وصل آق سنقر البُرْسُقيُّ حلب، وبمجيئه رحلت القوات الصليبية؛ حيث شعرت بقوَّة الجيش السلجوقي العراقي، وتعاطف الناس في حلب معه، ومن هنا لم يحدث صدام بين المسلمين والصليبيين[1].

رتَّب آق سنقر الأوضاع في حلب، ثم عاد إلى الموصل بعد أن ترك فيها أميرًا يتبعه[2]، ثم ما لبث أن عاد إلى المنطقة في أوائل سنة (519هـ= مارس 1125م)، وزار إمارة شيزر، وتسلَّم الرهائن الصليبية من سلطان بن منقذ أمير شيزر؛ وذلك بناء على المعاهدة التي كانت تنصُّ على تسليم هؤلاء الرهائن إلى زعيم حلب في حال الإخلال بأي بند من بنود الاتفاق[3].

ثم بدأ آق سنقر الجهاد مباشرة ضدَّ الصليبيين، فاستطاع السيطرة على حصن كفرطاب بالقوَّة، وهو من الحصون التي كانت في الاتفاق مع بلدوين الثاني، ثم حاصر بعده حصن زردنا[4]، ونتيجة هذه الحملات استنجدت أنطاكية ببلدوين الثاني؛ الذي جاء مسرعًا إلى المنطقة، خاصة أن ابنته الآن رهينة في يد آق سنقر البُرْسُقي، واشترك معه في النجدة جيش طَرَابُلُس بقيادة الأمير بونز، وكذلك جيش الرها بقيادة جوسلين دي كورتناي، وترك آق سنقر حصار زردنا، واتجه إلى منطقة عَزَاز شمال حلب[5]؛ حيث دارت موقعة كبيرة بين الطرفين اقتتلوا فيها قتالاً شديدًا، ثم تمكَّن الصليبيون -للأسف الشديد- من إلحاق الهزيمة بالمسلمين[6]؛ لكنها لم تكن هزيمة ساحقة كما تُصَوِّرُها بعض الكتابات بدليل أن قتلى المسلمين كما ذكر ابن الأثير كانوا ألفًا فقط[7]، وبدليل قَبُول الطرفين الجلوس للتفاوض بعد المعركة؛ مما يُعطِي انطباعًا بالتكافؤ النسبي بين الفريقين.

وكانت نتيجة المفاوضات كالآتي:

أولاً: يُسَلِّم آق سنقر الرهائنَ الصليبيين إلى بلدوين الثاني[8].

ثانيًا: يحتفظ المسلمون بكفرطاب.

ثالثًا: تُعقد هدنة بين الطرفين لمدَّة معينة لم تُحَدِّدها المصادر، ولكن من الواضح أنها كانت هدنة لمدَّة قصيرة؛ لأن آق سنقر رجع مسرعًا إلى الموصل لإعادة ترتيب الأوضاع في جيشه، وجمع المجاهدين لصدام جديد، وقد ترك على حلب ابنه عز الدين مسعود بن آق سنقر[9].

كانت هذه هزَّة لآق سنقر لكنها هزَّة لم تُلْغِ زعامته، ولم تُزعزع مركزه، ولم تُفقده ثقة السلطان محمود فيه، ولا ثقة الشعوب الإسلامية في قدراته وإخلاصه؛ ومن ثَمَّ فالآمال كانت لا تزال معقودة عليه في تحرير الأراضي الإسلامية من دنس الصليبيين.

وبينما يُعِدُّ آق سنقر عُدَّته للتجهُّز لصدام جديد بعد انقضاء الهدنة؛ إذ الأخبار تأتي من الشام أن بونز أمير طَرَابُلُس استطاع انتزاع قلعة رَفَنِيَّة من أيدي المسلمين، وهذه القلعة تابعة لحمص التي تتبع بدورها طُغْتِكِين أمير دمشق[10]، وهي قلعة في غاية الأهمية لسببين رئيسيين؛ الأول لأنها تُشرف على طَرَابُلُس؛ ومن ثَمَّ فهي تُهَدِّد أمن الإمارة الصليبية بكاملها، والثاني لأنها تُشرف على الطريق بين بيت المقدس وأنطاكية؛ ومن ثَمَّ فالسيطرة عليها تُؤَمِّن الإمدادت الصليبية من بيت المقدس إلى أنطاكية، ومن الجدير بالذكر أن بلدوين الثاني شارك بونز في إسقاط قلعة رَفَنِيَّة، وبالتالي نقض الهدنة التي كانت بينه وبين آق سنقر البُرْسُقي[11].

