وجد أهل حلب أنفسهم في حيرة شديدة، وشعروا أن البلد بلا قائد ولا رابط، وأن قائدهم المفترض حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي ضعيف، حتى لو جاء بجيشه فلن يستطيع أن يدفع عنهم، فهو لا يرغب أساسًا في مواجهة الصليبيين، والجهاد صعب، ولن يَقْوَى عليه إلا مَنْ يطلبه، بل ويشتاق إليه.
ومن هنا قرَّر أهل حلب أن يستعينوا بقائد من خارج حلب يأتي ليتسلَّم زمام الأمور؛ ومن ثَمَّ يَرُدُّ هؤلاء الغزاة عن المدينة الآمنة: حلب! فبمَنْ يستعينون؟!
إن معظم الزعامات التي كانت حولهم كانت في غاية الضعف، ولم يكن أمامهم إلا أحد رجلين: إما طُغْتِكِين قائد دمشق، أو آق سنقر البُرْسُقي زعيم الموصل.
أمَّا طُغْتِكِين، فهو على الرغم من قوَّته وحفاظه على دمشق فترة طويلة؛ فإنَّه لم يكن القائد المنشود؛ وذلك لأنه كان دومًا في حاجة إلى المعونة من الخارج، بل كان أحيانًا يتحالف مع الصليبيين في فترات ضعفه، وها هم الصليبيون يأتون بجيوشهم لحصار حلب غير معتبرين بقوة طُغْتِكِين القريبة من حلب؛ ومن ثَمَّ فإن أهل حلب شعروا أن هيبة طُغْتِكِين لن تردع الصليبيين، ولن تردَّهم خاسرين.
لكن القائد الآخر آق سنقر البُرْسُقي شأنه مختلف! فهذا القائد، مع كونه لا يمتلك تاريخًا جيدًا في المنطقة؛ حيث هُزم قبل ذلك من الصليبيين أثناء فترة ولايته الأُولى على الموصل، فإنه يتمتَّع ببعض الخصال التي تجعل كفَّته أرجح من كِفَّة طُغْتِكِين..
مؤهلات آق سنقر القيادية:
فهو أولاً: يتمتَّع بدرجة عالية من الصلاح والتقوى تجعله يسير فيهم بالعدل والرحمة، وهي صفات افتقر إليها شعب حلب عدَّة عقود.
وهو ثانيًا: يمتلك جيشًا قويًّا هو جيش الموصل، ويكفي أن أحد أبرز قادته هو عماد الدين زنكي الذي اشتهر أمره بين المسلمين.
وهو ثالثًا: يحكم شعبًا فاهمًا محبًّا للجهاد، وهو شعب الموصل؛ لذا فجيشه يختلف عن بقيَّة جيوش هذا الزمان، وهو يعلم كيف يكون الجهاد في سبيل الله، وليس في سبيل الكرسيِّ أو المال.
وهو رابعًا: على عَلاقة جيِّدة جدًّا وشخصيَّة بالسلطان السلجوقيّ محمود؛ ومن ثَمَّ فهو بذلك يضمن تأييدَ أكبر سلطة في العالم الإسلامي في ذلك الوقت.
وهو خامسًا: سيُضيف قوة جديدة إلى المنطقة بالإضافة إلى قوَّة طُغْتِكِين؛ لأن هناك سابق اتحاد بين قوَّة الموصل وقوَّة دمشق أيام مودود :، فلو أُعيدت هذه الوَحْدَة بالإضافة إلى حلب فلعلَّ ذلك يردع الصليبيين ويُحَقِّق النصر.
ومن هنا رجحت كفة آق سنقر البُرْسُقي، وأرسل أهل حلب من فورهم رسالة استغاثة إليه، تطلب منه القدوم لتسلُّم مفاتيح المدينة العظيمة: حلب[1]!
