مع صبيحة يوم الاثنين 17 أكتوبر الحالي، بدأت رسمياً معركة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. حظيت التحضيرات اللوجيستية والتعبوية لتلك المعركة، باهتمام إعلامي كبير، إقليمياً وعالمياً.
وربما كانت التصريحات السجالية العدائية المتبادلة، بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ورئيس الوزراء العراقي حيدر عبادي، من أبرز الظواهر الإعلامية التي ارتبطت بإعدادات وتحضيرات تلك المعركة.
وصف كثيرون من المتابعين تلك السجالات بأنها نوع من أنواع الصراع المذهبي السني-الشيعي، ذلك الصراع العنيف الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ أعوام عدة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الصراع الذي تدور رحاه في العراق، يقتصر على كونه صراعاً مذهبياً فحسب، أم أن له جوانب أخرى متوارية؟
الحقيقة، أنه يمكننا أن نزعم أن هناك نوعاً من الصراع الإثني - العنصري، الذي يدور في العراق، بين العنصر الفارسي والعنصر التركي.
فمعروف أن حيدر عبادي، رغم أصوله العربية، من أكثر المؤيدين للهيمنة الإيرانية، وإيران هي الحليف الأقوى له في معركته ضد داعش، وأن قاسم سليماني، قائد الحرس الثوري الإيراني، هو القائد الفعلي لقوات الحشد الشعبي.
المعركة إذن، في الواقع، بين إيران وتركيا. فهما القوتان الإقليميتان الأكثر قوة، اللتان سوف تحددان مستقبل معركة الموصل، بل مستقبل العراق كله. يحاول هذا المقال أن يقدم صورة مبسطة لتاريخ الصدام الفارسي التركي على العراق.
الفرس والأتراك ودولة الإسلام
يُعتبر الفرس والأتراك من الشعوب المهمة في منطقة الشرق الأوسط، في حجم تأثيرهما في الأحداث التاريخية، وإمكانياتهما المادية والبشرية الهائلة، التي أتاحت لهما الفرصة في تغيير مجرى الأحداث في تلك البقعة الملتهبة في العالم.
وربما كان الرابط التاريخي الأكثر قوة بين الشعبين، هو الدين الإسلامي. ففي القرن الأول الهجري، ومع حركة الفتوحات العربية الإسلامية السريعة في آسيا، تم فتح بلاد الفرس، والاستيلاء على بعض الأراضي التركية.
في تلك الفترة المبكرة من عمر الإسلام، كان العنصر العربي هو الذي يفرض كلمته ويوجه دفة الدولة الإسلامية. أما بقية الشعوب الخاضعة للحكم العربي، فكانت منزوية في أراضيها، ولا تطمع في ما هو أكثر من فرصة مناسبة للحياة والعيش في أمن وسلام.
ولكن مع ظهور الدولة العباسية عام 132هـ، ظهرت قوة العنصر الفارسي. فبحسب ما أورده كل من الطبري وابن الأثير والمسعودي، كان الفرس عماد الثورة العباسية ومعدنها الأصيل، وأدى ذلك إلى أن حل الفرس محل العرب في تصدر المشهد السياسي للدولة، فظهر منهم الوزراء والكتاب ورجال الدولة والقادة العسكريين من أمثال أبو مسلم الخرساني، والبرامكة والحسن بن سهل
ولم يمر الكثير من الوقت، حتى انقلبت الأوضاع مرة أخرى، فاعتمد الخليفة العباسي المعتصم بالله على العنصر التركي، اعتماداً كاملاً، واتخذ منهم الجند والقادة، وبنى مدينة مخصصة لهم، هي مدينة سامراء، بحسب ما جاء في كتاب المعارف لابن قتيبة الدينوري.
العلم الفارسي والقوة التركية
وقد تفرد كل عنصر من العنصرين، بعدد من السمات والملامح المميزة. فقد عُرف الفرس بالعلم وحب المعرفة، وأشار لذلك ابن خلدون في مقدمته بقوله: "وأما الفرس، فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً، ونطاقها متسعاً، لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك”.
أما الترك، فتميزوا بالقوة والشجاعة، والتفوق في فنون الحرب وأساليب القتال، حتى قال الجاحظ في رسائله إن الأتراك في الحرب كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب في ما عددنا ونزلنا، وكآل ساسان في الملك والرياسة.
