ديوان محرّك الدمى للشاعر محمد العرابي ومحاججة الدمغجة المنتجة لسلبية التلقّي
منذ العتبة الأولى للديوان يلج شاعرنا بكامل ثقله الإبداعي بغية تحقيق كتابة مغايرة تماما تعكس حجم احتواء البياض لحمولة الذات في تجربة تداخلات القلق والشكّ.

ما يتيح للأنامل انتهاك عوالم صوفية ضمن ثالوث العقل والقلب والنفسية،تفرز حراكه الذاكرة الواعية للحظة ما بعد الانتشاء بتعاليم جورج باتاي وثلة من طينته.
" أيها المُحرّك.' دَعْني أَقْصُص عليكَ ما أَمْلَتْهُ الضرورةُ عليَّ وانعَقَدَتْ لهُ راياتُ الجُنُون في القرن الواحد والعشرين،منَ المَيْلِ إلى اليأس، والقسوة ،واللؤمِ راشحًا بطَيْفِ الأقحوان.منَ الميل إلى انْتِهاكِ الأصابع للمَسْكَن المستحيل، المسْكَنِ الممتلئ بالغوايات. ولْيَنْهشْ خيالُكَ بعْدها لحمَ النَّسَقِ، ويُناوِرْ دهاؤكَ حولَ عكّازِ القياس."
كما لو أن الديوان عبارة عن جملة واحدة باذخة تأخذ بتلابيب المتلقي لتهيمن على لبه وذائقته وتدهشه بمنظومة تقنيات وظّفت في سردية شعرية ثم ترصيع جسدها بثلاثة حركات تدليلا على الثالوث المذكور الكامنة أهمية منسوب إشباعه في منح التوازن الشخصي حسب تفاوت معين .
الديوان عن دار الغاوون سنة2012وما مقاربتنا له الآن إلا عربون اعتراف بثرائه الفني والمعرفي وصلاحية مدته المغرية بمزيد من النبش في ما ورائيات ألوانه.
ومما يصطدم بأذهاننا لأول وهلة، ألا كتابة تجبّ ما قبلها مهما حاولنا مترنمين بشحذ ما بحوزتنا من تشذيب لغة و صقل أدوات ممكنة من بلورة معلومة ما وترجمتها إلى لوحة بوح وإن في أقصى حالة مشتهاة قد ينتابنا عبرها الشعور التام بالرضا جراء ما تقترف أناملنا.
إنا إزاء تجربة منطلقة من وإلى العدم/ الموت. دورة كاملة في مسرح كوني أشبه ببيت العنكبوت.
(" أنا أكتب فلأني ميتة..."
على إيقاع غير ودّي تكون الكتابة. التقدم خطوة نحو الكتابة يعني تعرية الموت الذي يسكننا، كذوات ، مجبرة على الانفتاح.
كوننا كذلك. كوننا في الآن نفسه لغة،تعددية منظمة للفكر الكامن الذي يتبع قانون جاذبية من نوع خاص، لمبدأ المحرك الغفل، لا نملك غير جسد ما لا نهاية له من الألياف...
لكم أنتزع كلماتي من دمائي...، من الموت الذي يترصّدني...
أكتب.
هل أكتب فعلا؟
هل أملك أن أدون كتابة وجودية عير متناهية على حدود الذات؟
اللوح.الرَّقش.التدوين.الحر ة.الموت في نهاية المطاف.
......
أتكلم عن "تجربة"،
من المتصوفة إلى جورج باتاي،مرورا ب"ساد"، روسو،نيتشه،جبران وحتى آرتو، لم تستنفذ هذه الكلمة كل طاقتها بالنسبة إليَّ.لم تعن لي غير الانفتاح المزمن للفكر على الوجود، الفكر الذي يرفض العقلنة،ببساطة لأنه يجري كما الدماء.لأن الجسد يحيا بالعنف الأخرس،عنف الـ"تجربة".
أن أتعلم الصرامة والقسوة في اختيار الكلمات.
أن أفكر بلا استسهال في الوجود واللغة.
أن أكتب ،وكأني لم أكتب مطلقا.
أليس هذا ما أحاوله هنا؟
أليس هذا ما أحاوله دوما؟)
أولى الحركات للجسد في طقوس تأملاته من زاوية ثقافة الملهاة الإلهية منبثقة من جدلية الغيبي وعبور مستويات تحفيز المخيال على تفجير أسئلة واستنطاقات ضمن لغة إيروتيكية تتغيا صياغة صوفية للتقاطعات الفكرية الوجودية تعالج أو بالأحرى تحاول تشخيص الراهن المنعقدة له رايات جنون جلد الذات.
