د.ميسون البياتي*


أشهر نموذج في الأدب عن شخصية رجل القانون الذي يتحول الى مجرم .. هي شخصية راسكولينيكوف التي إبتدعها لنا الروائي العظيم دوستويفسكي في روايته الرائعة ( الجريمة والعقاب ) , التي تسنت لي دراستها عن كثب على يد أستاذتي الراحلة الدكتورة حياة شرارة , حين كنت طالبة جامعية , وللدكتورة حياة دراسة قيمة عن هذه الشخصية منشورة في مجلة ( العربي ) صدرت في الكويت عام 1973 .
رجل القانون الذي درس الخير والشر , الحق والباطل , النظام والفوضى , العدالة والظلم , هل هناك مسوغات تعطيه الحق ( مهما كانت موضوعية ) لأن يخرق القانون ؟ وهو الذي درس فقه القانون وفلسفته وتاريخه ؟

نعم .. نعترف أن رجل القانون إنسان .. قد يصيب ويخطيء مثله مثل كل البشر , لكن ذلك يقع في حالات نادرة , ولكن أن يكون خطأه عن سبق إصرار وترصد , وإمعان في الخطأ بدم بارد .. فتلك والله خطيئة وليست خطأ . لكننا في مجتمعاتنا الإنسانية التي صار فيها كل شيء ليس أكثر من ( سلعة ) تخضع لقوانين العرض والطلب , لم نعد نستغرب شيئا . فمنذ أن صارت الثقافة بالنسبة للكثيرين , ليس ممارسة حياتية راقية معناها أكبر من مبناها وإنما ( بسطة ) يصفون عليها ( سلال ) مفاهيمهم ومصطلحاتهم وأيديولوجياتهم كما يصف أي بائع خضراوات ( سلال ) الجزر واللفت والبنجر والفجل على بسطته في سوق الخضرة معتبرين الثقافة ( مصلحة ) يتنفعون منها , فما عاد هناك شيء مستغرب من هذه الحياة . لكن كل هذا لايبيح لرجل القانون التخلي عن مبادئه والعمل بنظام ( سعر السوق ) ببساطة شديدة لأن في ضياع القانون ضياع لكل شيء , ومتى يأس الإنسان من العدالة , فإن الوحش الإنساني المارد المحبوس في قمقم الضمير إذا أفلت فلن يتوانى عن تدمير أي شيء وكل شيء , وهاكم هذه صفحة من صفحات الثورة الفرنسية . يمكن لدارس عابر أن يقول إن الثورة الفرنسية إندلعت بسبب أزمة خبز أو ثورة جوع , لكن المتبحر في معانيها , يجدها أزمة يأس من العدالة , تفجرت على شكل جموع هادرة من البشر دمرت في طريقها كل شيء وتدمرت هي أيضا .
عرضي لهذه الصفحة من صفحات الثورة الفرنسية مستقى من آخر كتاب صدر عن حياة روبسبير وعنوانه ( الطهرالقاتل ) , مؤلفة الكتاب هي روث سكور . صباح أحد ايام الصيف توقف آلاف من الناس في الشوارع لرؤية ماكسميليان روبسبير يساق الى حتفه . عربة خشبية نقلت الرجل المكسر بين الجموع بإتجاه منصة عالية منصوبة عليها شفرة غلوتين كان يستعملها روبسبير لإعدام الناس , والآن جاء دوره ليعدم عليها .


كان يرتدي معطفا أزرقا سماويا وجواريب من الحرير , وكانا الزي الرسمي في ذلك الوقت , لكن معطفه كان ملطخا بالدماء ووجهه ملفوفا بضمادات قذرة , ففي الليلة السابقة وأثناء إعتقاله كان قد أصيب في فكه بطلق ناري , وربما هو من حاول أن ينتحر ولم يفلح . هذه الطلقة شوهت وجهه تماما . لكن الجموع في الشوارع تعرف من هو , ومن كل الإتجاهات علت الهتافات ضده . لكنه لم يبد أي عاطفة في حين كانت الناس تتقاتل من أجل رؤية إعدامه. بالضمادات كانت تغطي أغلب وجهه والنظرة المبهمة في عينيه . قبل ذلك بخمس سنوات كانت فرنسا على حافة الثورة حين قدم روبسبير الى باريس كمحامي شاب يرغب بتغيير العالم , كان يؤمن بحرية جميع البشر , وأن الفقراء يجب أن يمنحوا نفس حقوق الأغنياء . وسرعان ما ترقى بعد هذا الوصول ليصبح أقوى رجل في فرنسا , فقد ساعد على الإطاحة بالملك عن عرشه وإقامة حكومة جديدة وحاز على إحترام المواطنين العاديين في كل أرجاء فرنسا . بعدها بدأ بقتل الناس , فقد تخيل روبسبير الأعداء في كل مكان وسعى الى حماية الثورة الفرنسية منهم , فأصدر الأحكام بإعدام الآلاف , كانوا يرسلون الى شفرة الغلوتين وسط هتاف الجمهور . صباح صيف سنة 1794 كان الناس يطالبون برأسه هو أيضا , ليقطع بالشفرة الثقيلة التي يحملها عمودان , ولا أحد يدري بم كان يفكر لحظة تنفيذ الإعدام , لكن الناس في باريس كانت متعجبة من هذا الرجل الذي هوى بنفس السرعة التي حلق بها , ومتعجبة أكثر لكيفية تحول القانوني الفرنسي المحبوب الى مجرم بإسم العدالة . ولد ماكسميليان روبسبير في حقول تبعد عن باريس شمالا بحوالي 100 ميل في بلدة صغيرة تدعى ( أراس ) يوم 6 مايس 1758 . أراس كانت تعرف بأنها ( مدينة المائة قبة ) ففي كل مكان يرى الزائر برج كنيسة أو كاتدرائية أو دير , وأهل أراس يعدون أنفسهم متدينين , ومعتادون على النظر الى أهل باريس على أنهم مجموعة من الخطاة . والد ماكسميليان هو ( فرانسوا دي روبسبير) كان يعمل محاميا ويعيش حياة مريحة , ولم يكن غنيا , لكن الناس تنظر له ولعائلته بإحترام .
أما والدته فقد كانت من طبقة مختلفة , فعائلة ( جاكلين كارالت ) كانت فقيرة وأقل إحتراما فهم يعملون بتخمير البيرة لكي يعيشوا , وكانت عائلة روبسبيرالأب تنظر إليهم بدونية , ولا يظنون أن جاكلين زوجة مناسبة لولدهم . ولكن حين إلتقى فرنسوا وجاكلين في إحدى الحانات , فإنها سرعان ما أصبحت حاملا , وكان خبر حملها فضيحة , لأنها وفرانسوا لم يكونا متزوجين , وبعد كل شيء فرانسوا كان يعد نفسه ليصبح قسا . رغم ذلك فإن عائلة فرانسوا أصرت على زواجهما , لم تكن جاكلين زوجة مناسبة لولدهم , ولكن العار من إنجاب ولد نغل , كان سيجلب الأسوأ لسمعة العائلة المتدينة . حين عقد الزواج كانت جاكلين حاملا في شهرها الخامس , والكثير من المدعوين رفضوا الذهاب الى حفل الزواج , وعائلة فرانسوا لم تتقبل جاكلين أبدا , فهم يعتبرونها إنسانة بلا قيمة . لم تكن المعاملة التي تلقتها جاكلين من عائلة زوجها معاملة غير معتادة , ففرنسا في ذلك الوقت كانت مقسمة الى طبقات . الأشخاص الذين يولدون في الطبقات العليا لهم الحقوق والإمتيازات , أما الأشخاص الذين يولدون في طبقات دنيا فيحرمون من كل شيء .