وظهر عدد من الأحاديث المنسوبة إلى الرسول، التي حاولت أن تؤصل لتلك الصفات في الفرس والأتراك. من ذلك ما جاء في تاريخ ابن خلدون: "لو تعلّق العلم بأكناف السّماء لناله قوم من أهل فارس". وما ورد في سنن أبي داود:"أتركوا الترك ما تركوكم"، لتبيان قوتهم وبأسهم في القتال.
كان العنصران إذن فرسَي السباق في العالم الإسلامي. ففي حين أنجبت بلاد فارس العلماء والفقهاء والمؤرخين والفلاسفة، من أمثال البخاري ومسلم والترمذي، والرازي وابن سينا، كانت بلاد الترك تقدم المقاتلين والجند الأشداء، والقادة العسكريين العظام، من أمثال طغرلبك وألب أرسلان وعثمان الأول.
الصدام الفارسي التركي
وكما هو متوقع، أدت تلك المواهب والمميزات المختلفة بين الطرفين إلى نشوء حالة من الحسد الممزوج بالترفع. فبدأ الصراع الفارسي-التركي، وسرعان ما ارتفعت وتيرته مع حالة الضعف العباسي، واضمحلال العنصر العربي بشكل عام، فتبادل الطرفان السيطرة على مقاليد الأمور وزعامة العالم الإسلامي.
اعتاد الفرس، الذين كانوا أكثر تحضراً ومدنية، على وصف الأتراك بصفات الهمجية والتخلف، فكانت العادة قد جرت منذ وقت بعيد، أن الهجرات التركمانية الآتية من وسط آسيا إلى إيران، تحدث معها الكثير من مظاهر الخراب والدمار. ويؤكد الدكتور عبد الوهاب عزام في كتابه "الصلات بين العرب والفرس" أن اسم الترك في الفارسية أصبح علماً على الجور والبطش والظلم، فتم اشتقاق عدد من الألفاظ التي تدخل فيها كلمة ترك، وتعبر عن العنف مثل "تركتاز" التي تعني الغارة التي يكثر فيها الخراب والدمار، وكلمة "تركي" بمعنى الظلم والعدوان، وكلمة "كردن" بمعنى الظلم والإيذاء.
وتعبّر بعض الروايات عن سوء معاملة الأتراك للفرس، إبان عصر احتلال السلاجقة الأتراك لإيران. ومنها، تلك الرواية التي يذكرها المؤرخ الإيراني الأصل فرهاد دفتري، في كتابه "الإسماعيليون في العصر الوسيط". وتقول تلك الرواية، إنه في أحد الأيام، شاهد السلطان السلجوقي التركي ملكشاه أحد الصبية الفرس وهو يبكى في الطريق، فسأله عن سبب بكائه، فقال له الفتى إنه اشترى بطيخة بعدة دراهم ليبيعها، وينفق على أهله من ربح البيع، لكن أحد الجنود الأتراك سرق منه البطيخة، فكان رد فعل ملكشاه، بعد أن سمع تلك القصة، أنه أخذ يضحك أمام نظرات الفتى الفارسي البائسة.
العراق: ماذا يعني للطرفين؟
للعراق مكانة خاصة عند كل من العنصرين الفارسي والتركي، فكل منهما خطط دائماً للتوسع في الأراضي العراقية، إبان فترات قوته وازدهاره. فعلى سبيل المثال، سارع ملوك بني بويه القادمون من إيران، لفرض سيطرتهم على العراق في بدايات القرن الرابع الهجري، وعلى الجانب الآخر، فإن السلاجقة، الذين قدموا بعد البويهيين، عملوا على احتلال العراق، بعد أن خرجوا من منطقة ما وراء النهر في القرن الرابع الهجري.
كان العراق إذن هو المبتغى والهدف الذي يريده كل من الطرفين. فالعراق كان مقر الخلافة العباسية، التي تمثل السلطة الرسمية المعترف بها في العالم الإسلامي. والخليفة العباسي، وإن كان قد فرض سيطرته المادية، فكانت لا تزال في يده بعض السلطات الروحية، لذلك سعت القوى الفارسية والتركية للسيطرة عليه، لأنها بذلك تحصل على الشرعية اللازمة للاستحواذ على جميع الأراضي الإسلامية التي قد تطولها أيديهما.