"بالنظر إلى الملهاة الإلهية فأنا أجادل من لستُ أراهُ رجما بالغيب لا تثنيني قهقهاته المتفصّدة من أوردة الخيال ولا خيوطه المندلقة ُ فوق الأكباد من بلغم وصفراء،أخلاط العماء في السجال غير المتكافئ سجال المعلوم المجهول،سجال الفاكهة بالنسبة للمتواري خلف غمامات خلف إجاصات أرفع وأشهى من خلاصة الحيرة،سجال نبوءة عليها أختام الدم،إرث الهذيان،اللعنة اللانهائية،منحدر الذات إلى الكناية،جوهر الإمرة بالسوء،فوق أوراق الدّفلى يتعالى الجدال،يشتدّ احتراقي بنار الحرف برجم الرعد،لانحيازي إلى أعراضي الهَيولى،مشقّقا الفكر كدُمّلٍ."
ثانيا الحركة النفسية التي تؤطرها الرؤية من خلال الموت أو النبوءة وهاجس الخلود. وربما مقارعة وهم بآخر أفدح منه مغر بأقنعة التأريخ لمغامرة البحث عن الحقيقية.
"أنحو إلى تاريخ
أبحثُ فيه عن حقيقةٍ ـ
لا تشبهُ الحقيقة
تحادي الموج في صمت
قبل مجيء الطوفان
تصحبُ رقصي رغم الألم
والقَناعات أو الحوافز القوية أو الواهنة
وإن كنت عبثا أغالب ضحكا لا يستطيع أن " يغيثني من الله" كما قال الحلاج.
أيقوناتُ رمادٍ
صدئة
قبضة كلمات شائخة
تغلّ أقدامي
تطاول أشجارا تتمادى
بحلقي
يدٌ غريبةٌ عني
تتعلّقُ بها أنفاس الغيوم.
سقوف جرجرت جسدي عند تخوم المرئيّ
تكبّلتهُ بدورها.
وشحذت فوقهُ نصالها المُرهقة."
ختاما حركة العقل في حدود لا شعورية وفق انزياحات جوانية تقرأ العالم من داخل الذات .
حنجرة متمرّدة استطاع صاحبها صياغة توليفة مفاهيم مضادة لثقافة الانحدار بالمتلقي إلى درك السلبية كما تروجها بعض الخطابات الديماغوجية الرامية إلى تخدير ممنهج يسمم الوعي الحقيقي بالذات فالآخر فالوجود إجمالا.
في صناعة مزيد من الدمى الطّيعة في أيادي محرّكيها.
"......
المُطَهّرُ يعشقُ آنية في صدري
وأراهُ منتشيا بِدُوَارِه
واضِعاً المُطْلقَ نُصْبَ عينيه.
صوب جسدي
تُطَهّمُ الخيولُ
وتُرفع البيارق
يُستباحُ في كلّ مرة باسمِ حُروبٍ مقدّسة.
........
ــ العنكبوت: " ها أنتِ ثانيةً في شِباكي.
من حملكِ إليّ:
أهيَ الرياح المُعتكرةُ بالصدفة؟
أم هيَ أفكارُ الحلول والاتحاد؟
أم هو اليأسُ والعدم؟
ــ الفريسة:" هي أمواجي تصطدمُ بالصخر
تتكسّرُ عليهِ
حينا وتعلو فوقهُ حينا
كثيرا يبتلعهما البحر معا.
ــ العنكبوت:" لكن أنا الصخرة وأنا البحر"
ــ الفريسة: " وليكن.'
هل تفكّر الوردة في العاصفة عندما تشتعلُ كينونةً؟
هل أنا حقا في مأزق حلم تتستر عليه الأيادي؟
هل هي جريمةُ يد هذه التي تحرك الدمية في اتجاه الموت؟
........ "
الأذن تشتهي قبل العين أحيان. وهذا ما اتفق معه الغرض العام كما رسمته التجربة الرائقة جدا لشاعرنا الذي آثر لشعريته غلبة المكون السمعي على البصري، الوقع المربك للمفردة في قرانها مع ثيمة تناسل معاني العدم.

احمد الشيخاوي