يأتيك من كلّ حدب وصوب، يقضّ مضجعك ويعكّر صفو مزاجك... إنّه الضغط النفسي أو «السترس»، مرض العصر بامتياز! فلا أحد بمنأىً عنه، صغيراً كان أو كبيراً، مهما حاول. فالحياة قاسية أحياناً وتُرخي بأثقالها وهمومها علينا!
ولا يخلو هذا «المرض» من تبعات نفسيّة وجسديّة، تلازم الإنسان وتكبّل استمتاعه بالحياة بشكل عام. إلاّ أنه بات من الممكن تدارك العواقب واستباق المضاعفات عبر مختلف الوسائل والتقنيات في حياتنا اليوميّة، للتغلّب على الإحباط والكآبة والتعاسة والضغط قدر المستطاع. فكيف لنا أن نُبعد هذا التوتّر عن حياتنا ونلغيه من قاموسنا؟
لكلّ شخص قدرة معيّنة على الاحتمال، وهي تختلف باختلاف العوامل الشخصية والخارجية. ذلك أنه قد يحتمل البعض أكثر من سواهم بفعل طباعهم أو نفسيّتهم وحالتهم الصحية أو وضعهم العام، فيما يثور الآخرون على الفور. إلاّ أنّ التوتّر يصيب الجميع، وإن بدرجات متفاوتة، والأسباب كثيرة.
فمن حالات المرض والألم والمعاناة وفقدان الأحبّاء، إلى النزاعات الشخصيّة والخلافات والطلاق، مروراً بتردّي الأحوال الاقتصادية والمادية، وصولاً إلى مشاكل العمل والدراسة وتعقيد العلاقات الاجتماعية والتغيرات الحياتيّة... كلّها عوامل من شأنها أن تزيد وتيرة الضغط النفسي للإنسان. ناهيك عن المشاكل التي لا تكون في الحسبان، كزحمة السير أو الخسارة في مباراة معيّنة أو تباين وجهات النظر والشجار مع الشريك... وكلّها أمور حياتيّة معيشيّة روتينيّة، لكنها تتفاقم لتخلق «أزمة نفسيّة» من حيث لا ندري.
تشرح الاختصاصيّة في علم النفس زينة نجيم عن التوتر وآثاره السلبية على الإنسان، عارضةً أبرز الحلول للتخلّص من وطأة الضغط النفسيّ المتزايد. كما تكشف المعالجة الفيزيائية والمتخصّصة في علم وخز الإبر سارة أسطا سبُلاً علاجيّة متنوّعة للتخفيف من التشنّج والتوتر. ومن جهته، يوضح المدرّب الرياضيّ إيلي إسطفان أهمية ممارسة الرياضة باختلاف أنواعها للتغلّب على الكآبة والخمول. وتبيّن الرسّامة والفنانة التشكيليّة ريان الحاج أحمد دور الرسم والتلوين في علاج التوتر، وتكشف أهمية اختبار الفنون للتنفيس عن الطاقة المكبوتة وإطلاق العنان للمشاعر. كما وتتطرّق العازفة وأستاذة الغيتار لين صيداوي إلى دور الموسيقى الإيجابيّ والعزف، في تناسي المشاكل والتخفيف من حدّة التوتّر.
توتّر دائم
إنّ التوتر هو حالة نفسيّة شائعة في مجتمعاتنا في عصر السرعة هذا. تقول نجيم «إنّ التوتّر هو مجهود يتكيّف به الجسم مع العوامل الداخلية مثل التعب أو الغضب، أو مع العوامل الخارجيّة مثل التغيّرات الحاصلة من حوله». وتضيف: «يمرّ التوتر بثلات بمراحل، هي التربّص والتأهّب، ثمّ المقاومة فالإرهاق. خلال مرحلة التربّص والتأهّب يضاعف الجسم من طاقته لمواجهة الاعتداء الخارجي عبر إفراز هورمونات التوتر، وأبرزها الكورتيزون والأدرينالين. وأمّا في مرحلة المقاومة فيستمرّ خلالها الاعتداء الخارجيّ المسبّب للتوتّر. وفي المرحلة الأخيرة، تحصل صعوبة اجتياز الاعتداء الخارجيّ وتظهر العوارض والمشاكل الجسديّة والنفسيّة على الإنسان... وبفعل الضغط النفسيّ المتزايد، تنتاب المرء مشاعر مختلطة كالغضب والسخط والقلق وعدم القدرة على السيطرة على الانفعالات، فتنشأ بعدها مشاكل في محيطه، تنعكس سلباً على حياته الشخصية والعملية والاجتماعية. كما قد يعاني انعكاسات نفسية واضحة مثل الاكتئاب والحزن والانزواء والانعزال وحدّة الطبع والعدائيّة».
وتلفت نجيم الى «أنّ التعرّض المستمرّ لعوامل التوتر، مهما كان سببها، من شأنه أن يتسبّب بانعكاسات صحيّة سلبيّة، من أبرزها الآلام الجسدية، الأرق ومشاكل في النوم، الاضطرابات الهضميّة، الصداع، النقص في المناعة، المشاكل الجلديّة مثل الأكزيما، البدانة المفرطة، الاكتئاب، ارتفاع ضغط الدم، وزيادة احتمال الإصابة بجلطة دماغيّة أو ذبحة قلبيّة».
