الشجاعة والعدل صفات لازمة حتمية لكلِّ مَنْ أراد أن يتولَّى شئون القيادة والإمارة، وما أتعس الأُمَّة إن ولت شئونها من يفتقدهما، وكانت هذه الصفات متاحة في القائد المجاهد عماد الدين زنكي، وتلك وقفة معهما:
شجاعة عماد الدين زنكي:
ما أتعس الأُمَّة لو تولَّى شئونها مَنْ يَتَّصف بالخوف، أو يغلب عليه الجبن!
وليست الشجاعة في ميدان الحروب فقط، ولكن الشجاعة تكون قبل ذلك في مرحلة القرار؛ فكثير من القوَّاد لا يملك الشجاعة لأخذ قرار الجهاد أصلاً، ويتعلَّل بأنه لا يُريد لأُمَّته أن تعيش ويلات الحروب! مع كون البلاد محتلَّة، والكرامة مهانة، والحقوق ضائعة! لكن عماد الدين زنكي كان شجاعًا في كل شيء؛ فكان شجاعًا في قراراته، وشجاعًا في مواقفه المختلفة، وشجاعًا في معاركه الكثيرة، وهذا منذ أيامه الأولى، وإلى آخر لحظات حياته.
ولقد شاهدنا شجاعته قبل ولايته حين كان يصحب أمراء الموصل كربوغا وجكرمش ومودود وآق سنقر البُرْسُقي، واستمرَّت هذه الشجاعة بل زادت عندما تولَّى الإمارة، وما أصدق الوصف الذي ذكره أبو شامة[1] في حقِّ عماد الدين زنكي حين قال: «وأما شجاعته وإقدامه، فإليه النهاية فيهما، وبه كانت تضرب الأمثال»[2]!
أما ابن الأثير فقد قال عن عماد الدين زنكي: «وكان له الشجاعة في الغاية»[3]! وقال في موضع آخر: «وكان أشجع خلق الله»[4]!
وهكذا كانت حياته كلها، مما يدلُّ على أن الشجاعة كانت صفة متأصِّلة فيه، وليست عابرة في ظرف من الظروف، أو موقف من المواقف.
عدل عماد الدين زنكي:
لا بُدَّ أن يكون العدل صفة لازمة لأي حاكم صالح؛ لأن الحاكم يملك القوَّة لفرض ما يُريد، فلو أراد الظلم لم يستطع أحد أن يمنعه، ولو أراد العدل سعد به شعبه، بل سعدت به الدنيا.
والعدل كان من السمات الرئيسية المميِّزَة لعماد الدين زنكي، حتى قال ابن الأثير في وصف فترة حكمه: «لا يقدر القوي على ظلم الضعيف»[5]! وكان يُوصي أمراءه دائمًا بالتخفيف على الرعية، وتجنُّب أعمال السخرة، وكان صارمًا في هذا الباب تمامًا، ولقد اعتقل وزيره أبا المحاسن العجمي؛ لأنه صادر بعض أموال الناس، ولم يقبل له حجَّته[6]، فكان الشعب عنده مقدَّمًا على القادة والأمراء، وكان شديد الحرص على ممتلكات الفلاحين البسطاء، فيأمر جنوده بأن يسيروا وسط المزارع في منتهى الحذر؛ لئلاَّ يدوس أحدهم زرعًا لفلاح، ولم يكن في زمانه يجسر جندي على أن يأخذ تبنًا لفرسه من فلاح بلا ثمن[7]، مع أن التبن سيُؤخذ علفًا لخيول الجهاد؛ فإن ذلك لا بُدَّ أن يكون بالثمن!
وإذا كان عماد الدين زنكي لا يُسامح جنوده في تبنٍ أخذوه بغير ثمن، فما بالك بالأراضي والأملاك والديار؟!
لقد كان من عادة الأمراء قبله أنهم إذا دخلوا مدينة أو قرية كانت في حوزة غيرهم أخذوها وقسموها على الأجناد، وبذلك تضيع ملكيات المالكين الأصليين، حتى جاء عماد الدين زنكي فأقرَّ نظام الإقطاعيات ورفض نظام الأملاك، بمعنى أنه كان يُعطي الأمير أو الجندي إقطاعية معينة في البلد المفتوح يتولَّى إدارتها وتنظيمها وحمايتها دون أن يتملَّكها، بل تبقى الملكية في يد المالك الأصلي، ويدفع المالك ضريبة معينة مخفَّفَة للحكومة نظير التأمين والرعاية، ومن هذه الضريبة يأخذ الأمير صاحب الإقطاع شيئًا؛ أما الأرض فتبقى في يد مالكها ويتوارثها أبناؤه. ولما ذهب إليه بعض أمرائه وجنوده الكبار يطلبون أملاكًا، كما يفعل الزعماء غير عماد الدين زنكي، قال لهم عماد الدين زنكي كلامًا من نور! إذ قال: «ما دامت البلاد بأيدينا (أي نحكمها)، فأيُّ حاجةٍ بكم إلى الأملاك؟! فإن الإقطاعات تغني عنها، فإن خرجت البلاد من أيدينا، فإن الأملاك تذهب معها. (أي إذا تملَّك الصليبيون البلد، فلن تنفع حينئذٍ ملكيته)، ثم يُكمل ويقول: «ومتى صارت الأملاك لأصحاب السلطان ظلموا الرعية، وتعدَّوْا عليهم، وغصبوهم أملاكهم»[8].