وجد آق سنقر البُرْسُقيّ أمير الموصل أن هذه فرصة لا تُعَوَّض لمواصلة الجهاد ضدَّ الصليبيين، خاصة أنَّ السلطان محمود قد أظهر رغبة في الجهاد قبل ذلك، ومن هنا تحرَّك بسرعة ملبِّيًا نداء أهل حلب، ووصلها بالفعل في (ذي الحجة 518هـ= يناير 1125م)؛ ليُوَحِّد بذلك الإمارتين الكبيرتين: الموصل وحلب[2]!
(انظر خريطة رقم 26)
وإذا كنا قد رأينا شرًّا كبيرًا في غياب المجاهد بلْك بن بهرام عن الساحة، وإطلاق سراح بلدوين الثاني دون فائدة تُذكر، وحصار بلدوين وأعوانه لمدينة حلب، وغير ذلك من الأحداث المؤسفة؛ فإنه كان من وراء هذا الشرِّ خيرٌ كثير، وهو توحيد قوَّة الإمارتين المهمَّتين: الموصل وحلب. وهذه الوحدة وإن كانت لم تُحَقِّق أهدافها في أول أيامها، فإنها لفتت الانتباه إلى قيمة اتحاد هاتين الإمارتين، وبذلك يُعتبر هذا الحدث نواةً لما سيحدث مستقبلاً من اتحاد إستراتيجي مؤثِّر بينهما.
لماذا اتحاد الموصل وحلب مهمٌّ؟
والإجابة عن هذا السؤال، ترجع إلى أسباب عدَّة؛ منها:
أولاً:
تواصل إمارة الموصل مع إمارة حلب دون وجود فارق بينهما، يعني اتصال الجسر العسكريِّ من العراق، بل من شرق العالم الإسلامي كله بما في ذلك فارس (مركز السلاجقة الرئيسي)، مع أرض الشام حيث يُوجد الصليبيون.
ثانيًا:
الدعوات الجهادية الحقيقية كانت تظهر في الموصل، فإذا تَوَحَّدَت الموصل مع حلب فإنه يُتَوَقَّع أن تسري هذه الرُّوح في حلب ومنها إلى الشام، بعد غياب حقيقي لهذه الدعوة في أرض الشام طوال السنوات السابقة.
ثالثًا:
الإمكانيات البشرية والعسكرية للإمارتين كبيرة؛ فاتحادهما يعني تكوين قوَّة صلبة تستطيع مواجهة الصليبيين.
رابعًا:
وجود حلب تحت حكم الموصل التابعة للسلاجقة والخلافة العباسية سيضع المسئولية رسميًّا على السلطنة والخلافة، ولن يُصبح الأمر مجرَّد تفضُّل بالمساعدة، أو تبرُّع بالجهاد.
خامسًا:
الجيوش العسكرية العراقية كانت تُعاني دائمًا من عدم وجود قاعدة انطلاق متقدِّمة في أرض الشام، ولعلَّنا نذكر الأزمة التي وُضع فيها مودود عندما أَغْلَق رضوان حاكم حلب أمامه أبواب المدينة عندما جاء بجيوشه للجهاد ضدَّ الصليبيين.
سادسًا:
هناك فرصة كبيرة لانتقال علماء المسلمين من العراق، وخاصة من الموصل وبغداد، لإعادة بناء أهل حلب والشام عقائديًّا وفكريًّا؛ وخاصةً أن سيطرة الباطنية على الأمور في أعظم مدينتين بالشام وهما: حلب ودمشق، أدَّى إلى كثير من الاضطراب في مفاهيم الناس.
فهذه كانت بعض الفوائد من اتحاد الموصل مع حلب؛ ولذلك ظهر الاحتفال بهذه الخطوة واضحًا عند كل المسلمين المخلصين المعاصرين للحدث، كما ظهر ذلك -أيضًا- في كتابات المؤرِّخين، وما زال يظهر في تحليلاتنا إلى زماننا هذا، ولا شكَّ أن الوَحْدَة بصفة عامَّة أمر يدعو إلى الاحتفال والاهتمام.
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/230.
[2] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص211، 212، وابن العديم: زبدة الحلب 2/228.
د. راغب السرجاني