التنوع الحضاري وأثره في تطور فنون العمارة الإسلامية
شهدت العمائر الإسلامية، منذ ظهور أولى العناصر المعمارية الأساسية، لأول مسجدٍ في الإسلام بصورته التي جاء عليها المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة، تطوراً نوعياً كبيراً، لاسيما بعد أن أخذت رقعة البلاد الإسلامية بالاتساع وانضمام أمم وشعوب ذات حضارات عريقة وراقية إلى الإسلام وانضوائها تحت رايته. وقد أدّى كل ذلك إلى رفد فن العمارة الإسلامية بمعطياتٍ وعناصر ومفردات جديدة ساهمت، عبر مراحل، في دفع تطور فنون وأساليب العمارة في بلدان العالم الإسلامي إلى مستويات رفيعة ومعطاءة من النواحي الفنية والجمالية والتراثية.
إن الإسلام خلال نصف قرن من انطلاقه، دخل إلى أقدم مراكز الحضارات البشرية، بدءاً من وادي الرافدين، والإمبراطورية الساسانية، ومصر، وبيزنطة حيث التراث الإغريقي والروماني، إلى سورية حتى شمال أفريقيا وأسبانيا أيضاً. إن هذا الانتشار الواسع،هو تحول تاريخي وحضاري مهم في حياة البشرية.
لقد استوعبت فنون العمارة الإسلامية التي نشأت وظهرت، في أقل من قرن بعد الهجرة، روافد هذه الحضارات، لذلك تأثر العرب المسلمون الفاتحون بالقيم الجمالية لفنون تلك الحضارات العريقة، فاتجهت عنايتهم إلى الاهتمام بعمارتهم وتزيينها بمختلف أنواع العناصر والمفردات المعمارية الهندسية منها والزخرفية، مما أكسبها مظهراً جمالياً يتناسب مع أهمية الدور الذي تقوم به هذه العمائر.
وعبر قرون عديدة تطور فن العمارة الإسلامية وشمل مناطق جغرافية امتدت من الأندلس والمغرب غرباً، إلى آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية شرقا. وكانت هذه المناطق تضمّ عدداً من المراكز الإقليمية التي تميّز كل منها بطابع خاص كان مؤثراً على الدوام. وتضم هذه المناطق شعوباً إسلامية ذات أصول عرقية عديدة وهي: العرب والفرس والأتراك والبربر والهنود.
إن ما نشاهده اليوم من معالم الحضارة الإسلامية من جامع دمشق إلى جامع قرطبة، ومن مساجد أصفهان البراقة وروائع العمارة الاسلامية في سمرقند وبخارى، إلى مسجد السليمانية في استانبول، ومن الأضرحة الشبيهة بالجواهر واللآلئ، كأضرحة أئمة أهل البيت عليهم السلام في النجف وكربلاء والكاظمية وسـامراء في العراق، ومشهد وقم في إيران، الى تاج محل في الهند، وقصر الحمراء في غرناطة... هذه المباني بكل ما فيها من فنون جديدة بقبابها ومآذنها وعقودها وزخارفها وطابعها المعماري المميز، أضفَت مظاهر جديدة على عناصر مأخوذة عن كل الثقافات والأشكال الفنية القديمة الراقية.
إن أبرز ماظهر في فنون عمائر المدن الإسلامية هو تشكيل العناصر المعمارية الجديدة، وابتكار التعبيرات والمفردات الفنية. وجاء هذا نتيجة استفادة المسلمين العرب من فنون عمائر الشعوب التي دخلت الإسلام. فاقتبس العرب من الفنون الأخرى ما وجدوه مناسباً للحضارة الإسلامية ويتفق مع تقاليدها وعاداتها، فاستلهم الفنانون المسلمون من فنون حضارات وادي الرافدين القديمة المباني ذات الجدران الخارجية الضخمة العالية المزينة بزخارف آجرية متنوعة، وكذلك بعض الأشكال المعمارية كالزقورات البابلية التي تركت آثارها على المآذن في العهد العباسي، كمئذنة جامع المتوكل (ملوية سامراء) في العراق، ومئذنة جامع بن طولون في القاهرة، ومئذنة جامع أبي دُلف في سامراء أيضاً.
ومن فنون العمائر الساسانية اقتبست الأواوين الواسعة التي تعلوها القباب وتحيط بالصحن (الفناء المكشوف)، والعقود نصف الدائرية العالية التي تعلو القاعات الضخمة كما هو في المسجد الجامع في أصفهان. وهذا النوع من البناء يختلف كلياً عن المباني ذات الأروقة والمجازات كما هو متبع في العراق وبلاد الشام وسواهما من البلدان الواقعة في غرب البلاد الإسلامية.
وقد تأثرت معظم المباني التي شيّدت في بداية العصر العباسي بعناصر ومفردات فنون العمائر الساسانية المشيدة في إيران والعراق إبان فترة الحكم السـاسـاني، كالإيـوان الكبير، والبهـو الكبير المغطى بعقود نصف دائرية، وبالخصوص في قصر الخليفة العباسي المعتصم في سـامراء الذي بُني سـنة 221هـ (836م) وكذلك قصر الأخيضر بالقرب من كربلاء الذي أنشئ في الصدر الأول للإسلام. بالإضافة إلى الاستفادة من الأسلوب المعماري الذي كان سائداً في عمائر بلاد وادي الرافدين.
