في أواخر سنة 515هـ وأوائل 516هـ= (1122م) كان هناك خليط من الأحداث المفرحة والمحزنة!
فقد حاصر بَلْك بن بهرام بن أُرْتُق -وهو ابن أخي إيلغازي- إمارة الرها، وكان بلك أميرًا على مدينة تُسَمَّى خَرْتَبِرْت بالقرب من إمارة الرها، ولم ينجح بلك في فتح الرها فانصرف بجنوده عن المدينة، فتبعهم جوسلين دي كورتناي بفرقة من فرسانه، ثم دار قتال بين الفريقين بعيدًا عن حصون الرها، فاستطاع بلك وأربعمائة فارس من فرسانه أن يُبيدوا الجيش الصليبي، بل وأفلحوا في أسر جوسلين دي كورتناي أمير الرها! وكان هذا الحدث المهيب في (516هـ= 13 من سبتمبر 1122م)[1].
لقد كانت مفاجأة رائعة لم يتوقَّعْهَا أحدٌ، خاصةً أن الفرقة التي كانت بصُحبة بلك كانت أضعف بكثير من فرقة الصليبيين.
ومع سعادة المسلمين بهذا الخبر؛ فإن الأخبار أتت سريعة بوفاة إيلغازي بن أُرْتُق بعد أقل من شهرين من أسر جوسلين، وكما كان متوقَّعًا فقد انهارت الإمارة الكبيرة التي كوَّنها إيلغازي الأرتقي! ولم يكن هذا الانهيار لحداثة إنشائها فقط؛ ولكن لأنها تأسَّست على أكتاف جيوش تبحث عن المال والثروة لا عن الجهاد والجنة! فكان طبيعيًّا أن تتقاتل هذه الجيوش بعد وفاة إيلغازي القويِّ، وذلك لتقسيم التركة الثمينة!
تقسيم البلاد:
وهكذا أخذ شمس الدولة سليمان بن إيلغازي إمارة مَيَّافَارِقِين؛ أي الجزء الشمالي من ديار بكر، وأخذ ابنه الثاني حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي إمارة مَارِدِين مع الجزء الجنوبي من ديار بكر، أمَّا بلك بن بهرام بن أُرْتُق ابن أخي إيلغازي فقد ظلَّ مسيطرًا على خَرْتَبِرْت ومعه صيده الثمين جوسلين، وأخيرًا حلب فإنها آلت إلى بدر الدولة سليمان بن عبد الجبار بن أُرْتُق، وهو ابن أخٍ آخر لإيلغازي[2].
وعند حدوث هذه التطوُّرات المؤسفة أسرع بلدوين الثاني ملك بيت المقدس -الذي أصبح وصيًّا على إمارة الرها، إضافةً إلى أنطاكية- لاستغلال الفرصة، وبدأ في مهاجمة إقليم حلب، واستولى فعلاً على البِيرَة شرق حلب، وسيطر على بعض المناطق في شمال وجنوب حلب، وبذلك صار مهدِّدًا لحلب ذاتها[3]، وكان بلدوين يعلم أن قوَّته في هذا الوقت لا تسمح بإسقاط حلب الحصينة، ولكنه كان يُريد أن يضغط على أميرها الضعيف سليمان بن عبد الجبار ليعقد معه صلحًا يُؤَمِّن جانبه؛ ومن ثَمَّ ينطلق إلى الخطير بلك بن بهرام؛ الذي أثبت كفاءته بهزيمة الصليبيين في الرها وأَسْرِ جوسلين نفسه! وبالفعل تحقَّق لبلدوين الخبيث ما أراد، وطلب سليمان الصلح مع بلدوين، بل وردَّ له حصن الأثارب[4]!
وهكذا انطلق بلدوين الثاني آمنًا ليُقابل بلك بن بهرام.
وفي صفر سنة 517هـ الموافق 18 من أبريل 1123م، وأثناء حصار بلك بن بهرام لقلعة صليبية جاء بلدوين الثاني بجيشه ليقابل جيش بلك عند موضع يُسَمَّى أورش، وكانت المفاجأة الكبرى أن استطاع بلك بن بهرام أن يهزم الصليبيين، بل ويأسر بلدوين الثاني ملك بيت المقدس[5]!!
وهكذا؛ وفي غضون سبعة أشهر فقط كان بلك بن بهرام بن أُرْتُق يُمْسِكُ في آنٍ واحد بملك بيت المقدس وأمير الرها!
