛ للإيماء إلى أن لصلة الموصول تسبُّبًا في هذه المغفرة. ومعنى {اتَّبَعُوهُ} أطاعوه ولم يخالفوا عليه، فالاتباع مجازيٌّ. والساعة: الحصة من الزمن. والعسرة: اسم العسر، زيدت فيه التاء للمبالغة وهي الشدة؛ وساعة العسرة هي زمن استنفار النبي صَلَّى الله عَلَيهِ وَسَلَّم الناس إلى غزوة تبوك، فهو الذي تقدمت الإشارة إليه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] فالذين انتدبوا وتأهبوا وخرجوا هم الذين اتبعوه، فأما ما بعد الخروج إلى الغزو فذلك ليس هو الاتباع ولكنه الجهاد. ويدل على ذلك قوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} أي: من المهاجرين والأنصار، فإنه متعلق بـ {اتَّبَعُوهُ} أي اتبعوا أمره بعد أن خامر فريقًا منهم خاطر التثاقل والقعود والمعصية بحيث يشبهون المنافقين؛ فإن ذلك لا يتصور وقوعه بعد الخروج، وهذا الزيغ لم يقع ولكنه قارب الوقوع.
هذه بعض ثناءات القرآن على الصحابة؛ هذا الجيل الإسلامي الفريد، سجل لهم سبقهم وفضلهم في آي حكيم يتلى إلى يوم الدين، فرضي الله تعالى عنهم أجمعين.