كما أن هناك عنصراً معمارياً أساسياً آخر يعتبر أحد عناصر فنون العمارة الإسلامية المميزة أخذ عن العمارة الساسانية وانتشر في دول إسلامية عديدة، وحُلّت به مشكلة الانتقال من المبنى ذي القاعدة المربعة إلى القبة نصف الدائرية التي تعلوه. حيث استخدمت الحنيات الركنية وهي مثلثات مقعرة من الحجر أو الآجر مع الجص. ويختلف هذا عن مثلث القبة الذي ينتقل من المربع إلى الدائرة بالأقواس أو بمثمن الأضلاع، وهو الذي نشاهده في الآثار البيزنطية والرومانية.
أما ما أخذه فن العمارة الإسلامية من الطراز المعماري التركي والمتأثر بالطراز البيزنطي، فهو المباني ذات التصاميم الدائرية الشكل والتي تحتوي على جزء مركزي كبير تعلوه قبة هائلة الحجم تجتمع حولها قبب متتابعة أصغر حجماً منها وبأحجام مختلفة، واستطاع العديد من المعماريين الأتراك أن يطوروا هذا النمط من البناء، خصوصاً المهندس الكبير سنان باشا، الذي جعل من المبنى البيزنطي (آيا صوفيا) نموذجاً معمارياً بعد أن أدخل عليه ابداعاته الهندسية وأصبح منطلقاً ونموذجاً لإنشاء العديد من المباني والمساجد في تركيا وخارجها.
أما فنون الزخرفة الهندسية والنباتية في العمارة الإسلامية فقد تطورت تطوراً كبيراً بفضل تداخل مفردات وعناصر زخرفية لعمائر مختلفة، بحيث شمل هذا التطور جميع الأشكال المعروفة، مبسطة أو مركبة، متداخلة أو متشابكة، وأصبحت تتمثل فيها كل صور الجمال الفني المعماري. وقد تأثر العديد من المباني الإسلامية بهذا الفن الرفيع الذي كان سائداً قبل الإسلام في وادي الرافدين وبلاد فارس ومناطق أخرى.
وقد صُنعت من الآجر أشكال لوحدات زخرفية أو أقسام تؤلف، في حالة رصفها هندسياً، أشكالاً وزخارف هندسـية ونباتية رائعة. وكذلك بعض الكتابات وأنواع الخطوط وخصوصاً الخط الكوفي الجميل الذي استعمل بكثرة على شكل زخارف لكتابة الآيات القرآنية الكريمة. ومن أمثلة المباني الإسلامية التي اشتهرت بفنون زخارفها الآجرية الجميلة، المدرسة المستنصرية التي شيّدت عام 631هـ (1234م)، وتعد من أشهر المباني القائمة اليوم في بغداد منذ العصر العباسي.
أما الزخارف الجبصية في تزيـين الجدران فقد وجدت في آثار المباني العباسية في سامراء، وخاصة الهندسية منها والنباتية. وجاء قسم منها على شكل عناقيد من العنب وأوراقها. وقد اقتبست هذه الزخارف من الفنون السـاسـانية والبارثـيـة. وقد ظهرت أيضاً في مسجد ابن طولون في القاهرة الذي شيّد عام 265هـ (879م).
أما عهدالسلاجقة 447 – 553هـ (1055 – 1157م) فقد تميز أيضاً باستخدام الجبص في زخرفة مساحات كبيرة من جدران المساجد. وهذه الزخارف تتكون من نقوش كتابية وتوريقات نباتية. وقد وجدت نماذج جميلة لحروف كوفية تنتهي بتوريقات كما هو في مسجد حيدرية بمدينة قزوين في إيران.
أما الزخارف الحجرية، فهناك أمثلة عديدة تبين أن الفن الإسلامي تأثر بالفنون البيزنطية والهيلينية والساسانية في اقتباسها. وكمثال على ذلك واجهة قصر المشتى التي تزخر بمثل هذه النقوش الجميلة،فمعظم هذه الزخارف كانت مستخدمة في الفن المسيحي قبل الإسلام في سوريا.
وقد تأثر الفاطميون عند حكمهم لمصر بفنون العمائر القبطية والفارسية كما هو واضح في الزخارف التي استخدموها في تزيين عمائرهم ومنها الزخارف النباتية والحيوانية والخرافية، والتي كانت تستخدم في بلاد فارس قبل الإسلام.
ومن أهم فنون العمارة البيزنطية التي تأثر بها المعماريون في العهد الأموي فن زخارف الفسيفساء الحجرية في تزيين أرضيات المباني، والفسيفساء الزجاجية الملونة والمذهبة في زخرفة الجدران. ولقد ازدهر هذا الفن في ذلك العهد بشكل كبير، وما زالت آثاره شاخصة إلى يومنا هذا وخاصة في الجامع الأموي الكبير بدمشق، والذي جُدّد بناؤه في عهد الوليد بن عبد الملك بين عامي (88 – 96هـ) (707 – 714م). وقد زينت بعض نوافذه بأجمل الزخارف التي تعكس تأثرها بالفن الإغريقي والروماني.