وفي الوقت نفسه، كان العراق هدفاً استراتيجياً مهماً لا يمكن الاستغناء عنه أو التضحية به، فاستيلاء الفرس عليه يعني قربهم من بلاد الشام والبحر المتوسط، بكل ما يحمل هذا القرب من أحلام التجارة والربح السريع. أما سيطرة الترك على العراق، فكانت تعني إحكام القبضة على الأملاك الإسلامية الآسيوية، وتأمين بلاد الشام وحمايتها.
الصفويون والعثمانيون... أخطر مراحل الصدام
وعلى الرغم من كثرة المحطات الصدامية، التي وقعت ما بين الفرس والأتراك، على طول التاريخ الإسلامي الطويل، إلا أن المواجهات التي جرت بين الإمبراطوريتين الصفوية والعثمانية، تعتبر أهم تلك المحطات، وأكثرها عنفاً ودموية وتأثيراً في حاضر ومستقبل منطقة الشرق الأوسط. ففي أوائل القرن السادس عشر الميلادي، ظهرت قوة فارسية جديدة في إيران هي الدولة الصفوية.
وعمل الصفويون على تحويل انتماء غالبية أهل فارس إلى المذهب الشيعي الإثني عشري، وبدأت أطماعهم التوسعية تصطدم بالنفوذ العثماني التركي الذي يمتد إلى العراق وديار بكر.
في الحقيقة، إن خطورة الصدام الصفوي - العثماني، لم تقتصر على كونه صداماً معتاداً ومتكرراً بين الفرس والأتراك، بل إن ذلك الصدام الجديد قد اصطبغ منذ البداية، بصبغة من العداء والتعصب المذهبي الواضحين. ففي الوقت الذي كان فيه الصفويون يحملون راية التشيع الإمامي، كان العثمانيون يتعصبون أيضاً لمذهبهم السني الأشعري.
وكانت أول مواجهة تقع بين الطرفين، هي الصدام في معركة “جالديران" بالقرب من أذربيجان في عام 1514هـ، والتي انتصر فيها السلطان العثماني سليم الأول على العاهل الصفوي إسماعيل. ومع الانتصار العثماني، تم فرض السيادة التركية على العراق كله، وانحسر نفوذ الصفويين بعيداً عنه.
وتجددت المواجهات مرة أخرى في عهد السلطان سليمان القانوني، فجرى عدد من المعارك بينه وبين العاهل الصفوي طهماسب. ورغم أن معظم تلك المعارك، انتهى لصالح العثمانيين، إلا أن الصفويين كانوا يشكلون قلقاً بالغاً للدولة العثمانية المنشغلة بتوسعاتها الأوروبية، ما استدعى أن يتم عقد معاهدة بين الطرفين. ففي عام 1555م، جرى عقد معاهدة "أماسيا"، وبموجبها رُسمت الحدود بين الدولتين.
لم تضع تلك المعاهدة حداً للصراع بين القوتين، فقد استمر الصدام الصفوي-العثماني حتى نهاية الدولة الصفوية في عام 1736م. وتظهر أهمية تلك المرحلة الصدامية تحديداً في التاريخ الفارسي - التركي، بما يورده الدكتور محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ الدولة الصفوية"، بأن الصفويين صبغوا إيران بصبغة خاصة لا تزال آثارها إلى يومنا هذا. فببساطة، تحولت الحرب الفارسية - التركية إلى حرب مذهبية دينية خالصة، وتوارت جميع النزاعات الإثنية والقومية جانباً.
ومن الآثار الجانبية المهمة، التي نتجت عن الحروب الصفوية - العثمانية، أن الأتراك عجزوا عن استكمال فتوحاتهم الأوروبية. فبحسب ما ينقله الدكتور محمد عبد اللطيف هريدي، في كتابه "الحروب العثمانية الفارسية"، فإن الهجوم الصفوي المفاجئ على العراق، أدى لفك الحصار العثماني الذي ضربه سليمان القانوني على فيينا عام 1532م.
والسؤال الذي يطرح نفسه حالياً، هل يتمسك الأتراك بإرثهم التاريخي في العراق، أو يتركون الملعب كاملاً، لينفرد به الإيرانيون وحلفاؤهم؟
وهل هناك فرصة حقيقية، لعقد معاهدة تهدئة شبيهة بمعاهدة "أماسيا"، أم أن المناخ السياسي العام، والأوضاع المتوترة، لن تسمح إلا بقرع طبول الحرب واستمرار الحالة الصدامية العدائية المتوارثة؟