المجتمع الفرنسي يضم ثلاث طبقات , وكل فرنسي يعلم بالضبط الى أي طبقة ينتمي والى أي طبقة ينتمي جاره . الطبقة الأعلى هي طبقة رجال الدين الذين يعملون في الكنيسة الفرنسية الكاثوليكية وكان لهم نفوذ كبير وأموال , قساوسة المدن الصغيرة ربما يعيشون في فاقة , لكن كبار رجال الدين كانوا يمتلكون الثروات التي جمعوها من المؤمنين , وكانوا يتقاضون أجورا حتى عن الصلاة من أجل الناس , كما أنهم لا يدفعون الضرائب . الطبقة الثانية هم النبلاء الذين يستحوذون على أعلى المناصب في الحكومة والجيش ويملكون معظم أراضي فرنسا , ولا يدفعون الضرائب , ويتقاضون إيجارات عالية من الفلاحين مقابل سكنهم وزراعتهم في أرض النبلاء . كان عدد جميع رجال الدين والنبلاء الفرنسيين لا يتجاوز نصف مليون شخص في بلد تعداده 25 مليون نسمة أي أن نسبتهم هي 2 % من السكان , بينما 98% من السكان يشكلون أفراد الطبقة الثالثة أو قاع السلم في هذا التقسيم , رغم أن بعضهم كان إختصاصيا ويعمل كطبيب أو محامي أو حرفي أو تاجر أو مزارع أو عامل . بعض أفراد الطبقة الثالثة كانوا يملكون الأموال الطائلة لكنهم لا يملكون الحقوق , وهم يدفعون الضرائب , لكنهم لا يحصلون على الوظائف المهمة في الحكومة أو الجيش , أما اذا إتهموا بجريمة فهناك فرصة ضعيفة لمحاكمتهم بعدالة . يتم إعتقال أفراد الطبقة الثالثة على أتفه سبب , كان بإستطاعة النبلاء الكتابة ضد أي شخص ليؤخذ الى المعتقل , كما يعتقل الذين عليهم ديون , أو الذين يسكرون في العلن . وقد يقضي الواحد من هؤلاء سنين في الداخل من دون إتهام بجريمة .
السجن في فرنسا ذلك الوقت كان مكانا خطرا على أبناء الطبقة الثالثة , ففي مثل سجن الباستيل في باريس الذي يبلغ إرتفاع سياجه 80 قدما , كان التعذيب شائعا والطعام قليلا ولا توجد أي عناية طبية , والذي يدخله نادرا ما يخرج . فوق هذه الطبقات جميعا , يقف شخص واحد هو ملك فرنسا , يعيش برفاهية في قصر ضخم يدعى ( قصر فرساي ) الذي كان الناس خارجه يناضلون الحياة بأوضاع مهينة , وعليهم أن يدفعوا الضرائب لتغطية نفقات كل شيء إبتداءا من الحروب الخارجية وصولا الى حفلات الملك . وأسعار الغذاء كانت عالية جدا الى الحد الذي جعل بعضهم غير قادرين على تأمين الغذاء لأنفسهم , وصار الجوع هو السبب الرئيسي لموت السكان . في الفترة التي ولد فيها روبسبير , كانت حالة اللامساواة أسوأ مايمكن , فرض الملك المزيد من الضرائب لتمويل حربه مع النمسا عام 1740 , ودفعت الطبقة الثالثة أيضا لتمويل حرب السبع سنوات التي عمت أوربا بين عامي 1756 _ 1763 , لذلك لم يكن أمامها غير القتال من أجل تغيير الأوضاع . في أراس كان والد روبسبير قد حاز سمعة طيبة كمحامي . لكنه كان متهورا وغالبا ما يبدأ الجدال مع أصدقائه . كما يبدو أنه لم يكن مهتما لولادة إبنه ماكسميليان الذي ولد عام 1758 أو شارلوت عام 1760 , أو هنرييت 1761 , أو أوغستين عام 1763 . كانت الأم تربي أطفالها دون أي رعاية تذكر من قبل الزوج , وكانت كارثة قد وقعت داخل العائلة حين ماتت الأم أثناء ولادة طفلها الأخير في تموز 1764 , كان عمرها حين ماتت 29 سنة فقط , أما إبنها البكر ماكسميليان فقد كان في السادسة من عمره .

أصيب الأب بكآبة حادة , فصار يشرب ويتداين وتوقف عن مزاولة المحاماة , صار يختفي أسابيع دون أن يعلم عنه أحد شيئا , ثم إختفى نهائيا عام 1722 ولم يره أحد بعدها أبدا . وبقي الأطفال تحت رعاية جدهم وجدتهم وعماتهم . صدم ماكسميليان بشدة لموت أمه , وكان حين يتحدث عنها فغالبا ما تترقرق الدموع في عينيه , وطبقا لما تقول أخته شارلوت فإن فقدان الأم قد غيره تماما كتبت (( سابقا كان مثل جميع الأولاد : مبعثر لأشيائه , شرس وبلا إهتمام , لكنه حين لاحظ أنه صار مسؤولا عن العائلة .. فقد صار واعيا وجديا ويشتغل بكد )) . كطفل , كان لروبسبير قلة من الأصدقاء , وكانت صحته غير طيبة على الدوام , والرعاف يزوره كل ليلة ليلطخ مخدته بالدم , كان صغير الحجم ضعيف الصحة , وهدفا سهلا لمضايقة الغير له .




لكنه كان طالبا ممتازا فحصل بذلك على زمالة لدراسة القانون في مدينة باريس , كان عمره 11 سنة فقط وليس من المألوف وصول طالب بهذا العمر الى الجامعة , لكنه وصل . عام 1755 أعلنت الجامعة خبرا , هو أنه قد تم جلوس ملك جديد على عرش فرنسا هو الملك لويس السادس عشر وزوجته الجميلة ماري أنطوانيت , والملك والملكة سيزوران الكلية , ومن بين 500 طالب تم إختيار روبسبير ليلقى كلمة الترحيب بهما .
على بوابة الكلية كان على الجميع إنتظار عربة الملك , وكان المطر غزيرا , روبسبير كان قد إستعار ملابس جديدة لهذه المناسبة , أصبحت منقوعة تماما عندما وصل الملك الذي لم يكن أكبر من روبسبير إلا بعدة سنوات لكنه عامل روبسبير كأنه طفل , وحين ألقى كلمته الترحيبية لم يلتفت الملك حتى الى تحيته أو شكره .
حين عاد الى مدينته أراس كان نحيفا جدا بأكتاف متهدلة وجلد شاحب ونظارات تساعده على الرؤية . لكنه كان يحمل في نفسه هدفا , فقد بدأ يدافع عن الناس الذين لا يملكون ما يدفعونه لمحامي وكان يقول (( واجب حياتي سيكون مساعدة الذين يعانون , وملاحقة الذين يتمتعون بعذابات الغير )) . بعد سنوات صار روبسبير قاضيا , لكنه ومن كل القضايا التي مرت عليه لم يحكم بالإعدام إلا مرة واحدة , وكانت الإعدام شنقا , تقول أخته شارلوت أنه بقي بعدها عدة أيام دون طعام , وكان يلوم نفسه كثيرا , فإذا كانت حكاية شارلوت صادقة , فهذا معناه أن روبسبير قد غير رأيه تماما وكليا بإصدار أحكام الموت خلال العشر سنوات التالية .
طبقا لبعض الروايات فإن روبسبير كان ينام وتحت مخدته كتاب جان جاك روسو ( العقد الإجتماعي) الذي نشره روسو عام 1762 وناقش فيه مسؤولية الحكومات عن العناية بالشعوب . معظم الناس يظنون أن الهدف من وجود حكومة هو لوضع القوانين الصارمة لحفظ النظام بين الناس , لكن روسو يظن أن الحكومة هي عقد بين الشعب وقادته , إذا لم يحكم القادة بطريقة عادلة فإنهم يخرقون هذا العقد عندها يمتلك الشعب حق الإطاحة بالقائد وإسقاط الحكومة . روبسبير ربما إستعمل بعض تعليمات روسو ولكن بطريقة متطرفة تماما .
عندما كان روبسبير يمارس القضاء في مدينته أراس كانت فرنسا تتجزأ من حوله , كان البلد تحت ضائقة مالية شديدة . الفرنسيون ساعدوا الأمريكان أثناء الثورة الأمريكية , وللدفع للأمريكان , فرضوا ضرائب جديدة على أبناء الطبقة الثالثة . وكانت فرنسا وقتها تعاني من إفلاس , لهذا بدأ الفقراء يعانون بشدة .
