فيما يتعلق بقدرتنا على التحكم والإدارة والتصرف يقول خبراء الإدارة الذاتية بأنّ هناك في حياتنا دائرتان. دائرة التأثير ودائرة الاهتمام. دائرة التأثير هي الدائرة الصغيرة في حياتنا التي نستطيع أن نتحكم بها بشكل كبير ونحقق من خلالها إنجازات كبيرة. إنّها الدائرة التي نملك فيها زمام المبادرة وتقع مباشرة في نطاق مسئوليتنا الشخصية والشرعية. ومن أمثلة الأمور في هذه الدائرة التحكم في أفعالنا، وتوجيه سلوكياتنا، وكلّ ما من شأنه التحكم في مصيرنا ومستقبلنا. خذ على سبيل المثال: مستوى الإيمان والقرب من الخالق، مَن يستطيع أن يحدده غير الشخص نفسه ومبادراته الذاتية وسلوكياته الموجهة. وكذلك الاهتمام بالصحّة، والسلامة الشخصية، وتنظيم الوقت، وتوازن الغذاء، ومستوى التركيز ومستوى العلاقات الإنسانية. إنّ كلّ شيء في إطار واجباتنا ومسئولياتنا المباشرة يدخل ضمن هذه الدائرة العظيمة.
كما يدخل في هذه الدائرة مسئولياتنا تجاه مَن يجب علينا رعايتهم شرعاً كالزوجة والأبناء والوالدين والإخوان والأقرباء ومسئوليات العمل والوظيفة... إلخ، يقول الرسول (ص): "كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته" فكلّ شيء يدخل في هذه الرعية هو حدود دائرة التأثير.
إنّ دائرة التأثير هذه هي الدائرة الخاصة وهي أهم دائرة في حياتنا وذلك لسببين رئيسيين: السبب الأوّل: أنّ آثارها علينا مباشرة. والسبب الثاني: أنّنا نملك التحكم فيها بشكل كبير. ولذلك ليس غريباً أن ينطلق النجاح والتميز من هذه الدائرة ويعتمد في صناعته عليها. والشخص الذي يتمكن من هذه الدائرة، ويركز عليها، ويطورها يشعر بالسعادة والرضى ويحقق في العادة مستوى عالٍ من الأداء والإنتاجية.
أما الدائرة الأخرى، دائرة الاهتمام أو الدائرة العامة فإنّها كلّ ما يدخل في مجال اهتمام الشخص من أمور. وفي هذه الدائرة مسئوليات متفاوتة بعضها قريب من دائرة التأثير والبعض الآخر يتفاوت في البعد. فعلى سبيل المثال، قضايا الحي أو خدمة المجتمع وعلاقاتنا بالشأن العام في المجتمع وقضايا الأُمّة، وعلاقات الزملاء والعملاء في العمل.. إلخ. كلّ هذه الأمور تعبر عن دائرة الاهتمام. ولا شك أنّ تأثيرنا على هذه الدائرة أقل بكثير من قدرتنا على التأثير والتحكم في الدائرة الأولى.
في إحدى محاضراتي في الغرفة التجارية الصناعية بالرياض تحدثت عن الدائرتين وأوضحت أنّ النجاح الحقيقي هو في الدائرة الأولى، وأنّ أي نجاح تحققه في الدائرة الثانية مع إهمال الدائرة الأولى لا يحقق السعادة الحقيقية، ويورث مشاعر الأسى والحسرة والشعور بعدم التوازن مع مرور الزمن في حياة الإنسان.
وبعد أن فرغت من المحاضرة جاءني أحد رجال الأعمال وقال: ليتني سمعت هذه المحاضرة قبل ثلاثين سنة، أنا أعتبر نفسي رجلاً ناجحاً في الدائرة الثانية فقد جمعت الكثير من المال، ونجحت في إنجاز الكثير من المشاريع، واسمي معروف في عالم المقاولات، ولكني في دائرتي الخاصة لست على ما يرام، أعاني من مجموعة من الأمراض، وانفصلت عن زوجتي قبل سنوات وعلاقتي مع أولادي ضعيفة... وأعيش في عزلة عن الأقارب والأصحاب بسبب انشغالي المستمر بعملي.
إنّ الدائرة الخاصة هي دائرة التأثير الحقيقي، إنّها دائرة التحكم والسيطرة، وعن طريقها نصل إلى ما يمكن أن نصل إليه من نتائج باهرة: مستوى الإيمان المرتفع، درجة العلم والمعرفة، مستوى تربية النفس وتهذيبها، كذلك مستوى الأداء والإنتاجية وإدارة الذات والتنظيم. وبمقدار ما تكون هذه الدائرة قوية تبدأ تشع ضوءها إلى الخارج وتؤثر بطريقة إيجابية على الدائرة العامة.
وقد جاءت الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة بالتركيز تركيزاً كبيراً على الدائرة الخاصة وبنائها، والاهتمام بها والتأكيد على كونها منطقة نجاة الإنسان ونجاحه. يقول تعالى: (لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) (المائدة/ 105)، ويقول سبحانه عزّ وجلّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً...) (التحريم/ 6)، وقال (ص): "ابدأ بمن تعول" وقال: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" وقال (ص): "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه وعن جسده فيما أبلاه وعن ماله من أين أخذه وفيما أنفقه وعن عمله ماذا عمل به" (حديث صحيح).
وهناك الكثير من الأمثلة في حياتنا العملية توضح انحراف كثير من الناس بالتركيز على الدائرة العامة على حساب الدائرة الخاصة، مثل الذي يركِّز على عمله فيقضي فيه الساعات الطويلة وليس لديه وقت كافٍ لزوجته أو أبنائه، أو ليس لديه وقت كافٍ للمحافظة على صحّته أو بناء علاقاته الاجتماعية، أو الشاب الذي يركِّز على أصدقائه ويضيع الكثير من الوقت في التواصل معهم على حساب والديه... إلخ.
إنّ مفتاح النجاح في الحياة وسر التميُّز هو في التركيز على دائرة الاهتمام أوّلاً، مع عدم إغفال الدائرة الثانية.►
للكاتب د. ابراهيم بن حمد
المصدر: كتاب دروس ثمينة في تحقيق التميز والنجاح في الحياة