كما وتبرز مؤشّرات عدة على كل المستويات، تكون بمثابة دلالة إلى التعرّض المستمرّ للتوتر والضغوطات... تستدرك نجيم قائلةً: «يمكن ملاحظة مشاكل في الذاكرة وعدم قدرة على التركيز وقلق مستمرّ وأفكار مضطربة وتشاؤم وتقلّبات في المزاج وغضب وعدم قدرة على الاسترخاء وشعور بالوحدة وحزن واكتئاب وأرق ومشاكل في الأكل مثل الشراهة أو فقدان الشهية، وإهمال الواجبات وحتى إدمان العقاقير والأدوية والدخان في سبيل الاسترخاء».
وأمّا من الناحية الجسديّة، فيمكن ملاحظة بعض الأوجاع أو حالات إسهال أو إكتام، إضافة إلى غثيان ودوخة وصداع وتشنّج في الرقبة والكتفين وألم في الظهر أو الصدر ودقّات قلب سريعة وتعرّق. هذا، ويضعف التعرّض الدائم لحالات التوتر المناعة، ما يسبّب حالات إعياء وأمراضاً كثيرة.
حلول متخصّصة
تؤكّد نجيم أنّ «على المرء أن يتحكّم بحياته وانفعالاته وأفكاره ومواعيده ومحيطه وكيفيّة تعاطيه مع المشاكل ومع المجتمع. وترتكز فكرة التأقلم والمواجهة هذه على الحدّ قدر المستطاع من العوامل السلبيّة التي تؤدّي إلى الانفعال والتوتر، وعلى مواجهة الصعاب والسيطرة على الانفعالات وردود الفعل، وعلى تخصيص وقت للراحة والاستجمام والاسترخاء، وعلى إيجاد متنفّس للتعبير عن التعب والغضب، مثل الرياضة البدنيّة والحركة وتمارين التليين واليوغا».
وتتابع: «صحيح أنه لا يمكن إلغاء العوامل التي تسبّب التوتر من الحياة، لكن يمكن تعلّم السيطرة عليها للحدّ من مفاعيلها. ويبقى لكلّ شخصه متنفّسه الخاص، والوسيلة الفضلى التي تخلّصه من الضغط النفسيّ. إذ يفضّل البعض اللجوء إلى جلسات التأمّل Meditation واليوغا وتمارين التنفّس العميق، وحلقات الاسترخاء Relaxation Session، فيما يختار آخرون الطبيعة كمصدر أساسيّ للعلاج، فيلجأون إلى البحر أو الجبل بحثاً عن الهدوء والسكينة والتأمّل...».
من جهتها، تنوّه أسطا بأهمّية «الوخز بالإبر Acupuncture الذي يحفّز الطاقة في الجسم، لتخليصه من الضغط النفسيّ وإعادة التوازن إليه، وذلك من خلال تحريك الطاقة عبر نقاط معيّنة Meridians للحصول على الاسترخاء التام». وتشير إلى «أنّ هذه التقنية المعتمدة منذ سنوات طويلة، تلاقي إقبالاً منقطع النظير في أيامنا هذه لأنها تساعد الإنسان على الشعور بالصفاء والراحة عبر تقليص مستويات التوتر وتخفيف وطأة الضغط لاستعادة طاقة الجسم كما كانت عليه سابقاً».
وتضيف أسطا: «بالإضافة إلى الوخز بالإبر، في الإمكان دوماً اللجوء إلى جلسات التدليك المهمّة لتفريغ الطاقة السلبية. إذ يعمل المعالج الفيزيائي على مختلف نقاط الجسم من الرأس حتى أخمص القدمين لإزالة السموم والضغط الكامن في الجسم، ما يصفّي الذهن ويُريح الجسم من التشنّج في آنٍ معاً».
الرياضة ضروريّة
«العقل السليم في الجسم السّليم» انطلاقاً من هذه المقولة، لا بدّ من التنويه بأهمية الرياضة في محاربة مختلف الضغوط النفسيّة وانعكاساتها .
يشرح المدرّب إسطفان: «عند التوتّر، تتشنّج سائر العضلات في الجسم، وبخاصة تلك التي في الوجه والرقبة والكتفين، ما يسبّب آلاماً مبرحة في مختلف أنحاء الجسم. فلا بدّ من ممارسة التمارين الرياضية المتعدّدة للحؤول دون الانجرار إلى حلقة التوتر المفرغة التي تؤثر في الحالتين العقلية والصحية معاً. بغية كسر هذه الحلقة، يجب التوجّه إلى الرياضة بشكل عام، لأنها تساعد على إراحة العضلات وتخفيف التوتر، كما تساهم في إفراز الإندورفين في الدماغ، ما ينعكس إيجاباً على الإنسان».
