لقد ذكرنا أنه بمقتل بدر الدين لؤلؤ المتصرِّف في أمور حلب خلت الساحة السياسية في هذه الإمارة المهمَّة؛ ومن ثَمَّ تَوَجَّه أعيان البلد وفقهاؤها إلى إيلغازي بن أُرْتُق أمير مَارِدِين وسَلَّموه المدينة، ولاحظ أمير أنطاكية روجر أن المدينة تمرُّ بفترة ضعف شديدة؛ ومن ثَمَّ قرَّر أن يغزو المدينة ويضمَّها إليه، ووصلت الأخبار بهذا التحرُّك الصليبي إلى إيلغازي، فقرَّر أن يجمع المجاهدين من هنا وهناك ليُدافع عن مدينة حلب، ولقد استطاع إيلغازي أن يكوَّن حلفًا قويًّا مع أمير دمشق طُغْتِكِين الذي وافق على جهاد الصليبيين، وهذا يُثبت أنه لم يكن مواليًا لهم حبًّا فيهم، ولكن ضعفًا وقلة حيلة بعد مقتل مودود، وانضمَّ كذلك إلى الحلف أمير شيزر سلطان بن منقذ الذي طالما شارك في الحملات الجهادية منذ أيام مودود.
كوَّن إيلغازي بن أُرْتُق جيشًا قويًّا وسار به في اتجاه أنطاكية، وعند سهلٍ قريب من أرتاح باغت الجيشُ الإسلامي جيشَ أنطاكية وطوَّقه من كل جانب!
كان الجيش الإسلامي مكوَّنًا من عشرين ألف مقاتل، بينما كان جيش أنطاكية يقترب من خمسة آلاف جندي بين فرسان ومشاة[1]، وكان روجر قد أرسل رسالة استنجاد إلى بلدوين الثاني ملك بيت المقدس الجديد الذي وعد بالقدوم ومعه بونز أمير طَرَابُلُس[2]، إلا أنَّ المباغتة الإسلامية كانت بفضل الله قبل وصول الإمدادات الصليبية.
تمَّت في هذا المكان الموقعة الشهيرة في تاريخ الحروب الصليبية، وهي موقعة البلاط ، وذلك في شهر ربيع الأول 513هـ= 28 من يونيو 1119م، وفي هذه الموقعة أُبيد الجيش الصليبي بكامله، وقُتل الأمير روجر الأنطاكي[3]، وأطلق الصليبيون على مكان المعركة اسم «ساحة الدم» لكثرة قتلاهم فيها[4]"!
نتائج المعركة:
لقد كان انتصارًا مجيدًا بكل المقاييس، أدَّى إلى كثير من النتائج المهمَّة في هذه الفترة؛ وكان من هذه النتائج الآتي:
1- أعادت هذه الموقعة الهيبة للمسلمين، والثقة إلى نفوس المحبطين، وشعر المسلمون أن الأمل ما زال باقيًا في إعادة التوازن إلى الأُمَّة الإسلامية.
2- هُزم الصليبيون هزيمة نفسية كبيرة؛ أثَّرت في حركتهم لعدَّة سنوات.
3- دخلت حلب دخولاً رسميًّا بعد هذه الموقعة في حكم الأراتقة، ولمدَّة ست سنوات كاملة.
4- فَقَدت أنطاكية أميرها روجر في وقتٍ ليس فيه بديل أو وريث؛ لأن بوهيموند الصغير ما زال في إيطاليا؛ ومن ثَمَّ وضع بلدوين الثاني يده على الوصاية على إمارة أنطاكية، وبدأ في تنظيم أمورها بمساعدة بطرك أنطاكية برنارد دي فالنس[5].
5- علا نجم إيلغازي بن أُرْتُق في ساحة الجهاد ضدَّ الصليبيين، وجاءته التشريفات من الخليفة العباسيّ الجديد المسترشد بالله، ونَظَم الشعراء قصائدهم في مدحه، وعلَّق كثيرٌ من المسلمين الآمال عليه؛ وهذا دفعه إلى تجديد الصدام مع الصليبيين في عدَّة مواقع بعد ذلك، كان له النصر في بعضها والهزيمة في أخرى، وإن لم تكن هذه المواقع على مستوى موقعة البلاط المشهورة[6].
تلخيص موجز:
إذن نستطيع أن نُلَخِّص الموقف في سنة (513هـ= 1119م) في النقاط السريعة الآتية:
1-مملكة بيت المقدس تحت زعامة بلدوين دي بورج الملقَّب ببلدوين الثاني.
2-إمارة الرها تحت زعامة جوسلين دي كورتناي.
3-إمارة أنطاكية تحت وصاية بلدوين الثاني انتظارًا لوصول بوهيموند الثاني إلى سنِّ الرشد، وقدومه من إيطاليا.
4-إمارة طَرَابُلُس تحت زعامة بونز بن برترام.
5-إمارة حلب تحت زعامة إيلغازي بن أُرْتُق الذي تزعَّم حركة الجهاد ضدَّ الصليبيين في هذه الفترة.
6-إمارة دمشق تحت زعامة طُغْتِكِين الذي عاد من جديد يحارب الصليبيين، ولم يكتفِ بالصدام مع إمارة أنطاكية، بل بدأ يصطدم جنوبًا مع مملكة بيت المقدس.
7-إمارة الموصل تحت زعامة جيوش بك التابع للسلطان محمود، وإن كان الملك مسعود أخو السلطان محمود يعيش في الموصل، وقام بصدامٍ ضد أخيه بمساندة جيوش بك بغية الانفصال بالموصل.
8-السلطان محمود هو الزعيم الرسمي للسلاجقة الآن، ولكنه مشتَّت في الصراعات الداخلية.
9-الخلافة العباسية أصبحت بيد المسترشد بالله، وهو خليفة له طموح ملموس في الخروج من سيطرة السلاجقة.
10-الإمبراطورية البيزنطية الآن تحت حكم يوحنا بن ألكسيوس كومنين، وقد التزم بسياسة أبيه نفسها؛ لذا لم يكن للإمبراطورية تدخُّل يُذكر في أمور الصراع الإسلامي الصليبي في هذه الفترة.
وهكذا فالصورة العامة في هذه الفترة كانت إيجابية نسبيًّا، وإن لم يكن العزم على قتال الصليبيين وتحرير البلاد أمرًا عامًّا في كل التوجُّهات، ولن يكون كذلك إلا بعد 8 سنوات؛ وذلك عندما تظهر شخصية تتبنَّى القضية، وتجعلها محورَ حياتها!
وهذا ما نستعرضه في المقالات القادمة بإذن الله تعالى.
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/185.
[2] ابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص200، 201.
[3] ابن العديم: زبدة الحلب 2/188، Guillaume de Tyr, pp. 525-526.
[4] سعيد عاشور: الحركة الصليبية 1/405.
[5] Stevenson: op. cit., p. 104.
[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/186،194 ومما قيل في إيلغازي من شعر:
قل ما تشاء فقولك المقبول *** وعليك بعد الخالق التعويل
واستبشر القرآن حين نصرته *** وبكى لفقد رجاله الإنجيل.
د. راغب السرجاني