إنه في هذا التصرُّف العادل يضع مصلحة الشعب والفقراء والبسطاء والضعفاء فوق مصلحة الأمراء والقادة ورجال الحكومة؛ لكنه في الوقت نفسه طمأن قلوب الأمراء بأنه جعل لهم الإقطاعيات، بمعنى مراكز القيادة والإدارة، وجعل لهم دخلاً يتناسب مع حجم الإقطاعية، فتحقَّق لهم ربح وفير دون الإخلال بحقوق الشعب؛ بل إنه أدخل نظام التوارث في الإقطاعية، فكان كثيرًا ما يُعطِي منصب حاكم الإقطاعية لابن الأمير حال وفاة الأمير؛ ليطمئن الأمير على مستقبل أولاده، فلا يسعى في حياته إلى ظلمٍ يحفظ به أولاده بعد مماته.
ومن أروع مواقف عماد الدين زنكي بخصوص قضية الأملاك والإقطاعيات ما حدث عند فتحه للمعرَّة، وأخذها من يد الصليبيين بعد احتلال عدَّة سنوات!
لقد كان عماد الدين زنكي حنفيَّ المذهب، وفي مذهب أبي حنيفة أن الأرض إذا احتلَّها الأعداء غير المسلمين صارت دار حرب، ثم إذا ردَّها المسلمون بعد ذلك صارت من أملاك الدولة، فيأخذها بيت المال، ويُقَسِّمها بمعرفته على مَنْ شاء من الناس دون النظر إلى الملكية السابقة للأراضي والديار.
فعند فتح المعرة جاء أهلها السابقون من كل مكان يطلبون أملاكهم القديمة، فجاء عماد الدين زنكي بالفقهاء ليقولوا رأيهم في المسألة، فأفتوا جميعًا برأي أبي حنيفة؛ حيث إنهم جميعًا كانوا من العراق حيث ينتشر المذهب الحنفي، وقالوا: إن الأرض لم تَعُدْ ملكًا لهم، بل لبيت مال المسلمين (أي للدولة)!
فماذا فعل عماد الدين زنكي رحمه الله؟!
لقد قال عماد الدين زنكي في فقهٍ عميق: «إذا كان الفرنج (الصليبيون) يأخذون أملاكهم، ونحن نأخذ أملاكهم، فأيُّ فرقٍ بيننا وبين الفرنج؟ كلُّ من أتى بكتاب يدلُّ على أنه مالك لأرض فليأخذها». وبذلك ردَّ عماد الدين زنكي إلى الناس جميع أملاكهم، ولم يتعرَّض لشيء منها[9].
وكان من منهجه ألا يُبقي على مفسد، وكان يهتمُّ بالأمن ونظامه في كل مكان، فساد الأمن في كل مكان، وقد كان هذا الأمن مضطربًا جدًّا خلال الفترة التي سبقت حكم زنكي، وكان الناس لا يستطيعون قطع المسافات الطويلة دون حراسة، حتى إن أهل الموصل كانوا لا يستطيعون الذهاب إلى الجامع الكبير الذي أُنشِئ خارج البلد إلا في يوم الجمعة؛ وذلك خوفًا من السير بمفردهم دون حراسة، لكن بعد حكم زنكي انتشر الأمن والأمان، بل زاد العمران، وعَمَّت البركة، وتوسَّع الناس في البناء[10].
وهكذا سخَّر عماد الدين زنكي قوَّته لإرساء العدل، فتحقَّق مراده، بل أنعم الله عز وجل عليه وعلى شعبه بما لا يتخيَّلُون من خير وبركة.
ولم يكن هذا العدل خاصًّا برعيته المسلمين فقط، بل شمل اليهود والنصارى، فقد كان في ذات يوم في جزيرة ابن عمر، فدخل عليه يهوديٌّ يشتكي أن عز الدين أبا بكر الدبيسي -وهو من أكبر أمراء عماد الدين زنكي- أخذ داره ليسكن فيها مدَّة بقاء الجند في الجزيرة، فنظر عماد الدين زنكي نظرة غضب شديدة لعز الدين ولم يُكَلِّمْه كلمة واحدة، فتأخَّر عز الدين القهقرَى، وعاد إلى البلد فأخرج خيامه ونصبها خارج البلد في مطر شديد، ولم يستطع أن يُؤَخِّر إعادة الحقِّ إلى اليهودي ليلة واحدة[11]!
هكذا كان عماد الدين رحمه الله مثلًا للحاكم العادل الشجاع.
ولنتابع صفاته الأخرى، علنا نتحلى بها أو نربي عليها أبناءنا، فما أحوج أمتنا إلى مثله.
[1] أبو شامة (599-665هـ=1202-1266م): عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم، محدث ومفسر وفقيه وأصولي ومقرئ، وُلد بدمشق ونشأ فيها، وتولى مشيخة دار الحديث الأشرافية، من مصنفاته: الروضتين في أخبار الدولتين: النورية والصلاحية، وكتاب الذيل عليها، واختصر تاريخ دمشق، وله شرح الحديث المقتفى في مبعث المصطفى. انظر: ابن عساكر: تاريخ دمشق 66/3، والشاطبي: إبراز المعاني من حرز الأماني 1/1، وابن شاكر: فوات الوفيات 2/270، 271.
[2] أبو شامة: الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية 1/160.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/153.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/340.
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/340.
[6] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص 263.
[7] ابن العديم: زبدة حلب 2/283، 284.
[8] ابن الأثير: الباهر ص77.
[9] ابن واصل: مفرج الكروب 1/75.
[10] ابن الأثير: الباهر ص77.
[11] ابن الأثير: الباهر ص77.
د. راغب السرجاني