الشتاء عامي 1788 و 1789 كان باردا بقسوة الى درجة أنهم أطلقوا عليه إسم ( العصر الجليدي الصغير ) . تساقط ثلج ثقيل أقفل كل الطرق , والأنهار تجمدت . وحين حل الدفء أخيرا وذاب الثلج غرقت الحقول , وكان من المستحيل حصاد الغلال لعمل الخبز . صعد سعر الخبز الى أعلى معدلاته خلال 20 سنة , ولم يعد بإمكان الكادح العادي إعالة نفسه وعائلته . الملك لويس السادس عشر لم يكن أعمى عن الأوضاع التي حوله , لذلك إستدعى قادة الطبقات الثلاثة في مملكته ودعاهم لزيارته بين الحين والحين , ربما مداولتهم جميعا معا تعلن عنه سياسات لتذليل المشاكل المهمة . كانت هناك مشكلة واحدة في هذه الإجتماعات وهي أنه لم يتفق على رأي لحل أي من مشكلات فرنسا المستعصية . قادة الطبقات لم يلتقوا سوية منذ 175 سنة , وفي لقائهم مجددا , فإن الملك قابل كل طبقة منهم على حدة , وكل طبقة صوتت على قضية ما على حدة , وقد كانت قرارات رجال الدين والنبلاء متشابهة وتأخذ صوتين مقابل صوت واحد لطبقة عامة الشعب , وهكذا في كل مرة لم يفلح الجميع في حل مشكلة واحدة . لحل مشكلة عدم الإتفاق , طالب عامة الشعب بالإقتراع بعدد مضاعف من الممثلين عنهم , إضافة الى أن الإقتراع يجب أن يكون موحدا وليس لكل فئة على حدة وبذلك يمكن لهم أن ينالوا فرصة عادلة أمام أصوات الطبقتين الأخريين . من مدينته أراس شارك روبسبير في تلك النقاشات بحماس وكتب منشورات تؤكد على أن الفقراء يستحقون أن يكون لهم صوت يمثلهم في الحكومة , وهاجم بصورة واضحة القادة المحليين الذين يرفضون الإنفاق على التعليم أو مساعدة المحتاجين ويرسلون الناس الى السجون بدون تهم محددة وقد عنون واحدا من منشوراته بعنوان (( أعداء الوطن دون قناع )) على كل حال مساعيه هذه عادت بمردود , فقد إنتخبه أبناء بلدته ممثلا عنهم الى مجلس الطبقات , وكانت تلك قفزة عالية جدا بالنسبة لمحامي من مدينة صغيرة . وعندما إستعد للذهاب الى قصر فرساي , كانت الأحداث تنبيء أن بإنتظاره عمل شاق . أسعار الخبز كانت قد تصاعدت في مقاطعات بريتاني وفلاندرز , وقام العمال والكادحون بمهاجمة المخابز , وتسليب عربات حمل الحنطة على الطرقات , وكان في طليعة هذه الجموع المهاجمة نساءا يردن إطعام أطفالهن . في نيسان عام 1789 وصلت الحشود الى باريس , وسرت إشاعات أن صاحب معمل إسمه ( ريفيلون ) يسعى الى تقليل الأجور المدفوعة للعمال , فقام ما لايقل عن 5000 عامل غاضب بالتجمع خارج بيته ملوحين بقبضاتهم , ثم هاجموا بيته وعائلته , عندها وصلت القوات الفرنسية , ووقعت معركة بين الطرفين , حين إنتهت كان على الأرض 800 قتيل .

في يوم الأول من مايس غادر روبسبير أراس وفي ذهنه أن كل شيء في فرنسا سيتغير منذ اليوم . لكنه حين وصل الى قصر فرساي شعر بنفسه وكانه سمكة خارج الماء , القصر شاسع المساحة ويسكنه 5000 شخص , مساحة القصر هي 10% من مساحة باريس الكلية وأكثر فخامة من كل مباني مدينة أراس ذات المائة قبة .
ملوك فرنسا يعيشون في قصر فرساي منذ 100عام , والقصر يضم أنفس التحف في العالم , وغرف عديدة فيه تحوي ثريات ماسية , ولوحات لا تقدر بثمن , وديكورات من جميع أنحاء العالم , وأكثر ما يثير الدهشة هي قاعة المرايا التي علقت فيها 17 مرآة ضخمة وكل مرآة تواجه نافذة وتعكس صورة لمساحات شاسعة من حدائق القصر . حين جلس روبسبير بين ممثلي الطبقة الثالثة , فإن عددا قليلا منهم كانوا قد سمعوا بإسمه , كان رجلا ضئيلا وذا صوت ضعيف , حين وصل الحديث الى نقطة أن الطبقات جميعها يجب أن تصوت على القرارات مجتمعة , رفض رجال الدين والنبلاء ذلك , عندها قام ممثلوا الطبقة الثالثة بإعلان أنهم سيعقدون إجتماعا لإتخاذ قرار مهم .. وكل من يريد الإنضمام إليهم فهو مرحب به . يوم 12 حزيران عام 1789 عقد الإجتماع , إنضم إليه 19 من رجال الدين , ولم يأت ولا نبيل واحد , وخلال أسبوع , كانت الجماعة قد أوصلت الى الملك قرارا خطيرا . فلقد أعطوا أنفسهم الحق بصياغة قانون جديد للدولة , لم يكن لدى الملك ما يقوله عندما تجرأ أبناء الطبقة الثالثة , على تسمية أنفسهم (( الجمعية الوطنية )) . الملك لويس السادس عشر كان شخصية مترددة , طالبته الملكة بإستدعاء الجيش ومشاورة رئيس الوزراء ( جاك نيكر) . عندها قرر الملك أن يجتمع بكل الطبقات للتوصل الى تسوية , فأمر بإغلاق قاعة الإجتماع لجعل الجلسات غير معلنة . لكن نواب الطبقة الثالثة لم يأخذوا علما بذلك , حين وصلوا القاعة ورأوها قد أغلقت , ويحرسها مسلحون فقد توقعوا الأسوأ .. ... وهو أن الملك قد خطط لسحقهم , وأن حياتهم في خطر , ربما يقتلون , أو يلقى بهم في سجن الباستيل . عندها إنسحب ممثلوا الطبقة الثالثة الى ساحة تنس قريبة وقرروا عدم العودة الى القاعة المغلقة , وسيبقون حازمين حتى يوضع دستور مكتوب ينص على إعطاء حقوق متساوية لكل الفرنسيين . ووقع على وثيقة بهذا المعنى 577 عضو وصارت تعرف بإسم (( يمين ساحة التنس )) . الآن صارت الطبقة الثالثة تتحدى الملك علنا , وقد ربحت الرهان عندما صار أعضاء من طبقتي رجال الدين والنبلاء ينضمون إليهم .
أما الحشود الجائعة فقد تشجعت بذلك وصارت تتظاهر في شوارع باريس , فأرسل الملك قواته لوقفهم , لكن الجنود وهم يفقدون ثقتهم بملكهم فإن فرقتين رفضتا تنفيذ الأوامر , في اليوم التالي إنضم 48 نبيلا الى الجمعية الوطنية وتبعهم عدد من رجال الدين .. عندها فقد الملك السيطرة على فرنسا .
بعد أسبوع واحد من ذلك اليمين في ساحة التنس , وقع الملك رسميا على تأسيس الجمعية الوطنية لكن ذلك لم يفعل شيئا لتهدأة الحشود الثائرة في باريس حيث قامت هذه الحشود بمهاجمة الممتلكات العامة في المدينة , أشعلوا البنايات وحطموا الجدران , وهاجموا السايلوات لسرقة الحبوب , إستدعى الملك آلاف الجنود , لكنهم لم يتمكنوا من وقف العنف .