لقد كانت صدمة هائلة للصليبيين!
ولعلَّ هذا الموقف من أشدِّ المواقف صعوبة على الصليبيين منذ وطئوا الأراضي الإسلامية، ويجب ألا ننسى أن بلدوين الثاني كان وصيًّا على إمارتي أنطاكية والرها بعد مقتل روجر الأنطاكي وأسر جوسلين دي كورتناي، ومعنى هذا أن الإمارات الثلاث أصبحت الآن بلا زعامة!
وذاع صيت بلك بن بهرام فجأة، وملأت أخباره الآفاق، وكان من السهل عليه الآن أن يُوَسِّع إمارته، وأن يسعى من جديد إلى توحيد الأراتقة، وقد أفلح فعلاً في ضمِّ حَرَّان، ثم أتبع ذلك بضمِّ حلب، بل وبدأ يُهاجم إمارة أنطاكية من مكانه الجديد في حلب.
ووضعت مملكة بيت المقدس على قيادتها أمير صيدا وقيسارية إيستاش جارنيه Eustache Garnier، ولكنه تُوُفِّي فجأة بعد ولايته بشهر أو نحو ذلك! وتولَّى بعده أحد قوَّاد بيت المقدس واسمه وليم دي بور، أمَّا إمارة أنطاكية فقد تولَّى قيادتها بطرك الكنيسة برنارد دي فالنس[6].
وكان بلك بن بهرام يحبس الأسيرين الثمينين في قلعة حصينة في معقله الأساسي خَرْتَبِرْت، وانتهز فرصة الضعف الصليبي وانعدام التوازن المفاجئ وبدأ في مهاجمة المناطق المحيطة بحلب، واستطاع فعلاً السيطرة على البارة غربي معرَّة النعمان، ثم اتجه لحصار كفرطاب[7].
ثم جاءت المفاجأة المؤسفة أثناء حصار كفرطاب أن هناك مؤامرة نُفِّذت من قِبَل سكان منطقة خَرْتَبِرْت النصارى، واستطاعوا بها أن يُحَرِّروا الأسيرين في لحظة واحدة[8]؛ وذلك في ظلِّ غياب معظم الجيش المسلم للمعارك المتتالية في منطقة حلب، فعاد بلك بن بهرام بسرعة إلى خَرْتَبِرْت، وفاجَأَ الفرقة التي تُصاحب الأميرين الأسيرين، واستطاع أن يُعيد أسر الملك بلدوين الثاني، بينما أفلح جوسلين دي كورتناي في الفرار بعد عامٍ كامل من الأسر[9]!
وخشي بلك بن بهرام أن يتكرَّر الأمر مع بلدوين الثاني فنقله إلى قلعة حصينة في مدينة حَرَّان؛ ليكون بعيدًا عن المدن ذات الكثافة النصرانية، وبعيدًا -أيضًا- عن جيوش الصليبيين، ثم أعاد نقله بعد ذلك إلى قلعة أشد حصانة في حلب[10].
واستأنف بلك بن بهرام جهوده في قتال الصليبيين، وانتصر عليهم في مَنْبِج شمال شرق حلب، إلا أنه أصابه فجأة سهمٌ طائش لا يُعْرَف مصدره، فسقط شهيدًا[11]!!
لقد حدث ذلك في ربيع الأول 518هـ الموافق 6 من مايو 1124م ليفقد المسلمون عَلَمًا مهمًّا من أعلام الجهاد في هذه المرحلة، ولتحدث المشكلة نفسها التي عانى منها المسلمون بعد وفاة إيلغازي؛ إذ تقطَّعت إمارته بين الوارثين!
[1] ابن العديم: زبدة الحلب 2/206، Matthieu d`Edesse, p. 131.
[2] ابن العديم: زبدة الحلب 2/209.
[3] Setton: op. cit., 1, 418.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/221، وابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص209.
[5] ابن العديم: زبدة الحلب 2/211.
[6] Matthieu d`Edesse, p. 133 & Foucher de Chartres, p. 540.
[7] ابن العديم: زبدة الحلب 2/213.
[8] Runciman: op. cit., ll, pp. 163-164.
[9] Foucher de Chartres, p. 457.
[10] ابن العديم: زبدة الحلب 2/213.
[11] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/227.
د. راغب السرجاني