كان ولاء عماد الدين زنكي للسلطان السلجوقيِّ وأمرائه، ولم يكن للخليفة العباسي؛ إنما كان يُدَافِع عن الخليفة العباسي في بغداد لأن مصالح السلطنة كانت متوافقة مع مصالح الخلافة، ولكن عند تَعَارُض مصالح السلطنة مع الخلافة؛ مثل الخلاف الذي حدث سنة (519هـ) بين السلطان محمود والخليفة المسترشد بالله، كان عماد الدين زنكي يقف إلى جوار السلطان دون تردُّد[1]، وهذا في رأيي أمر طبيعي ومُتَوَقَّع، مع أنه قد يُسَبِّب لنا حرجًا في الفهم، عندما نجد أن عماد الدين زنكي يقف بجيشه أحيانًا في وجه الخليفة، لكنْ تعالَوْا نفهم حقيقة الأمر بهدوء، وهذا سيساعد على فهم كثير من الأحداث المستقبليَّة.
حقيقة الخلاف مع الخلافة العباسية:
لقد عاش خلفاء بني العباس منذ فترة طويلة جدًّا تجاوزت المائتي سنة تحت السيطرة العسكرية لغيرهم، فكانت السيطرة تارة للأتراك، ثم أخرى للبويهيين الشيعة، ثم أخيرًا للسلاجقة، وفَقَدت كلمة الخلافة كل معنًى لها، وصار الحكم كله في يَدِ الحاكم العسكري الذي يملك الجيوش والوزارات والأموال والقرارات والاتفاقات الدُّوَلِيَّة، والأمور الداخلية الأمنية وغيرها؛ وفي ظلِّ هذه الأوضاع توارث الخلفاء اللقب والثروات الشخصيَّة فقط، وكان أقصى أحلام كلِّ خليفة أن يُسَيْطِرَ فقط على الأمور في بغداد، ولا أقول العراق! بمعنى أنَّ الخليفة في أفضل أحواله كان كالمحافظ على بغداد، بينما السلطان فكان المهيمن على الحُكم؛ يحكم دولة شاسعة من الصين إلى الشام، وتضمُّ بين طيَّاتها العراق بما فيه بغداد، وكان السلاطين -وخاصة السلاجقة- يُحافظون على بقاء الخليفة كرمز ليجمع الأُمَّة حول معنًى واحدٍ، ويُعِيد إلى أذهانهم دومًا أنهم أُمَّة واحدة، وصار وضع الخليفة في الدولة الإسلامية كوضع الملك أو الملكة الآن في البلاد التي أصبحت تُدَارُ بنظام جمهوري كإنجلترا وإسبانيا وكندا وهولندا؛ فهو مجرَّد رمز يُذَكِّر الناس ببعض المعاني الجميلة، ولكن ليس له دخلٌ في الحكم أو الإدارة أو أيِّ قرار.
ولكن أحيانًا كان الخليفة -كما في حالة المسترشد بالله في قصَّتنا- يجد في نفسه قوَّة، وتُرَاوِدُه الطموحات الكبيرة في أن يُعِيَد للقب «الخليفة» هيبته الحقيقية، فيُكَوِّن جيشًا من أهل بغداد وما حولها، ويبدأ بمهاجمة السلطان، ومحاولة فرض الرأي عليه، ولكن هذا في الحقيقة وضع مقلوب، فبعيدًا عن الألقاب فإنَّ تَشَتُّتَ السلطة بين خليفة وسلطان يُضعف الولاء عند الجميع، ويُدْخِل البلاد في حالة من الاضطراب غير المقبول؛ ولذلك كان عماد الدين زنكي يقف بصرامة مع السلطان القويِّ في مواجهة الخليفة الضعيف، مع أنَّ قوَّة الخليفة كانت أحيانًا تقوى محلِّيًّا حتى تتغلَّب على جيوش السلطان المحلِّيَّة في بغداد أو ما حولها، لكنها تبقى في النهاية محلِّيَّةً.
ثم إنَّ عماد الدين زنكي بدأ في الظهور أكثر وأكثر؛ نتيجة النجاحات المتتالية التي يُحَقِّقُها؛ ممَّا جعل السلطان محمود سلطان السلاجقة العظام في فارس يستدعيه إلى أصفهان، ويُقَرِّبه منه، ويُولِيه ثقته، ويزوِّجه أرملةَ كندغدي، وهو أحد أكبر أمراء السلطان، ثم ولاَّه على إمارة البصرة في سنة (518هـ)[2]، ثم عيَّنه في سنة (521هـ) في منصب خَطِر، وهو «شِحْنَة العراق» أي مدير أمن العراق بكاملها[3]؛ بل وزاده على ذلك أمرًا عظيمًا، وهو أن جعله إضافة إلى إدارة الأمن في العراق «أتابكًا» لولديه ألب أرسلان، وفروخ شاه؛ والأتابك هو المربِّي، فأصبح عماد الدين زنكي هو الأتابك عماد الدين زنكي[4]، وأصبح مسئولاً عن تنشئة أولاد السلطان تنشئة عسكرية سياسية شرعية متميزة.