باريس كانت في فوضى والجنود يجوبون الطرقات , والناس تستنكر مطالبة بالخبز , وسرت شائعات أن الملك سيهاجم المتظاهرين . لذلك إستعد المتظاهرون لذلك الهجوم . وقاموا يوم 14 تموز بمهاجمة سجن الباستيل للبحث عن البارود , لكن حراس السجن كانوا في إستقبالهم , نصبوا لهم 12 من المدافع الضخمة وأجروا جنودا سويسريين لمساعدتهم في القتال . لكن الحشود التي وصلت الباستيل كانت كبيرة وغاضبة ورغم كل إستعداد الحرس وتسلحهم إلا أن الحشود إستطاعت خرق جبهتهم . حين وصلت الجموع الى سياج الباستيل طالبت آمر السجن ( الماركيز دي لاونيه ) بفتح البوابة لكنه رفض في البداية , ثم فكر أن لديه 20 الف باوند من البارود .. لذلك سيفتح لهم الباب ويدعهم يدخلون ثم يفجر الباستيل بمن فيه . وهكذا فتح الباب , فقامت الجموع بإعتقال دي لاونيه مباشرة وسحبوه الى الشارع وظلوا يطعنونه ويطلقون عليه النار ثم قطعوا راسه وعلقوه على رمح معدني وظلوا يجوبون به شوارع باريس 24 ساعة قبل أن يلقوه في نهر السين . في قصر فرساي سأل الملك واحدا من مستشاريه : هل تظن أن ذلك عصيان ؟ رد المستشار : كلا سيدي .. إنها ثورة . بعد إنهيار الباستيل عمت روح الثورة كل أرجاء فرنسا , وصار قصر فرساي مكانا لعقد إجتماعات يومية لمناقشة وضع دستور جديد لفرنسا , كانوا يناقشون لوضعه قضايا مثل : السلطة التي ينبغي أن تكون للملك ؟ وهل يمكن تجريد الكنيسة من ثرواتها ؟ وهل تمنح للمواطن حرية العقيدة الدينية ؟ وهل يمكن إعطاء الحرية للصحافة لتعمل دون رقيب ؟ إستمرت المناقشات أسابيع طويلة , وألقيت الخطب لساعات متواصلة , أحد المراقبين قال (( شاهدنا خصومات كلامية حمقاء .. وإدعاءات مضجرة الى حد الفزع )) .
شارك روبسبير بتلك الخطب المملة , لكنه بها وبمثلها تمكن من أن يصنع لنفسه إسما كواحد من المفاوضين المتطرفين لأنه طالب بتغييرات جذرية تفوق ما طالب به أقرانه , تمنح الحرية الدينية وحرية الصحافة , كما طالب بعدم نسيان الفقراء . بعد شهر من وصول روبسبير الى باريس بدأ يجتذب إنتباه الناس في قصر فرساي , وذات يوم جاء أحد رجال الدين المهمين لحضور إجتماع في فرساي وطالب المجتمعين بإعادة التفكير بخططهم , مذكرا إياهم أن الفقراء في الخارج ما زالوا جائعين , في الوقت الذي مفاوضاتهم لم تصل فيه الى نتيجة . خطبة هذا الرجل أثارت روبسبير , فكيف يمكن لرجل غني أن يجرؤ على الكلام عن معاناة الفقراء !!؟ قفز روبسبير الى قرب هذا الرجل وصرخ به (( بع عربتك .. وتخل عن خيولك فرجال الدين إذا كانوا حريصين على الفقراء الى هذا الحد , فعليهم أن يتخلوا عن حياة البذخ , وعليهم أن يحولوا كل ثرواتهم الى غذاء يقدم للفقراء )) . عندها عم الصمت المكان , وتساءل العديد عمن يكون هذا الرجل المحتدم .
بينما كانت وفود الجمعية تتناقش , كان الفقراء يبحثون عن الطعام , وعلى بعد عشرة أميال خارج باريس قام المتظاهرون بتسليب الأفران والمخازن وهدم البيوت لإلحاق الضرر بأصحاب الأملاك .
أما في باريس فقد حاول القادة المحليون السيطرة على الجموع , هؤلاء القادة هم الذين يساعدون الجمعية الوطنية في تحدي سلطات الملك , لكنهم الآن خائفون من هذه الجموع الجائعة التي تتظاهر في الشوارع , ولهذا فقد أعد هؤلاء القادة مليشيا مكونة من 800 عنصر لحفظ النظام في العاصمة وصارت تعرف بإسم ( الحرس الوطني ) . جنرال يعرف بإسم ( الماركيز دي لافاييت ) تولى مسؤولية الإشراف على هؤلاء الحرس , وكان لافاييت قد حارب الى جانب الجنرال جورج واشنطون أثناء الثورة الأمريكية , وهو الذي حث الملك لويس السادس عشر على إرسال جيش فرنسي الى أمريكا لنصرة الأمريكان . لافاييت وهو يناصر الثورة الفرنسية فهو يأمل في حكومة فرنسية جديدة , تمنح أفراد الشعب حقوقا متساوية , لكنه لم يزل مخلصا للملك.

في آب 1789 صارت الجموع في الشوارع خارج حدود السيطرة , فقررت الجمعية الوطنية أن تفعل شيئا , وخلال 24 ساعة فقط .. أصدرت أكواما من القوانين التي تمنح الحقوق للفقراء , وحرمت الكنيسة من إستيفاء أموال عن مراسيم العبادة , ولم يعد أصحاب الأراضي يملكون الحق في التحكم بالفلاحين العاملين في أراضيهم , وصار النبلاء وعامة الناس طبقا لهذه القوانين يدفعون نفس الضرائب , أما المجرمون فيعاقبون بمساواة وبغض النظر عن كونهم فقراء أم أغنياء .خلال يوم واحد كان النظام القانوني الفرنسي قد تبدل , ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد , لأن الجمعية الوطنية وضعت وثيقتها الخاصة بالحقوق وسمتها ( إعلان حقوق الإنسان وحقوق المواطن ) . هذه الوثيقة صدرت يوم 26 آب 1789 . طالبت الوثيقة الحكومات بعدم تمييز الأغنياء عن الفقراء , وأصرت على أن قادة الدول يجب أن يتحملوا المسؤولية إتجاه مواطنيهم , كما وعدت الجمعية الوطنية بحكومة جديدة تحمي حقوق الجميع في الحرية والمساواة والمواطنة الكاملة .
في الجانب الثاني من قصر فرساي كان على الملك أن يتخذ قرارا , فالجمعية الوطنية لم تتحدث عن الملك في إعلانها , وهذا يعني أن الملكية لا مكان لها في النظام الجديد , فهل على الملك أن يوافق على هذا الإعلان أم لا ؟ ولأن الملك كان شخصية مترددة فقد قرر أن لا يفعل أي شيء . في أكتوبر 1789 ضرب باريس فيضانان , الأول كان بسبب أمطار غزيرة متواصلة , جعلت الطين يغطي الشوارع لأسابيع طويلة , أما الثاني فهو فيضان الجياع الغاضبين . نسبة البطالة صارت عالية , وأسعار الخبز ما زالت مستمرة في التحليق , ويتجمع العمال في الشوارع للإحتجاج , وكانت الأجواء متوترة . قرب نهاية أكتوبر , إندفعت الجموع الى أعمال عنف بسبب حادثين . الحادث الأول كان فوجا من السلاح الملكي وصل الى المدينة , فإنتشرت الإشاعات سريعا , بأن الملك يسعى الى شن ثورة مضادة , وقتها كان الحرس الوطني قد صار تعداده 30 ألف رجل , ولكن هل يتمكنون من الوقوف بوجه جيش الملك ؟ الحادث الثاني كان أخبارا إنتشرت عن حفلة أقيمت في قصر فرساي , وأنخاب رفعت وكؤوس شربت بصحة العائلة المالكة بإستحسان من الملك والملكة , عند نهايتها تم تمزيق الوشاح الثلاثي اللون الذي يعتبر رمزا مهما للثورة . وكان ذلك كافيا ليدفع الناس الى أقصى مداها . قام الباريسيون الجياع بقتل خباز , عم الهياج , وحاول لافاييت بحرسه الوطني حفظ النظام . 7000 باريسي تجمهروا في اليوم التالي حول قصر فرساي تحت مطر غزير جدا , معظم هؤلاء كن من النساء المبللات اللواتي تلطخن بالأوحال , لكنهن مصرات على التحدث الى الجمعية الوطنية .
إلتقى روبسبير ب 12 قائد مجموعة , وإستمع الى توسلهم الحصول على طعام . وعدهم بالتحقيق في أسباب قلة المخزون منه , ولمح في كلامه الى أن الملك هو من يريد لشعبه هذه المعاناة . لذلك فالنساء اللواتي غادرن الجمعية الوطنية كن مؤمنات أن روبسبير هو حليفهن . تلك الليلة أرسل زعماء المحتجين كلمة الى الملك طالبوه فيها أن يغادر قصر فرساي , عندها أمر الملك الحرس بالإستعداد للأسوأ .

