واقع الأمر أن الأراتقة المجاهدين الذين رأيناهم في قصة الحروب الصليبية بدءًا من سقمان بن أُرْتُق، ومرورًا بإيلغازي بن أُرْتُق، وانتهاءً ببلك بن بهرام كانوا جميعًا من القادة الناجحين الذين يقودون شعوبًا فاشلة!
والقائد الناجح العظيم يفشل إن كان جنوده أو شعبه من النوعية الفاشلة؛ فجيوش الأراتقة، بل وشعوبهم، كانت تتحرَّك في هذه المعارك بدافع الحصول على غنيمة أو مال، وبدافع تغيير مستوى المعيشة إلى أوضاع أفضل، وبهدف ترك المدن الصغيرة والقرى للسكنى في المدن العظيمة كحلب وحَرَّان؛ وهذه الجيوش لو انتصرت مرَّة أو مرتين لا يُكتب لها دوام النصر، ولو مُكِّنت في قطعة أرض أو مدينة، فإنه لا يُكتب لها دوام التمكين والسيادة؛ إذ سرعان ما تنهار عند أول أزمة تُنذر بضياع المال أو النفس.
ولذلك فلكي يُحَقِّق المسلمون نجاحًا دائمًا وتمكينًا مستمرًّا، واستقرارًا في دولتهم، وهيبة لا تهتزُّ عند الأزمات لا بُدَّ أولاً من تربية شعبٍ على معاني الجهاد وحبِّ الشريعة، وهذا الشعب هو الذي سيُخْرِج الجيش الفاهم والقائد الواعي؛ الذي يستطيع أن يُواصل مسيرة الجهاد الصعبة.
ولو راجعت قصص انتصار وتمكين خالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، وطارق بن زياد، وصلاح الدين الأيوبي، وسيف الدين قطز، ومحمد الفاتح، وغيرهم من الذين مُكِّنوا في الأرض ستجد أن شعوب هؤلاء كانت شعوبًا عظيمة، وتربيتهم كانت تربية راقية، ومستواهم الإيماني والأخلاقي كان متميِّزًا، وكفاءتهم العسكرية والسياسية والإدارية كانت عالية.
إنها منظومة متكاملة تُحَقِّق النصر في النهاية، ولا يمكن أن يتمَّ نصر متكامل مستمرٌّ لمجرَّد ظهور بطل متحمِّس، أو رجل يحبُّ الشهادة!
وواقع الأمر أننا لم نَرَ حتى الآن في قصة الحروب الصليبية مَنْ يتناول القضية بهذه الطريقة، إنما كان يتعامل المخلصون الذين ظهروا لنا في هذه القصة مع الموضوع بطريقة إدارة الأزمات، وبطريقة حكومة الطوارئ، التي تُحاول قدر استطاعتها بإخلاص الخروج من الأزمة، لكن دون تخطيط حقيقي لمستقبل البلاد، ودون وضع خطط واضحة لضمان سلامة البلاد لعشرات السنين المستقبلية.
وهذا ما يحزننا في زماننا الآن، عندما نرى المتحمِّسين لقضية فلسطين أو العراق أو غيرهما من الأقطار الإسلامية المحتلَّة يقصرون همَّهم ووسائل مساعدتهم على جمع المال والإمداد بالغذاء والدواء، بل والمطالبة بالذهاب إلى هناك للقتال والاستشهاد! وهذا -لا شكَّ- أمر مطلوب، ولكنه لا يكفي بمفرده؛ بل لا بُدَّ إلى جواره أن ننظر إلى المدى البعيد الذي نُفلح فيه في تكوين شعب، وفي تربية جيل يستطيع أن يُحَقِّق كل الآمال، فلا يكتفي بتحرير البلاد المحتلَّة فقط، ولكن يسعى إلى الاستمرار في الحفاظ على المكاسب، ويحرص على دوام التمكين؛ بل ويطمح في نشر دين ربِّ العالمين في كل ربوع الدنيا.
وما أعمق الكلمات التي كان يُحَفِّز بها رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبه أثناء فترة مكة، حين كان يُعلِي طموحاتهم، ويرفع من همَّتِهم، فلا يكتفي بفتح باب الأمل «باحتمالية» النجاة من اضطهاد أهل مكة؛ بل يُؤَكِّد ذلك ويتجاوزه إلى طموحات رائعة؛ حيث يقول: «وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»[1]. بل إنه يقول لهم في صراحة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ تُفْلِحُوا»[2]. وقال لعمِّه أبي طالب: «إِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً تَدِينُ لَهُمْ بِهَا العَرَبُ، وَتُؤَدِّي إِلَيْهِمُ العَجَمُ الجِزْيَةَ!». قال أبو طالب: كلمة واحدة؟! قال: «كَلِمَةً وَاحِدَةً». قال: «يَا عَمِّ يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»[3]. يقول هذا الكلام والمسلمون محاصَرون في مكة المكرمة، وهم بعيدون عن كل أسباب التمكين المادية!
لا بُدَّ إذن من وجود قوَّاد ومربِّين ومصلحين وعلماء يرفعون سقف أحلام المؤمنين، ويُعيدون تربية الشعب على أساس متين، يستخلص بوضوح من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك من سير المجاهدين المجدِّدين في تاريخ هذه الأُمَّة، والذين استطاعوا أن يُمَكِّنُوا للإسلام في الأرض.
ومع ذلك فإن مرحلة الأراتقة هذه كانت ضرورية، ولا بُدَّ أن نشكر جهودهم مع كونها كانت مؤقتة؛ إنهم حملوا الراية في زمان تخاذل الكثيرون عن حمل الراية، وداموا على الجهاد مع صعوبته، وألحقوا بعض الهزائم بالصليبيين منعتهم من التوسُّع الأكثر في بلاد المسلمين، ومهَّدُوا لمن يأتي من بعدهم ليُكمل المسيرة، وأنقذوا أرواحًا كانت من الممكن أن تزهق، وديارًا كانت من الممكن أن تهدم، ولعلَّهم لو ظهروا في زمانٍ اجتهد فيه مَنْ سبقهم في تربية الشعوب، وتعليم الناس، لكان لهم شأن آخر، ولكن الأمور تجري وفق مقادير الله!
[1] البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3416)، وأحمد (21110)، وأبو داود (2649)، وابن حبان (2897).
[2] أحمد (16066)، والحاكم (4219) وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والبيهقي (11424)، وابن خزيمة (159)، وابن حبان (6562)، وقال الهيثمي: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد 6/19، وأورده الألباني في صحيح السيرة النبوية 1/143.
[3] رواه الترمذي (3232)، وقال: حديث حسن صحيح. واللفظ له، والنسائي (11436)، وأحمد (2008).
د. راغب السرجاني