هنا استنجد طُغْتِكِين بآق سنقر الذي جاء من فوره بجيشه في منتصف عام (520هـ= 1126م)، وأرسل آق سنقر ابنه عز الدين مسعود لقتال الصليبيين عند رَفَنِيَّة بينما توجَّه هو إلى حصار حصن الأثارب المهمِّ، وهو من الحصون التابعة لأنطاكية.

أقبل بلدوين الثاني مسرعًا ومعه جوسلين دي كورتناي أمير الرها، وكان واضحًا أنه خشي من القوَّة المتنامية لآق سنقر، ومن إصراره وعزمه على مواصلة الجهاد، ومن تعاطف المسلمين معه، ومن اتفاق زعماء الشام عليه، فعرض عليه الصلح، وعقد الهدنة من جديد، وهذه المرَّة سيدفع بلدوين الثاني الثمن، وهو إعادة حصن رَفَنِيَّة الخطير للمسلمين[12]!

كانت نتيجة مُرضية جدًّا لآق سنقر، وخاصة أنها جاءت دون قتال، وسيستعيد المسلمون حصنًا مهمًّا، وسيأخذون بالهدنة الفرصة لإعادة تنظيم جيوشهم وأمورهم؛ ومن ثَمَّ وافق آق سنقر البُرْسُقي وتسلَّم حصن رَفَنِيَّة، وأبقى عز الدين مسعود ابنه في حلب، وعاد أدراجه إلى الموصل[13].

لقد بدأ المسلمون الآن ينظرون إلى آق سنقر على أنه القائد الذي سيصمد في الحرب ضدَّ الصليبيين، وهذا -لا شكَّ- أسعد المسلمين كثيرًا؛ إلا أن هذه السعادة لم تكن في قلوب كلِّ مَنْ يُراقب الأحداث؛ لقد كانت هناك عيون يملؤها الشرُّ، وقلوب يغمرها الحقد ترقب هذا النموَّ لشعبية هذا المجاهد، وهذه الآمال المعقودة عليه! إنها عيون الباطنية وقلوبهم!

إن هذه العصابات الإسماعيلية الشيعية المسلحة ما كانت لتستقرَّ قط أو تسعد وهي ترى جهودًا سُنِّيَّة مخلصة تهدف إلى توحيد الأُمَّة، وإعلاء راية الجهاد، وطرد الصليبيين؛ لذلك قرَّرت هذه القلوب الحاقدة والنفسيات المعقَّدة أن تتخلَّص من هذا الرمز الجديد، كما تخلَّصت قبل ذلك من سلفه المجاهد مودود، ومن قبله من الوزير العالم نظام الملك!

فترى ماذا سيحدث في اللحظات القادمة؟

[1] Guillaume de Tyr, 1, p. 557.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/230.
[3] Runciman: op. cit., ll, p. 173.
[4] ابن العديم: زبدة الحلب 2/231، Foucher de Chartres, p. 471.
[5] Guillaume de Tyr, p. 580.
[6] ابن العديم: زبدة الحلب 2/231.
[7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/234.
[8] Guillaume de Tyr, p. 580.
[9] ابن العديم: زبدة الحلب 2/231، 232.
[10] Grousset: Hist. des Croisades 1, p. 641.
[11] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص216، وابن العديم: زبدة الحلب 2/232، Foucher de Chartes, p. 480.
[12] ابن العديم: زبدة الحلب 2/233.
[13] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص214.


د. راغب السرجاني