تم إقفال بوابات القصر , لكن المحتجين تمكنوا من دخوله رغم ذلك وتوجه عدد كبير منهم الى مطابخ القصر وأكلوا كل ما فيها , حاول الحرس إيقافهم وإستمر العراك طول الليل . عندها قرر الملك أن لا فائدة من العراك فأمر الحرس بعدم المقاومة , كما قرر قبول إعلان حقوق الإنسان , وعرض إرسال أكياس من الطحين الى مخابز باريس لإطعام آلاف من المواطنين الجياع . ثم غادر هو والملكة قصر فرساي متجهين الى قصر التويلري .. كان الناس يصرخون بهم طول الطريق , ومن خلال نافذة العربة رأى الملك رؤوس عدد من أفراد حمايته وقد رفعت على الرماح . بقي الملك والملكة عدة أشهر في قصر التويلري القديم , الذي كان محاطا أيضا بجموع المحتجين الذين كانوا كلما فتحت نافذة من نوافذه يرمون الى الداخل الحجارة والأزبال . فقد تعاظمت قوة عامة الشعب خلال تلك الفترة وسرعان ما صار روبسبير المتحث الرسمي بإسم عامة الشعب . أجبر الملك على تقبل وضعه الجديد ألا وهو أن يكون محكوما بالدستور . وكانت الجمعية الوطنية تجتمع في مدرسة ركوب الخيل قرب قصر التويلري , كانت المدرسة صغيرة جدا مقارنة مع قصر فرساي , ولم يستطع الإجتماع فيها أكثر من 200 عضو , في حين الباريسيون وهم يريدون مراقبة سير الإجتماعات فقد كان عليهم قطع التذاكر لتنظيم دخولهم الى هذا المكان المحدود الحجم . تقسم أعضاء الجمعية الوطنية الى مجاميع , وكل حسب إختصاصه وأمضوا معظم العام 1790 في مناقشات الدستور . واحدة من هذه المجاميع كانت تدعى ( اليعاقبة ) وكان رئيسها هو روبسبير نفسه . كانوا يجلسون على مقاعد عالية وينظرون بدونية الى بقية أعضاء الجمعية , وبسبب غطرستهم وقوتهم المتنامية فقد صاروا يلقبون ب ( الجبل ) .وبقيادة روبسبير فإن اليعاقبة دفعوا الجمعية الوطنية الى إتجاهات أكثر تطرفا . كان رجال الدين أول أهدافهم , فقد قرر روبسبير أن أملاك الكنيسة تعود للشعب , وافقه معظم أعضاء الجمعية , وفي نوفمبر أممت الحكومة جميع ممتلكات الكنيسة , وكانت الخطة أن يتم بيع الأراضي وإستعمال المال لخدمة الثورة .
كما أعلن اليعاقبة بأن القادة الدينيين يجب أن يحصلوا على مناصبهم بالإقتراع , عوضا عن تعيينهم من قبل البابا في روما , كما أصر اليعاقبة على أن يقوم كل رجال الدين بأداء قسم الإخلاص للثورة والحكومة الجديدة , وأما الذين يرفضون فتوجه لهم تهمة العصيان .حصل روبسبير على سمعة أنه مخلص تماما للثورة , فهو لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار , ولا يملك الكثير من المال ولا يتعاطى الرشوة , وهو يعيش ببساطة في غرفة خلفية مستأجرة من بيت أحد النجارين , ورغم إعجاب النساء وتوددهن إليه فمن المحتمل أنه لم تكن له علاقة جدية بإحداهن , لهذا كله كان يلقبه الناس ( طاهر الكف ) .في الجمعية الوطنية كان لروبسبير صديق ( لدود ) إسمه ( دانتون ) , وهو مثل روبسبير مخلص تماما للثورة , ويناصر عامة الشعب , ورغم أنهما يتفقان في السياسة , إلا أن لهما القليل في أشياء أخرى . روبسبير كان سطحيا وسهل الإنقياد بينما كان دانتون رجلا صلدا , واسع الصدر , جهوري الصوت , يملك شهية واسعة للنبيذ والنساء , وفي الوقت الذي نادرا ما يعترف فيه روبسبير أنه على خطأ , فإن دانتون كان يبدو دائما بمظهر من يريد مسامحة أعدائه . حين صار الإثنان صديقين حميمين , توفيت زوجة دانتون , كتب روبسبير لدانتون في رسالة التعزية (( سأحبك حتى الموت )) . لكن الثورة وهي تمضي ... صار روبسبير متشككا في كل شيء , وبدا يعامل حتى أصدقائه على أنهم أعداء . فقد صار يرى أن أعداء الثورة منتشرون في كل مكان .

من ناحية كان محقا في ذلك , فهناك مؤيدون للملك في كل فرنسا , ملاك الأراضي الأثرياء مثلا يكرهون قوانين الملكية الجديدة ويحلمون بعودة إمتيازاتهم القديمة , والعديد من رجال الدين رفضوا أداء قسم الإخلاص للثورة , وتكلموا ضد الثورة في كنائسهم في جميع أنحاء فرنسا , كما أن بعض ضباط الجيش مازالوا مخلصين للملك أيضا . أما خارج فرنسا فإن ملوك أوربا كانوا يرقبون الثورة الفرنسية بقلق , الأقطار المجاورة لفرنسا كلها ملكية .. راعها أن ترى ملك فرنسا سجينا في قصره , وكانوا متخوفين من إندلاع العنف الى أقطارهم . منذ بدأت الثورة , نبلاء فرنسا كانوا يهربون الى النمسا وألمانيا ( بروسيا ) ويطالبون قادة هاتين الدولتين بغزو فرنسا وإعادة لويس السادس عشر الى عرشه . قام إمبراطور النمسا ( ليوبولد الثاني ) وهو أخو الملكة ماري أنطوانيت بالإعداد لحملة . وطبقا لشائعات وصلت الى فرنسا _ فأنه يعد لنجدة أخته ونسيبه وتحطيم الثورة . ناقشت الجمعية الوطنية التهديد الخارجي , ولم يكن لا روبسبير ولا دانتون راغبين في القتال , فالحرب ستدمر كل المكتسبات . في شباط 1791 عم العنف شوارع باريس مرة أخرى , وخافت العائلة المالكة على سلامتها الشخصية , وكانت ماري أنطوانيت ترغب المغادرة قبل ان تتمكن منهم الجموع , الملك المتردد قاوم الفكرة أولا لكنه رضخ تحت إلحاح زوجته ومستشاريه . ثم قرر الرحيل الى قاعدة قرب الحدود النمساوية يحرسها جنود فرنسيون موالون للملك , وربما يساعدهم نمساويون إذا إقتضت الحاجة . وهكذا ففي يوم 20 حزيران وعند منتصف الليل , غادرت العائلة الملكية وخدمها المخلصون بسرية متنكرين جميعا بزي بارونات روس . فجأة قالت ماري أنطوانيت لاهثة أنها شاهدت عربة لافاييت قائد الحرس الوطني تعدو بمحاذاتهم مسرعة , والأهم من كل هذا أن ضوءا من تلك العربة صوب الى وجه ماري أنطوانيت , إرتعدت داخل عربتها خائفة من إلقاء القبض عليهم , إبنتها الصغيرة النائمة سألت أخاها الأكبر : أين نحن ذاهبون ؟ قال : بهذه الملابس ؟؟ ... لنمثل في مسرحية كما أعتقد . في الطريق .. تعرف تاجر الى لويس السادس عشر من خلال صورته على قطعة نقود , وخلال يومين كانت العائلة قد أعيدت الى باريس وسمي ذلك فيما بعد ( الهروب الملكي ) . إستعرض الحرس الوطني الموكب الملكي في شوارع باريس لتخزيتهم أمام الناس . روبسبير كان منزعجا وخائفا وأخبر أصدقاءه أن هروب الملك هو جزء من مؤامرة ضد الثورة , والإغتيالات ربما تنتظر قادة الجمعية الوطنية , وأنه بالتأكيد سيكون واحدا من أول المستهدفين . ولهذا ففي خطبته بأحد إجتماعات اليعاقبة قال روبسبير إن الملك قد برهن أنه عدو للثورة بهذا الهرب , وأن الثورة في خطر . ثم حدق في المجتمعين وأكد بأن أعداء الثورة في كل مكان , وأنهم موجودون حتى في الجمعية الوطنية نفسها , وأن أحدهم قد يكون جالسا بجانب أي واحد منا (( أنظروا حولكم )) قال لليعاقبة (( وشاركوني خوفي )) . وكان ذلك علامة على ما سيقع _ روبسبير بدأ يرى الأعداء في كل مكان , حتى بين أصدقائه , وكان ذلك واضحا في صوته , لكن لا أحد جادله تلك الليلة .صرخ روبسبير أنه سيضحي بحياته من أجل الثورة .. فصرخ صوت من آخر القاعة (( كلنا نضحي بأرواحنا من أجلك )) _ كانت تلك اللحظة هي لحظة الولادة الفعلية للدكتاتور الذي سيريق الكثير من الدماء .عام 1791 أغلب أعضاء الجمعية الوطنية لم يشاركوا روبسبير مخاوفه أو أفكاره عن الملك . أراد روبسبير إعتقال الملك ومحاكمته بسبب محاولته الهرب , لكن أعضاء الجمعية لم يقتنعوا جميعا بذلك . وقد واصلت الجمعية عملها فصدر الدستور بصيغته النهائية في سبتمر نفس العام , وكان قد حدد الكثير من صلاحيات الملك . خلال هذه الفترة تأسست ما يدعى ( الجمعية التشريعية ) وكان عملها هو وضع القوانين التي يقرها الملك أو ( يقاطعها ) أو يلغيها , لكنه لن يتمكن من التقاطع مع عمل الجمعية التشريعية إذ لم يعد الملك قادرا على تسمية نفسه ( ملك ) في الوضع الجديد وإنما أطلق عليه إسم ( الموظف الأول في الدولة ) . جميع باريس إحتفلت بالدستور الجديد , أما روبسبير وجماعته فقد طافوا المدينة محتفى بهم بإعجاب . المحامي القادم من مدينة صغيرة كان قد قطع شوطا كبيرا في الصعود خلال سنتين , وهو الآن بطل بين هذه الجموع , حين عاد ذات مرة الى مدينته أراس هتف له أهل مدينته ( يعيش يعيش روبسبير ) و ( عمرك طويل يا محرر الشعب ) .
خلال أشهر قليلة عادت الثورة الى وضع غير آمن . ففي بداية عام 1792 وافقت بروسيا والنمسا على مهاجمة فرنسا . نتيجة لذلك أعلنت فرنسا عليهما الحرب يوم 20 نيسان 1792 , بدأ القتال على الحدود وسرعان ما بدأ لافاييت وحرسه الوطني يفقدون أراضيهم . في تموز دخل القتال الى باريس .
أمرت الجمعية التشريعية بإستقدام جنود لحماية باريس , ما فسره الملك أنه تعدي على صلاحياته , فيما أولت الجمعية التشريعية الموضوع : بأن الملك لا يريد لفرنسا أن تكسب الحرب . حينها وصلت القطعات من الحدود لحماية باريس , فيما هدد واحد من القادة البروسيين عبر الحدود أن الأذى لو أصاب الملك أو عائلته , فإن البروسيين سيزحفون على باريس ويدمرونها . وكان ذلك التهديد بالنسبة للفرنسيين وكأنه إعلان بأن الملك ( خائن ) . يوم 10 آب تجمع 20 ألف مواطن قرب قصر التويلري , مستشاروا الملك توسلوا به أن يفر , لكن الملكة قالت إن عليهم البقاء والقتال لأن القصر محمي بجنود أقوياء موالون للملك تم إستقدامهم من سويسرا , لكن أحد المستشارين قال لها وهو مغلوب على أمره (( مدام , كل باريس ضدك )) .
في هذه الأثناء قام ( الحرس الوطني ) بالإنضمام الى جموع المحتشدين وبدأ الجميع بمهاجمة القصر ففتح عليهم الجنود السويسريون النار فمات آلاف منهم , لكن آلاف أخرى تقدمت وأسرت الجنود السويسريين , حين توقف القتال إحتفلت الجموع بالنصر بإحراق الجنود السويسريين . أخذ الملك والملكة الى غرفة جانبية تحت حراسة جنود من الحرس الوطني , وجرد الملك من جميع صلاحياته , ثم تم أخذهما الى سجن البرج في باريس . بالنسبة لروبسبير كان يوم سقوط قصر التويلري أهم من يوم سقوط سجن الباستيل , فقد قال إن أفراد الشعب ومنذ هذا اليوم قد ملكوا أمرهم بأيديهم ويحملون شعار العدالة والمساواة ضد أعدائهم .
سقوط الملك لم يغير الوضع كثيرا , فقد إجتاح البروسيون فرنسا متجهين الى باريس كما هددوا من قبل , والفاقة والجوع مازالتا تعمان كل البلد . جموع المواطنين الغاضبين المحتجين صارت تعرف بإسم ( سانز – كيلوت ) وهي عبارة باللغة الفرنسية تعني ( بلا لباس ) , وكانت التسمية تعني أنهم لا يلبسون السراويل الداخلية مثل أفراد الطبقات العليا . بعد مهاجمة قصر التويلري صار للسانز كيلوت موقع الصدارة في الثورة , وقادتهم حكموا باريس في مجاميع تدعى واحدتها ( كوميونة ) , سعوا جميعا الى تحديد أسعار الخبز وبقية الطعام , ودعوا الى مؤتمر وطني يعيد صياغة الدستور من جديد , أعضاء هذا المؤتمر ينتخبون من قبل الشعب , وكل المواطنين الرجال يمكنهم ترشيح أنفسهم .وافقت الجمعية التشريعية على فكرة المؤتمر الوطني , لكن روبسبير أجل القرار , فهو لا يوافق دائما على مطالب السانز كيلوت رغم علمه أن مستقبل الثورة الفرنسية قد أصبح بأيديهم الآن , وهم يطوفون الشوارع الآن بما يعرف تاريخيا بإسم ( مجازر سبتمبر ) .
أول ضحايا مجازر سبتمبر هم رجال الدين . إعتقل الحرس الوطني 24 من رجال الدين لأنهم رفضوا أداء قسم الولاء للثورة . هاجم العامة السجن فحاول رجال الدين حماية أنفسهم بإقفال السجن على أنفسهم , لكن العامة تمكنوا من إخراجهم الى الشارع وقتلهم . وفي اليوم التالي هاجموا ديرا وقتلوا 100 راهب طعنا بالحراب . التالية كانت صديقة ماري أطوانيت الحميمة وهي الأميرة دي لامبوال , رميت في السجن , لكن السانز كيلوت هدموا جدار السجن وأمروا الأميرة ان تسب الملك والملكة , وحين رفضت تم طعنها بحربة حادة وإستخرجوا قلبها ثم قطعوا رأسها وحملوه على رمح وطافوا به الشوارع حتى وصلوا السجن . نظرت الملكة من شباكها , فرموا لها رأس صديقتها في شرفتها .

وخلال عدة أسابيع كان السانز كيلوت قد قتلوا آلافا من البشر أكثرهم من عامة الشعب وليسوا نبلاء أو رجال دين , دانتون صديق روبسبير كان يسمع صرخات المقتولين في كوابيسه , لكن روبسبير لم ينطق بكلمة واحدة ضد ما يحصل , ولم تظهر عليه أي علامة شعور بالذنب .بعد مجازر سبتمبر سكنت باريس لفترة , ثم بدأ أعضاء بالإنضمام الى ( الجمعية الوطنية ) , ولمدة شهرين تناقش الجيرونديون , واليعقوبيون . وكان الجيرونديون أكثر تحفظا من اليعقوبيين لأنهم إنتقدوا مجازر سبتمبر بشدة وعارضوا تطلعات السانز كيلوت .
