تـمـثـال جـرتـرود بـيـل في الـمـتـحـف الـعـراقي
الـدّكـتـور صـبـاح الـنّـاصـري
تـبـنّـت الـمـس جـرتـرود بـيـل مـنـذ عـام 1923 مـشـروع تـأسـيـس مـتـحـف وطـني عـراقي لـحـفـظ الـمـجـمـوعـات الأثـريـة الّـتي تـراكـمـت عـامـاً بـعـد عـام في قـاعـات الـسّـراي الـقـديـمـة. وشُـيّـدت لـه بـنـايـة في مـنـطـقـة “عـلاوي الـحـلّـة”.
وفـتـح الـمـتـحـف، الّـذي أسـمي بـالـمـتـحـف الـعـراقي، أبـوابـه لـلـزوّار في حـزيـران 1926. وكـانـت بـنـايـتـه قـلـيـلـة الـسّـعـة في الـبـدايـة.
وفي بـغـداد، تـوفـيـت (الـخـاتـون)، كـمـا كـان الـبـغـداديـون يـسـمـون الـمـس جـرتـرود بـيـل، في 12 تـمّـوز 1926، قـبـل يـومـيـن مـن بـلـوغـهـا الـثّـامـنـة والـخـمـسـيـن مـن عـمـرهـا. وكـانـت قـد أوصـت أن تـدفـن في بـغـداد، فـدفـنـت في مـقـبـرة الأرمـن في الـبـاب الـشّـرقي.
وقـد نـصـبـت في ذكـراهـا، في مـدخـل الـمـتـحـف الـعـراقي، لـوحـة مـن الـبـرونـز فـوقـهـا تـمـثـال نـصـفي لـهـا. وعـلى الـلـوحـة نـصّ بـالـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة في نـصـفـهـا الأيـسـر، وتـرجـمـتـه إلى الـلـغـة الـعـربـيـة في الـنّـصـف الأيـمـن.
حـفـل إزاحـة الـسّـتـارة عـن الـتّـمـثـال :
لـديـنـا ثـلاث صـور لـحـفـل إزاحـة الـسّـتـارة عـن الـلـوحـة والـتّـمـثـال. ولـم أجـد تـاريـخ إقـامـة هـذا الـحـفـل بـالـضّـبـط .
نـرى في الـصّـورة الأولى الـمـلـك فـيـصـل الأوّل واقـفـاً أمـام الـلـوحـة الّـتي مـا زالـت تـغـطّـيـهـا الـسّـتـارة، يـرتـدي مـعـطـفـاً فـاتـح الـلـون، يـبـدو مـعـطـفـاً واقـيـاً مـن الـمـطـر، وعـلى رأسـه “سـدارة”. ويـبـدو مـن وجـوه الـحـاضـريـن، الـعـراقـيـيـن والأجـانـب، الـنّـاظـريـن إلـيـه أنّـه كـان يـلـقي كـلـمـة بـهـذه الـمـنـاسـبـة. ووقـف عـلى يـمـيـنـه الـمـنـدوب الـسّـامي الـبـريـطـاني.
وقـد قـرأت في عـدّة مـواضـع أنّ حـفـل إزاحـة الـسّـتـارة عـن الـنّـصـب جـرى عـام 1930 بـحـضـور الـمـنـدوب الـسّـامي الـبـريـطـاني سـيـر فـرنـسـيـس هـ. هـمـفـريـز Sir Francis Henry Humphrys. ولـكـنّ الـمـنـدوب الـسّـامي الّـذي يـظـهـر في الـصـورة لا يـشـبـه الـسّـيـر هـمـفـريـز الّـذي نـعـرفـه في صـور أخـرى. (1)
والّـذي يـظـهـر في الـصّـورة يـمـكـن أن يـكـون الـسّـيـر هـنـري دوبـس Sir Henry Dobbs الّـذي شـغـل هـذا الـمـنـصـب في الـعـراق مـن 1923 إلى 1928، أو الـسّـيـر جـلـبـرت ف. كـلايـتـون Sir Gilbert Falkingham Clayton الّـذي شـغـلـه مـن 1928 إلى 1929، أي مـبـاشـرة قـبـل الـسّـيـر هـمـفـريـز.
ويـبـدو مـن الـمـعـاطـف الّـتي يـرتـديـهـا الـحـاضـرون أنّ الـحـفـل جـرى في طـقـس شـتـائي بـارد.
ونـرى الـمـنـدوب الـسّـامي مـرتـديـاً مـعـطـفـاً غـامـق الـلـون يـمـسـك قـبـعـتـه بـيـديـه الـلـتـيـن يـغـطـيـهـمـا قـفـازان. أمـا عـلى يـسـار الـمـلـك، فـقـد وقـف وزيـر الـمـعـارف عـبـد الـحـسـيـن الـجـلـبي مـرتـديـاً زيّـاً غـامـقـاً مـمـا يـلـبـسـه الأوربـيـون في الإحـتـفـالات الـرّسـمـيـة، بـسـتـرة طـويـلـة مـذيّـلـة (أي يـنـسـدل أسـفـلـهـا إلى مـنـتـصـف الـفـخـذيـن تـقـريـبـاً). ولـكـنّـه يـتـمـيّـز عـن الـمـدعـويـن الأجـانـب بـأنّ عـلى رأسـه “سـدارة” سـوداء بـدلاً مـن الـقـبـعـة.
