في اليوم الذي عاد فيه آق سنقر إلى الموصل، وهو يوم الجمعة الثامن من ذي القعدة سنة 520هـ الموافق 26 من نوفمبر 1126م، دخل آق سنقر المسجد الجامع لصلاة الجمعة، وكان يُصَلِّي مع العامة وَسْط الناس، وفي الصف الأول، وإذا ببضعة عشر باطنيًّا يهجمون عليه في وقت واحد، وتناوشوه بسكاكينهم وخناجرهم فسقط شهيدًا، في يومٍ كان من المفترض أن يحتفل فيه المسلمون باستعادة حصن رَفَنِيَّة[1]!

إن طريق الجهاد شاقٌّ وطويل، ومشاكله لا تنتهي، وآلامه كثيرة، لكن مع ذلك يبقى الجهاد ذروة سنام الإسلام وأعلى ما فيه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ»[2]. وعلى الأُمَّة التي تبغي عزَّة، وتهفو إلى ريادة وسيادة أن تتعوَّد على مثل هذه الصدمات، ولا تيأس لفقدان رمز من رموز الجهاد؛ لأن الله عز وجل إذا اطَّلع على الصدق في قلوب الناس، والرغبة الحقيقية في الجهاد، رزقها مَنْ يحمل الراية، وكثيرًا ما يكون هذا البديل أعظم ألف مرَّة ممَّنْ فُقِد، وهذا تدبير مَنْ لا يغفل ولا ينام.

ومع ذلك فلا يمنع أن تحدث هزَّة وأزمة مؤقَّتة بعد فقدان رمز مهمٍّ من رموز الجهاد والصلاح، ولقد تزامن مع استشهاد آق سنقر البُرْسُقي عدَّة حوادث جعلت أحوال العالم الإسلامي في اضطراب أكثر وأزمة أكبر.

فمن هذا مثلاً حدوث خلاف عظيم بعد مقتل البُرْسُقي بأقل من شهرين بين الخليفة المسترشد بالله والسلطان محمود، وقد تطوَّر هذا الخلاف حتى وصل إلى صدام بالجيوش، وكادت مقتلة عظيمة بين الطرفين تحدث لولا أن الله عز وجل سلَّم، وقُمعت الفتنة، واعتذر الخليفة المسترشد إلى السلطان القويِّ محمود، واستقرَّت الأوضاع نسبيًّا[3].

الفَجْرُ يأتي من جديد:
ومن هذه الحوادث -أيضًا- وصول بوهيموند الثاني ابن بوهيموند الأول، بعد أن بلغ سنَّ الرشد، وكان وصوله في (شوال 521هـ= أكتوبر 1127م)[4]، ولم يكن يَقِلُّ شراسة عن أبيه، حتى وصفه المؤرخ أسامة بن منقذ بأنه كان بليَّة على المسلمين[5].

وبهذا استقرَّت أوضاع الصليبيين إلى حدٍّ كبير؛ فبلدوين الثاني على رأس مملكة بيت المقدس، وجوسلين دي كورتناي على رأس الرها، وبونز على رأس طَرَابُلُس، وبوهيموند الثاني على رأس أنطاكية.

وقد سعى بلدوين الثاني إلى تقوية الأواصر بينه وبين مملكة أنطاكية، فاستقبل بوهيموند الثاني استقبالاً حافلاً، بل وعرض عليه الزواج من ابنته الثانية أليس، فقَبِل بوهيموند الثاني؛ وبذلك صارت الرابطة بين مملكة بيت المقدس وأنطاكية قوية ومتصلة[6].

ومن الحوادث العجيبة -أيضًا- التي أدَّت إلى اضطراب في صفوف المسلمين، أن السلطان محمود استخلف على الموصل وحلب بعد استشهاد آق سنقر البُرْسُقيّ ابنه عز الدين مسعود بن آق سنقر، وكان رجلاً شهمًا شجاعًا ورعًا كأبيه، وكان عازمًا على استكمال مسيرة الجهاد، وقد حاول أن يضمَّ إحدى القلاع المجاورة لحلب، غير أنه مات فجأة في أثناء الحصار دون أن يتعرَّض له أحدٌ بشيء، وكان في عنفوان شبابه، وأحدث موته اضطرابًا كبيرًا؛ إذ قام أحد المماليك واسمه جاولي بمحاولة تنصيب أخي عز الدين مسعود، وكان طفلاً صغيرًا؛ من أجل أن يتولَّى هو الوصاية عليه، وأرسل رسولين بذلك إلى السلطان محمود، وانخلعت قلوب العامَّة خوفًا من أن يقبل السلطان بهذا الوضع، مما سيضع البلد على حافَّة هاوية؛ فالأمر خطير، والصليبيون يطرقون الأبواب بشدَّة، ويحتلُّون بلادًا واسعة، ويحتاج المسلمون إلى شخصيَّة مجاهدة صابرة قوية لا إلى طفل صغير يتحكَّم فيه ملك صاحب مطامع!