هاجم الجيرونديون روبسبير لكونه يملك تأثيرا كبيرا على العوام في باريس , لكنه صرخ بعلو صوته في الحاضرين (( من يجرؤ على إتهامي ؟؟ )) , لكنهم لم يعطوه أية فرصة , لذلك ظن أن هناك إعداد لمحاولة إغتياله , وصار الحرس الشخصيون يرافقونه دوما . في نوفمبر وصل النقاش الى نقطة حاسمة وهي : ما الذي عليهم فعله مع الملك ؟ فقد ظن العديد من الأعضاء أن بقاءه في السجن يشكل خطرا كبيرا لأن أنصاره سيسعون الى تحريره .أعضاء آخرون قالوا إنه يجب أن يقدم للمحاكمة . لكن روبسبير قال : محاكمة الملك ليست ضرورية , فعلى طول الخط كان الملك معارضا للثورة , تحت الضغط فقط ... وافق على قبول القوانين الجديدة , كما تحالف مع دول الجوار لإسقاط الثورة , وصار واضحا لدينا أن لويس هو عدو للشعب , ولكل هذه الجرائم فإن الملك يجب أن يعدم (( يجب أن يموت الملك .. ليحيا الشعب )) .ما الذي حصل للكراهية المعروفة التي يكنها روبسبير لعقوبة الإعدام ؟؟ هو نفسه برر ذلك بقوله إن عقوبة الإعدام قبل الثورة كان يقوم بها الأغنياء ضد الشعب .. ولكن الآن ... يجب أن يستعمل الشعب عقوبة الإعدام ضد أعدائه . والملك حاول العصيان بمعاداته للثورة , ولهذا فهو يستحق الموت . صباح يوم 21 يناير 1793 كان روبسبير يتناول إفطاره بهدوء شديد , حين تخطاه الملك ذاهبا الى المقصلة , لم تكن لدى روبسبير أي رغبة لرؤيته آخر مرة .خطا لويس السادس عشر على وقع الطبول خارج زنزانته التي ودع فيها البارحة زوجته وأطفاله , الى حيث يتجمع عدد كبير من الناس لمشاهدة إعدامه . حاول أن يقول شيئا لكن صوته لم يسمع الى جانب قرع الطبول . طلب من الحارس أن لا يقيد يديه , لكن الحارس لم يكترث له .وضعوا رقبته تحت شفرة الغلوتين وقتلوه بسرعة , رفع الجلاد رأسه ملوحا به الى الجموع الهاتفة التي ركضت الى الشفرة وغمست أياديها بدم الملك وبدأت الرقص . ماري أنطوانيت ناولها السجان خاتم الزواج العائد الى زوجها , فإنهارت الملكة لأنها عرفت أن زوجها قد مات . جيران فرنسا : النمسا , بروسيا , إسبانيا , النرويج وبريطانيا , إتفقوا على معاداة الثورة الفرنسية وكان إعدام لويس السادس عشر بالنسبة لهم هو القشة التي قصمت ظهر البعير , رئيس وزراء بريطانيا وصف الثورة الفرنسية أنها (( أسقط عمل في تاريخ العالم )) . كانت فرنسا تحارب ألمانيا والنمسا .. أضافت إليهما الان إعلان الحرب على بريطانيا . أما داخل فرنسا فقد كان أعداء الثورة منتشرون , والجيش الفرنسي يحاول سحق أنصار الملكية في كل مكان . إعدام الملك هدأ السانز كيلوت الى حد بعيد , لكنهم عادوا الى إحتلال الشوارع مرة أخرى في آذار , أما روبسبير فقد صار يسمي الجيرونديين المعتدلين (( أعداء الثورة الأثرياء )) . فقام السانز كيلوت بمهاجمة مطابع الجيرونديين فأحرقوا المكاتب وكسروا آلات الطباعة . روبسبير وبعض رفاقة قلقوا من فقدان السيطرة على مقدرات الثورة , فقدم دانتون صديق روبسبير فكرة إقامة ( مجلس ثوري ) عدد أعضائه 12 ومهمته هي النظر في أمر من ( يشك ) أنه عدو للثورة . وتكون للمجلس الثوري سلطة إعتقال الناس بتهمة العصيان وتوجيه العقوبات لهم , طبعا العصيان لم تكن له إلا عقوبة واحدة : الموت . وتنتشر فروع للمجلس الثوري في كل مدن فرنسا لمراقبة الأجانب وكل من يشك فيه . دعم روبسبير فكرة دانتون , وكانا يحلمان أن هذا الإجراء سيجلب السلم الى فرنسا ويسحق الملكيين , ويهدأ عامة الناس بالتأكيد لهم أن أعداء الثورة سيتم الإقتصاص منهم .
قامت الجمعية الوطنية بإستحداث تشكيل جديد ذي قوة كبيرة , دعي ( لجنة السلامة الوطنية ) فيه 9 أعضاء يعملون بسرية لتوجيه المجلس الثوري والجيش . عامة الناس لم تهدأ .. وذات يوم إندفعت مجموعة منهم الى قاعة إجتماعات الجمعية الوطنية وطالبت بتحديد أسعار الغذاء وفرض الضرائب على الأغنياء لإطعام الفقراء , وتقاطعوا مع الجيرونديين وأصروا على إلقائهم خارج الجمعية .

وجدها روبسبير فرصة سانحة للإنقضاض على الجيرونديين أعدائه السياسيين , فوقف الى جانب السانز كيلوت , وفي يوم 2 حزيران تجمع منهم 80 ألف حول إجتماع الجمعية الوطنية وتمت الإطاحة بالجيرونديين , 30 جيروندي أخذوا الى السجن بإنتظار حكم الموت .
في سبتمبر تصاعد العنف مجددا بسبب إشاعة مفادها أن الملكيين يستعدون للهجوم على باريس , جياع باريس الخائفين طالبوا روبسبير بالمزيد من أحكام الإعدام .. فلبى لهم النداء .
بواسطة المجلس الثوري , ولجنة السلامة الوطنية تم إعدام آلاف من الناس الذين ( يشتبه ) أنهم أعداء للتحرير ( كل من كتب أو نطق كلمة ضد الثورة عد مذنبا وهو كالذي يتعاون مع أعداء الشعب ) .
في الشهر الأخير من عام 1793 تم إرسال 177 باريسي الى المقصلة , في ليون أخمد تمرد للملكيين وأخذ منهم 2000 معتقل تم ربطهم وتنظيمهم على شكل خطوط ثم أعدموا بقصفهم بالمدافع , أما في نانتيس فقد قيدت أعناق الرجال والنساء والأطفال الى ظهور مراكب قديمة ثقب قاعها لتغرق في النهر , كان الضحايا يتوسلون لإنقاذ حياتهم ولا من مستجيب .
رحب روبسبير بالعنف قائلا : علينا أن ( نبيد ) جميع أعدائنا ( بالقانون الذي في أيدينا ) .
منذ مهاجمة قصر التويلري بقيت ماري أطوانيت وأطفالها في سجن البرج في باريس , وبعد إعدام زوجها تم فصل أطفالها عنها , وبني سياج عالي حول سجنها لكي لاتتمكن من رؤيتهم في القاطع التالي من السجن .
بعد عشرة أشهر من إعدام زوجها إستدعيت ماري أطوانيت الى المجلس الثوري وظل الأعضاء ليومين يتهمونها بجرائم ضد شعبها لكنها أجابتهم بكرامة : (( كنت ملكة وأنتم أطحتم بملكي , وكنت زوجة وأنتم قتلتم زوجي , وكنت أما وانتم أخذتم اولادي مني , ليس عندي ما تبقى غير دمي فتعالوا خذوه في عجالة )) .