ونـلاحـظ أنّ الأجـانـب، ومـن ضـمـنـهـم الـمـنـدوب الـسّـامي، خـلـعـوا قـبـعـاتـهـم مـن عـلى رؤوسـهـم احـتـرامـاً، كـمـا هي الـعـادة في مـثـل هـذه الـمـنـاسـبـات، بـيـنـمـا أبـقى الآخـرون “الـسّـدارات” الـمـدنـيـة والـعـسـكـريـة (وحـتّى الـطـربـوش الّـذي نـلـمـحـه بـيـن الـمـلـك والـوزيـر) عـلى رؤوسـهـم.
ولا شـكّ في أنّـه كـان مـن بـيـن الـحـاضـريـن أحـد عـالـمَي الآثـار الـبـريـطـانـيَـيـن : ريـشـارد س. كـوك الّـذي تـولى إدارة الـمـتـحـف مـن بـعـد وفـاة الـمـس بـيـل عـام 1926 إلى أن نُـحي عـنـهـا في 1929، أو سـيـدني سـمـيـث Sidney Smith الّـذي خـلـفـه في إدارة الـمـتـحـف مـن 1929 وإلى 1931. ولـم أسـتـطـع أن أتـعـرّف عـلى الـواحـد مـنـهـمـا أو الآخـر مـن بـيـن الـحـاضـريـن لأني لـم أجـد ولـو صـورة شـخـصـيـة واحـدة لأيّ مـنـهـمـا في الـمـراجـع الّـتي لـديّ عـن عـلـمـاء الآشـوريـات.
ونـلاحـظ في حـوش الـمـتـحـف، عـلى جـانـبي الـمـدخـل تـمـثـالَـيـن ضـخـمـيـن كـان قـد عـثـر عـلـيـهـمـا في مـعـبـد الإلـه نـبـو، في مـوقـع نـمـرود، جـنـوب الـمـوصـل. وقـد تـكـلّـفـت بـنـقـلـهـمـا إلى الـمـتـحـف شـركـة الـنّـفـط The Iraq Petruleum Company.
ونـرى في الـصّـورة الـثّـانـيـة الـمـلـك فـيـصـل الأوّل يـنـظـر إلى الـلـوحـة الـبـرونـزيـة وتـمـثـال الـمـس بـيـل الـنّـصـفي بـعـد إزاحـة الـسّـتـارة. ووقـف خـلـفـه وزيـر الـمـعـارف وبـيـده مـا يـبـدو أنّـه ورقـة بـيـضـاء. فـهـل كـان يـلـقي كـلـمـة بـهـذه الـمـنـاسـبـة ؟ أمّـا الـمـنـدوب الـسّـامي الـبـريـطـاني فـلـم يـتـقـدّم نـحـو الـلـوحـة، بـل كـان يـنـظـر إلـيـهـا مـن بـعـيـد مـاسـكـاً قـبـعـتـه بـيـده.
أمّـا في الـصّـورة الـثّـالـثـة، فـنـرى الـمـلـك والـمـنـدوب الـسّـامي يـتـحـادثـان بـيـنـمـا بـقي وزيـر الـمـعـارف وحـده في مـكـانـه، وبـقي الـحـاضـرون واقـفـيـن في أمـاكـنـهـم.
لـوحـة وتـمـثـال مـن الـبـرونـز :
وإذا اقـتـربـنـا مـن الـنّـصـب الّـذي صـنـع مـن الـبـرونـز نـجـد أنّـه لـوحـة مـسـتـطـيـلـة، تـقـارب مـقـايـيـسـهـا مـتـراً عـلى مـتـر ونـصـف، ثـبّـت في أعـلى وسـطـهـا مـحـمـل مـن الـبـرونـز عـلـيـه تـمـثـال نـصـفي لـمـس جـرتـرود بـيـل. (2)
والـتّـمـثـال الـبـرونـزي بـالـحـجـم الـطّـبـيـعي، لا نـعـرف اسـم نـحّـاتـه مـعـرفـة أكـيـدة. ونـعـرف مـن الّـنّـصّ الـمـنـقـوش عـلى الـلـوحـة الـبـرونـزيـة أنّ أصـدقـاء الـمـس بـيـل هـم الّـذيـن أقـامـوه “بـإذن مـن الـمـلـك والـحـكـومـة”. ويـبـدو لـنـا مـنـطـقـيـاً أنّـهـم اخـتـاروا نـحّـاتـاً بـريـطـانـيـاً لـتـنـفّـيـذه.