أرسل جاولي -كما ذكرنا- رسولين إلى السلطان محمود، وكان الرسولان هما القاضي بهاء الدين الشَّهْرُزُوري[7] قاضي حلب، وصلاح الدين محمد[8] حاجب عز الدين مسعود البُرْسُقي، وكان جاولي قد وعدهما بالولاية والتقديم إذا أفلحا في إقناع السلطان محمود بما يُريد[9].

ومع أن الرسولين قد وُعِدَا بمال ومنصب فإن الله عز وجل لطيفٌ بعباده، فقد اختار جاولي رسولين صالحين في قلوبهما رأفة على الأُمَّة، ونُصْحٌ لله ولرسوله وللمؤمنين؛ لهذا فقد قرَّر هذان الرسولان أن ينصحا السلطان بما يمليه عليهما الشرع والدين، لا بما يرغب فيه جاولي أو غيره، مُضَحِّين بذلك بدنيا قد وُعدا بها.

التقى الرسولان بشرف الدين أنوشروان بن خالد وزير السلطان محمود، وقالا له في أمانة بالغة: «قد علمتَ أنت والسلطان أن ديار الجزيرة والشام قد تمَكَّنَ الفرنج منها وقويت شوكتهم بها، فاستولوا على أكثرها، وقد أصبحت ولايتهم من حدود مَارِدِين إلى عريش مصر، وقد كان البُرْسُقي (آق سنقر) مع شجاعته وتجربته وانقياد العساكر إليه يكفُّ بعض عاديتهم وشرِّهم، ومنذ قُتِل ازداد طمعهم، وهذا ولده طفل صغير، ولا بُدَّ للبلاد من رجل شهم شجاع، ذي رأي وتجربة يذبُّ عنها ويحفظها، ويحمي حوزتها، وقد أنهينا الحال لئلا يجري خلل أو وهن على الإسلام والمسلمين، فيختصُّ اللوم بنا، ويُقال: ألا أنهيتم إلينا جليَّة الحال؟»[10].

رفع الوزير شرف الدين هذا الكلام المهمَّ إلى السلطان محمود فاستحسنه جدًّا، واستدعاهما وشكرهما، ثم سألهما عمَّنْ يُرَشِّحان لمثل هذا المنصب الخَطِر، فعرضا عليه بعض الأسماء؛ غير أنهما حسَّنا له اسمًا بعينه ورغَّباه فيه، فقَبِل السلطان محمود ترشيحهما إذ خبر بنفسه قوَّة الرجل المرشَّح وخبرته وإخلاصه وورعه؛ ومن ثَمَّ صار هذا الرجل الجديد أميرًا على الموصل وحلب، وهذا المرشح الجديد والزعيم المرتقب هو عماد الدين زنكي[11]، وهو الزعيم الذي يحتاج منَّا إلى وقفات ووقفات، فهو -كما هو معروف- من علامات الجهاد البارزة في تاريخ الأُمَّة.

فما قصة هذا البطل العظيم عماد الدين زنكي؟

وكيف علا نجمه واشتهر أمره؟ وما خطواته في الإصلاح؟

وما طريقته في التجديد والتغيير؟ وكيف كان تفاعل الشعب معه وموقف الأمراء منه؟

وما ردُّ فعل الصليبيين لظهور هذا النجم الجديد؟

هذا كله يحتاج إلى تفصيل ودراسة، وهو موضوع المقالات القادمة، بإذن الله.

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/236، والنويري: نهاية الأرب 27/26.
[2] الترمذي (2616)، وقال: حديث حسن صحيح. عن معاذ بن جبل، والنسائي (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22069).
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/237-239، والتاريخ الباهر ص29، 30.
[4] Foucher de Chartres, pp. 481-483.
[5] أسامة بن منقذ: الاعتبار ص121.
[6] Foucher de Chartres, p. 485.
[7] بهاء الدين الشهرزوري: بهاء الدين أبو الحسن علي بن القاسم الشهرزوري، قاضي الممالك الأتابكية، وكان أعظم الناس منزلة، وصاحب عزيمة ماضية، وهمة نافذة، ويقظة ثاقبة، توفي سنة 532هـ، ودفن في صفين. أبو شامة: عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية 1/126، وابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق 1/418.
[8] صلاح الدين الياغيسياني: صلاح الدين محمد بن أيوب الياغسياني، أمير حاجب، وهو أكبر أمير مع عماد الدين زنكي، وكان ذا مكر وحيل، ولي حماة. ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/85.
[9] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/242.
[10] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/243.
[11] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/243.


د. راغب السرجاني