ظهر يوم 16 أكتوبر حملت عربة مكشوفة ماري أنطوانيت الى حلبة الإعدام , كان عمرها 37 سنة , نحيفة وشاحبة ولم تكن تمت الى الملكة التي كانتها بشيء . حين وصلت الى المقصلة قالت للجلاد : (( مسيو .. أسألك أن تسامحني .. لم أفعل شيئا بقصد )) . وكانت تلك آخر كلماتها . صار روبسبير الآن في أوج قوته , وإستمرت الإعدامات ولم يكن محددا للضحايا أن يكونوا من النبلاء أو رجال الدين , فتهمة العصيان كانت تلحق الجميع . الناس المتهمة بأنها تخزن الطعام , المزارعون الذين لا يبيعون محاصيلهم , خصوم روبسبير السياسيون , وكل من يشك في أمره . صارت مراقبة الإعدامات وسيلة لتمضية الوقت بالنسبة للباريسيين , ويسارعون الى حجز أماكن تمنحهم رؤية أفضل , الأهل يجلبون صغارهم للفرجة على الجلاد حين يحمل بيده رأسا مقطوعا يعرضه على الناس . حين إستمر القتل اليومي , تمرض دانتون بسببه , فبدأ يرى الكوابيس ويكلم نفسه . حاول التأثير على المجلس الثوري لوقف هذا العمل فلم يتمكن . وذات مساء دعى صديقه روبسبير الى العشاء , وعلى المائدة توسل به أن يوقف الإعدامات قائلا : بالنسبة للملكيين أو المتآمرين أستطيع فهم الأمر .. ولكن ماذا عن الأبرياء ؟؟؟ أجابه روبسبير ببرود : ومن هو الذي يقول أن بريئا قد أعدم ؟ كل شخص عليه أن يقدم الأفضل للشعب . رد دانتون : ومن الذي يملك أن يقرر الأفضل للشعب ؟ دون تردد اجاب روبسبير : أنا . لاحظ دانتون كم العمى الذي وصل إليه صديقه روبسبير , فهدف الثورة كان محاربة الظلم في المجتمع الفرنسي , لكن الثورة الآن تقتل الأبرياء , وروبسبير لايرى مشكلة في ذلك , كم هو أعمى !!!؟ لكن دانتون كان يعرف أنه بعد كلامه هذا مع روبسبير فإنه لن يعيش طويلا .. وحين غادر روبسبير المائدة منفعلا .. إمتلأت عينا دانتون بالدموع . في نفس الليلة تم إعتقال دانتون ووجهت له تهمة محاولة الإطاحة بالثورة , المجلس الثوري وجده مذنبا وتم أعدامه بالمقصلة يوم 5 نيسان 1794 . وكانت آخر كلماته : قبل 12 شهرا , كنت أنا الذي إقترح تأسيس المجلس الثوري الذي نموت بأحكامه اليوم , ولهذا أرجو الناس أن تسامحني . لم يكن لموت دانتون أثر على روبسبير ولم يبد ندما على ما حصل , لكنه أصدر أمرا أكثر صرامة طالب فيه النبلاء والأجانب بمغادرة باريس , كما أصر على الإشراف المباشر على سير المحاكمات . فمنذ اليوم جميع السجناء السياسيين من كل فرنسا ستتم محاكمتهم في باريس . كما أن ( الفرنسي الجديد ) عليه أن يضع مصلحة فرنسا قبل مصلحته الشخصية .في أكتوبر قامت الجمعية الوطنية بوضع ( تقويم جديد ) . التاريخ يجب أن يبدا من يوم سقوط الملكية 22 سبتمبر 1792 , وفي هذا التاريخ يبدأ التقويم الجديد . حتى الأشهر تغيرت أسماؤها , أما يوم ( الأحد ) المفضل عند المسيحيين فقد تم محوه من أيام الأسبوع . حاول روبسبير ابتداع ديانة جديدة يقدس فيها الناس (( الكينونة العليا )) . وكل عشرة أيام يحتفل الناس بيوم مقدس , وكل يوم مقدس ينبغي أن تكون له إهتمامات مختلفة , فالفرنسيون ربما يمضون بعض أيامهم المقدسة في عبادة التحرر والمساواة , أو شهداء الحرية , أو كراهية الطغاة والخونة .
أول هذه الإحتفالات وقع يوم 8 حزيران 1794 , جميع باريس زينت بالأوشحة والزهور , وآلاف الناس تجمعوا عند قصر التويلري لسماع خطبة روبسبير . كان يرتدي سترة زرقاء سماوية ووشاحا عريضا . ثم قام هو وقادة الجمعية الوطنية بمسيرة إستعراضية بين الحشود . بعد يومين من ذلك الإحتفال أصدر قانونا جديدا ينص على أن من ( يحال ) الى المجلس الثوري فليس له غير عقوبة الإعدام .
وخلال هذه الفترة فرغ روبسبير نفسه لمهمة واحدة وهي : النظر في القضايا الكثيرة التي يجمعها ( المخبرون الثوريون ) عن ( أعداء الشعب ) . وخلال 6 أسابيع كان قد حكم على المئات , أغلبهم أبرياء من أي جريمة , والكثير منهم تم إتهامهم من قبل جيران أو أشخاص تجمعهم بهم مشاكل شخصية .
أمر روبسبير أن ينفذ الحكم خلال 24 ساعة من تقريره , ولذلك فالمتهمون الذين يكونون صباحا في المحكمة , بعد 3 عصرا يرسلون الى المقصلة . خلال شهر واحد كان قد تم إعدام 1366 شخص , لذلك كان ينبغى إجراء التنفيذ خارج باريس لأن الدماء صارت تعكر مياه الشرب .في كل يوم كان الناس يموتون بالمقصلة , لكن الأوضاع لم تتحسن , لم يكن هناك خبز والناس تعيش أوضاعا صعبة لذلك لاحظ روبسبير أنه بدأ يفقد سيطرته على السانز كيلوت , كما انه بدأ يفقد سلطته على لجنة السلامة الوطنية , أغلبهم رغب بإنهاء العنف , وبعضهم شعر أن روبسبير صار قويا أكثر مما يجب , أما مساندي دانتون رفيقهم الراحل فقد كانوا يرغبون الثأر له . يوم 26 تموز 1794 كانت كلمة روبسبير في الجمعية الوطنية عن المتآمرين في كل مكان .... حيث قال : (( جواسيس ومتسمعون موجودون في مقرنا العام . وقد حان الوقت لإعتقال مجموعة جديدة من المتآمرين الذين يجلسون معنا في هذه الغرفة , الذين أرفض تسميتهم الآن بأسمائهم )) . إرتعد أعضاء الجمعية الوطنية في أماكنهم , ولا أحد منهم يعرف من هو المقصود بالكلام . وعلى الرغم من أن أعضاء المجلس كانوا يعرفون أن روبسبير لا يقودهم بأمانة إلا أن مناقشة خطبته إستمرت ساعتين .
في اليوم التالي حين عاد روبسبير وهم بأن يتكلم صاح قادة المؤتمر (( السقوط للطاغية .. السقوط للطاغية )) . وصوتوا على قضية إعتقاله .لجأ مع بعض مناصريه الى فندق قريب لتدارس خطته المقبلة , لكن الجنود هاجموا الفندق في وقت متأخر من الليل , بعد أن تمكنوا من معرفة كلمة السر لدخول ذلك الفندق . طلقة أصابت روبسبير في فكه , ولا أحد يعرف إن كانت محاولة إنتحار أم لا . الطلقة مزقت الكثير من أجزاء وجهه , ثم مستلقيا على نقالة وينزف بغزارة , تم سحبه الى قصر التويلري , ولم يكن من المتوقع أن يعيش حتى الصباح . عند الصباح وضع في عربة إستعرضت به كل شوارع باريس , كان يرتدي نفس سترته الزرقاء السماوية لكنها الآن ملطخة بالدم . تطلع العامة الى بطلهم . صرخوا فيه ورموا عليه الأحجار والقاذورات , تعلقت سيدة بعربته وصرخت : (( إذهب الآن أنت شيطان .. أسقط في قبرك مشيعا بلعنات الزوجات والأمهات الفرنسيات )) . خلعوا عنه السترة الزرقاء , ولتعرية وجهه ورقبته أمام شفرة الإعدام , فكوا أربطة الجروح التي تلم أجزاء وجهه الممزق , فصرخ من الألم صرخة مدوية كما لو أن شفرة الإعدام كانت قد سقطت على عنقه . يوم 28 تموز 1794 كان قد مات . بعد عام ونصف من إعدامه للملك لويس السادس عشر كان روبسبير قد أعدم بنفس المقصلة , وخلال هذا العام والنصف كان قد أرسل آلافا من البشر الى حتوفها بإسم ( قانون ) لم يكن عادلا ويفتقر إلى أبسط مقومات روح العدالة ويدل بما لايقبل الشك أن من طبق ذلك القانون , كان رجل قانون إنحرف الى حد الجريمة .