طريق طويل من الإعداد:
لقد كان طريقًا طويلاً صعبًا بدأه عماد الدين زنكي في سنٍّ صغيرة مبكِّرة، وعاش حياة جدية تمامًا، ولم يكن يلهو في حياته كما يلهو الأطفال أو الشباب، إنما كان رجلاً بمعنى الكلمة، يعيش هموم أُمَّته، ولا يهتمُّ بسفساف الأمور؛ فأجرى الله على يديه من الخير الكثير، وحقَّق نجاحات عظيمة، وكان كلُّ ذلك تأهيلاً لما هو آتٍ؛ فقد كان على موعد في مستقبله مع مهمَّة أثقل، ووظيفة أصعب، وهي مواجهة الكيان الصليبي الذي استقرَّ في بلاد الإسلام منذ ثلاثين سنة، وباءت محاولات المسلمين في كل السنوات السابقة بالفشل في إخراج الصليبيين من الأراضي التي احتلُّوها، فكانت هذه المهمَّة تحتاج إلى رجلٍ من طراز عماد الدين زنكي!
لقد كان من قدر الله عز وجل أن سخَّر الرسولين اللذين أرسلهما جاولي -المملوك الذي سيطر على الأمور في حلب- ليعرضا على السلطان محمود اسم عماد الدين زنكي ليتولَّى أمور الموصل وحلب، وبالتالي يُواجه الصليبيين بمهارته المعروفة، ووجد الاسم قبولاً عند السلطان محمود دون تردُّد؛ ومن ثَمَّ عهد إلى عماد الدين زنكي في (3 من رمضان 521هـ= 13 من سبتمبر 1127م) بولاية الموصل والجزيرة (شمال العراق) وما يفتحه من بلاد الشام[5]، لتبدأ بذلك مرحلة مهمَّة في التاريخ الإسلامي تُعرف بالدولة الزنكية التي بدأ تأسيسها عماد الدين زنكي في سنة (521هـ)، وتبدأ في الوقت نفسه مرحلة جديدة من مراحل الصراع الإسلامي- الصليبي في قصة الحروب الصليبية.
عماد الدين زنكي أتابك الموصل:
عماد الدين زنكي شخصية فريدة في التاريخ الإسلامي، ورأينا كيف كانت جذوره طيبة، وقد ترك له والده آق سنقر الحاجب كلَّ خير، ورأينا كذلك تدرُّجه في الأعمال والمناصب حتى وصل إلى رئاسة إمارة الموصل، وهو منصب رفيع جدًّا، لكن كم من الأمراء وصلوا إلى هذا المنصب قبل ذلك، ولم يُغَيِّروا أحداث التاريخ! لكن عماد الدين زنكي لم يكن كعامَّة الأمراء؛ بل كان متميزًا متفرِّدًا مؤثِّرًا في كلِّ مَنْ حوله، ناقلاً للأُمَّة الإسلامية بكاملها نقلة نوعية كان لها من الأثر ما تجاوز عشرات السنين!
وما أبلغ ما قاله عماد الدين الأصفهاني وهو يصف عماد الدين زنكي حين قال: «كان قطبًا يدور عليه فلك الإسلام!»[6]. لقد صوَّر العماد الأصفهاني عماد الدين زنكي بأنه أصبح مركزًا لكل عمل مهمٍّ في الأُمَّة الإسلامية، فصار كل شيء إسلامي في زمانه مرتبطًا به، متأثِّرًا بأفعاله! وهي درجة لا يصل إليها إلا أعاظم المسلمين، وأكابر المجدِّدين.
عماد الدين زنكي رجل المرحلة:
إنني أعتبر عماد الدين زنكي بشخصيته المتميزة «رجل المرحلة»! إنه الرجل المناسب الذي توفرت فيه الصفات التي تُؤَهِّله للأخذ بيد الأُمَّة في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الأُمَّة، وهذا من فضل الله عليه وعلى الناس، وهذا من رحمة الله عز وجل بالمسلمين، فهو يرزقهم في كل مرحلة من مراحل حياتهم قائدًا يحمل من الصفات ما يصلح لعبور هذه المرحلة بكل ما فيها من أزمات.
ولقد جمع عماد الدين زنكي من الصفات ما يجعله يصلح أن يكون «نموذجًا» للحاكم المسلم؛ بحيث تصبح أقواله وأفعاله وأخلاقه واختياراته معيارًا تستطيع أن تحكم به على صلاح حاكم أو فساده، وليس هذا مبالغة، بل هو قليل من كثير؛ ولعلَّه من المناسب أن نقترب أكثر من شخصية عماد الدين زنكي فنطَّلع على جوانبها وصفاتها وأهم مميزاتها، وذلك قبل الخوض في تفصيلات قصته في إمارة الموصل، وخطوات تغييره للواقع الأليم الذي كانت تعيشه الأُمَّة، وهذا الاقتراب من شخصيته سيضع أيدينا على المفاتيح المهمَّة التي ينبغي لكل مصلح أن يتحلَّى بها، فما هي هذه الصفات؟ وكيف كانت شخصيته؟ وهذا ما سنتناوله في القادم بإذن الله.
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/138، 139.
[2] ابن الأثير: الباهر ص27.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/241، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/327.
[4] البنداري: تاريخ دولة آل سلجوق ص188، وابن خلكان: وفيات الأعيان 2/328.
[5] عماد الدين الأصفهاني: تاريخ دولة آل سلجوق ص317، وابن الأثير: الباهر ص32-34.
[6] البنداري: تاريخ دولة آل سلجوق ص185.
د. راغب السرجاني