ولـكـن يـذكـر الـبـعـض أنّ الـمـلـك فـيـصـل هـو الّـذي طـلـب نـحـتـه، وأنّـه كـلّـف بـهـذه الـمـهـمـة الـنّـحّـات الإيـطـالي بـيـتـرو كـانـونـيـكـاPietro CANONICA الّـذي نـفّـذ بـعـد ذلـك، في عـام 1933 تـمـثـالاً مـن الـصّـخـر لـلـمـلـك فـيـصـل بـالـمـلابـس الـعـربـيـة مـمـتـطـيـاً صـهـوة حـصـانـه، وتـمـثـالاً بـرونـزيـاً لـمـحـسـن الـسّــعـدون. وهـذا يـنـاقـض مـا جـاء في نـصّ الـلـوحـة الّـتي تـصـاحـب الـتّـمـثـال، كـمـا سـبـق أن رأيـنـا.
وأسـلـوب الـتّـمـثـال كـلاسـيـكي تـقـلـيـدي، يـشـبـه تـمـامـاً آلاف الـتّـمـاثـيـل الّـتي نـحـتـت في تـلـك الـسّـنـوات، والّـتي أُريـد بـهـا تـخـلـيـد “أبـطـال” الإمـبـراطـوريـة الـبـريـطـانـيـة الّـذيـن انـبـثّـوا في كـلّ أرجـاء الـعـالـم لـتـعـزيـز هـيـمـنـتـهـا وهـيـبـتـهـا.
وكـان هـذا الـنّـوع مـن الـتّـمـاثـيـل يـصـنـع حـسـب “مـوديـلات” شـبـه جـاهـزة، يـكـفي أن تـضـاف إلـيـهـا بـعـض تـفـاصـيـل شـكـل وجـه الـشّـخـصـيـة الّـتي يـراد تـصـويـرهـا لـيـتـمّ تـنـفـيـذهـا بـسـرعـة وبـدقّـة.
ونـلاحـظ أنّ الـتّـمـثـال صـوّر الـمـس بـيـل في آخـر فـتـرات حـيـاتـهـا : إمـرأة نـاضـجـة بـعـد أن مـضـت مـرحـلـة شـبـابـهـا :
وعـلى الـلـوحـة، كـمـا سـبـق أن ذكـرنـا، نـصّ بـالـلـغـة الإنـكـلـيـزيـة في نـصـفـهـا الأيـسـر، وتـرجـمـتـه إلى الـلـغـة الـعـربـيـة في الـنّـصـف الأيـمـن.
ونـقـرأ في الـنّـصّ الإنـكـلـيـزي عـلى الـيـسـار مـا يـلي :
Gertrude Bell. Whose memory the Arabs will ever hold in reverence and affection created this museum in 1923. Being the Honorary Director of Antiquities for the Iraq, with wonderful knowledge and devotion she assembled the most precious objects in it and through the heat of the summer worked on them until the day of her death on 12th July 1926. King Faisal and the Government of Iraq in gratitude for her great deeds in this country have ordered that the principal wing shall bear her name and with their permission her friends have erected this tablet.
ونـقـرأ تـرجـمـتـه (الـتّـقـريـبـيـة) إلى الـعـربـيـة عـلى الـيـمـيـن :
“كـرتـرود بـيـل الـتي لـذكـرهـا عـنـد الـعـرب كـل إجـلال وعـطـف أسـسـت هـذا الـمـتـحـف سـنـة 1923 بـصـفـتـهـا الـمـديـرة الـفـخـريـة لـلـعـاديـات في الـعـراق وجـمـعـت الأشـيـاء الـثـمـيـنـة الـتي يـحـتـويـهـا بـإخـلاص وعـلـم دقـيـق واشـتـغـلـت بـهـا مـدى حـر الـصـيـف إلى يـوم وفـاتـهـا في 12 تـمـوز سـنـة 1926
الـمـلـك فـيـصـل وحـكـومـة الـعـراق قـد أمـرا لـهـا شـكـراً عـلى أعـمـالـهـا الـكـبـيـرة في هـذه الـبـلاد بـأن يـكـون الـجـنـاح الـرئـيـسي بـاسـمـهـا وبـإذن مـنـهـمـا
قـد أقـام أصـدقـاؤهـا هـذه الـلـوحـة”.
إخـتـفـاء الـلـوحـة والـتّـمـثـال :
لا نـعـرف إلى أيّـة سـنـة بـالـضّـبـط بـقـيـت الـلـوحـة والـتّـمـثـال في الـمـتـحـف الـعـراقي، وهـل أرسـل إلى مـديـنـة الـنّـجـف بـعـد أن افـتـتـح فـيـهـا “مـتـحـف ثـورة الـعـشـريـن”، ثـمّ اخـتـفى خـلال اضـطـرابـات عـام 1991، كـمـا تـذكـر بـعـض الـمـصـادر. ولـكـن يـبـدو أكـيـداً أنّـه اخـتـفى قـبـل الـغـزو الأمـريـكي لـلـعـراق عـام 2003.
ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
*مـا زالـت نـسـخـة جـبـسـيـة مـن الـتّـمـثـال تـسـتـقـبـل الـدّاخـلـيـن إلى الـمـدرسـة الّـتي ارتـادتـهـا الـمـس بـيـل عـنـدمـا كـانـت تـلـمـيـذة في Queen’s Colleg ، في شـارع Harley Street، في لـنـدن .
كاردينيا