ويتابع: «على الجميع أن يتوجّهوا إلى الرياضات التي يحبّون، مهما تنوّعت أعمارهم وحالاتهم الجسديّة، إذ يمكن اختيار رياضة معيّنة تلائم وضعهم ورغباتهم لتحسين مزاجهم أولاً والمحافظة على صحّتهم في الوقت عينه. كلّ الرياضات مفيدة وآمنة، عندما نمارسها تحت إشراف مدرّب متخصّص ونتّبع إرشاداته»... موضحاً: «يكمن السرّ في اختيار نوع رياضة نحبّه، وألا نعتبره واجباً علينا. بعدها، يجب العمل على ممارسة هذه الرياضة ببطء ورويّة، لنتمّكن من زيادة قدرة التحمّل وساعات التدريب رويداً رويداً. وهذا الأمر يخلق نوعاً من التوازن الجسديّ والنفسيّ، بحيث نبدأ بتناسي مشاكلنا والتركيز على الرياضة، كما نتعلّم الصبّر والتركيز والاحتمال، ونتعلّق بالرياضة لتصبح روتيناً وتسمح لنا بالتنفيس عن الطاقة الداخليّة. مختلف الرياضات مفيدة بالطبع، وإنما يبقى الركض والسباحة والرقص والفنون القتاليّة على أنواعها Mixed Martial Arts والرياضات الجماعيّة مثل كرة السلة أو كرة القدم وسواها، من أبرزها للتخفيف من حدّة التوتّر، بالإضافة طبعاً إلى رياضة كمال الأجسام Body Building الرائدة في هذا المجال».
فنون علاجيّة
بما أنّ الإنسان روح وجسد، فلا بدّ أيضاً من تغذية الروح وتثقيفها وتخليصها من الجهد المتواصل. وتبقى الموسيقى اللغة العالميّة للسلام وما يرافقها من فنون كالغناء والرقص. كما يساعد الرسم بمختلف أشكاله على التعبير والتواصل مع الآخر للوصول إلى المصالحة مع الذات.
ترى ريان الحاج أحمد أنّ «الفنّ، بمختلف أنواعه يساعد المرء على تناسي الواقع الأليم الذي يمرّ به. فلا بدّ من اختيار وسيلة من وسائل التعبير، لتأخذنا إلى عالمها الخاص. فمن خلال الرسم، تلعب الألوان والخطوط دوراً إيجابياً من ناحية الانعزال عن المشاكل الخارجيّة والتركيز على تنفيس الغضب والكبت والألم من خلال استخدام ألوان معيّنة ورسومات خاصة».
وتقول: «عندما نراقب شخصاً في طور الرسم في جلسات العلاج، نلاحظ استعمال ألوان معيّنة كالأحمر والأسود للتعبير عن الغضب والحقد والألم. كما نلحظ أيضاً طريقة إمساك الريشة أو القلم والخطوط القويّة... وأمّا بعد تطوّر مرحلة العلاج الذاتي، فنلاحظ اعتماد الألوان الزاهية والفاتحة، وتغيّر الخطوط وطريقة الرسم للتخفيف من العدائيّة والقلق».
وتضيف: «بالإمكان التعبير عن مشاعر وأحاسيس دفينة لإعطاء الانطباع عن شخصيّتنا والتعبير عمّا في داخلنا، من دون أن نخطّط للأمر بوضوح. فما نفعله أثناء جلسة التلوين أو حتى الرسم، هو محاولة إلغاء الأفكار السلبيّة عبر التركيز على طريقة التلوين وماهيّة الرّسمة، وذلك لتغيير مجرى التركيز عمّا يوتّرنا».
يملك الجميع موهبة فنّية، ومهما اختلفت تسميتها، يبقى المهمّ تنميتها واللجوء إليها لتفريغ الطاقة السلبيّة وتحويلها إلى سبب سعادة وانغماس ذاتي.
من جهة أخرى، تؤكّد صيداوي أنّ «الموسيقى بشكل عام هي ملاذ الإنسان في ساعات الضيق، لما تؤثر في الدماغ وتخفّف من حدّة التوتر. فعندما ينغمس المرء في الموسيقى، استماعاً أو عزفاً أو غناءً وحتى رقصاً، فهو بذلك يشغّل مختلف حواسه وعقله وجسمه لتناسي ما حوله».
وتتابع «إنّ الاستماع إلى المقطوعات الموسيقيّة علاج بحدّ ذاته، خصوصاً السيمفونيّات الكلاسيكيّة، التي تعتمد على اللحن والتوزيع من دون الكلام، لأنها عنصر فعّال في إزالة القلق والغضب. وكلّما تنوّعت الآلات الموسيقيّة، استفاد الإنسان أكثر بعيداً عن الروتين، فالتنويع في التوزيع وصوت الآلة أمران جوهريّان. لكن لا بدّ من حُسن اختيار المقطوعة الموسيقيّة الكفيلة بنقلنا إلى عالم متوازٍ. إذ أحياناً، تكون النتيجة سلبيّة تماماً».
كتابة : دينا الأشقر شيبان