أما قبة الصخرة في القدس الشريف التي شيّدت في عهد عبد الملك بن مروان عام 72هـ (692م)،فنجد أن زخارفها شبيهة بالفسيفساء الموجودة في الجامع الأموي بدمشق وهي مقتبسة من الفنون الإغريقية والبيزنطية مع عناصر من الفن الهيليني والساساني، وخاصة الفسيفساء التي زيّنت بها القبة.
ومن العناصر والمفردات التي تميزت بها العمارة الإسلامية أيضاً هي الزخرفة الكتابية. فقدتفنّن بها الفنان المسلم، واتخذها أداة لإضفاء سمات جمالية، حيث أصبحت هذه الزخرفة تتضمن الخطوط بكافة أنواعها، سواء على سطوح الجدران أو القباب أو في الأقواس والمآذن والشرفـات. ولم تلبث أن تطورت وتنوعت، ثم تداخلت معها الأزهار والفروع النباتية. وقد أثارت الكتابة العربية، كعنصر زخرفيّ، إعجاب الفنانين في أسبانيا وفرنسا، الذين اتخذوا من حروفها أداة لتزيين كنائسهم ومبانيهم. وقد تجلت هذه الفنون في واجهة كاتدرائية نوتردام.
إن استعمال الخط قد اكتشف منذ القدم. وظهر لأول مرة في التاريخ أيام السومريـين في بلاد وادي الرافدين. وقد تبـيّن بأنّ للحروف قيماً جمالية ولها إمكانية في تشكيل لوحات فنية بديعة. لذلك استخدم الخط بكافة أنواعه، كوسيلة للتعبير والتزيين وخاصة في العصر العباسي في عمائر سـامراء وبغداد والمدن الإسلامية الأخرى في مجال زخرفة البـنـاء.وكان أحد أهم مفردات العمارة الإسلامية على مرّ العصور. فقد استعمل بطرق وأشكال هندسية مختلفة أضفت على المباني طابعاً معمارياً مميزاً. كما ساهمت الخطوط بأنواعها – وخصوصاً الخط الكوفي – في تعميق الهوية الإسلامية المشتركة وتوظيف التراث واستخدامه بطريقة فنية معاصرة.
وتعتبر المقرنـصـات من أبرز سمات الزخرفة المعمارية الإسلامية، وأكثرها روعة. وهي عبارة عن زخرفة تتألف من حنيات بارزة مصفوفة تغطي مناطق الانتقال بين المسطحات الأفقية والرأسية.وتتكون من بناء حقيقي أو تنفذ بـإضافـات من الجبص أو مواد أخرى. وقد تزوّد بدلايات تتعلق بقممها بحيث تصبح أشبه بالرواسب الكلسية المتدلية من أسقف بعض المغارات والكهوف. وتسـتخدم المقرنـصـات على وجـه الخصوص في مناطق الانتقال في القباب والبوابات وأسفل شرفات المآذن وغيرها. ومن أجمل المقرنصات الظاهرة للعيان هي مقرنصات القصر العباسي (المدرسة الشرابية) في بغداد، وكذلك مقرنصات الأضرحة المقدسة في العراق وإيران.
وقد استخدمت المقرنصات الحجرية في زخرفة أسطح الجدران وخاصة في العهدين الفاطمي والمملوكي في مصر. ويوجد هذا النوع من الزخارف غالباً في رقبة القبة من الداخل، وفي الجزء العلوي من المدخل. ومن الأمثلة على ذلك مدخل مدرسة « السلطان حسن » في القاهرة.
وهناك أسلوب مميز هو زخرفة القباب من الخارج بالمقرنصات التي استخدمت لمجرد الزخرفة والتزيين.وتظهر منها أمثلة في قبة المدرسة النورية بدمشق، وقبة الست زبيدة في الكرخ وقبة الشيخ عمر السهروردي في الرصافة في بغداد.
أما البلاطات الإسلاميـة (القـاشـاني) واستعمالاتها في تزيين المباني الإسلامية فتعتبر من الفنون التي ابتكرها المسلمون وطوروها على مدى قرون عديدة. ومن أقدم البلاطات الإسلامية تلك التي عثر عليها في مدينة سامراء في العراق والتي تعود إلى القرن التاسع الميلادي وتضمّ آثاراً فنية نادرة وجدت في الجوامع وبعض القصور كقصر الجوسق الخاقاني.
وتعتبر مدينةكربلاء المقدسة من المدن الإسلامية الرائدة في صناعة واستخدام البلاط القاشاني،لذلك سُمّي محلياً في العراق بـ« الكاشي الكربلائي »، والذي استخدم في تزيين الأضرحة والمساجد والمباني الدينية والتراثية.
ومن العراق انتقلت تقنية الزخرفة بمواد البريق المعدني إلى أنحاء العالم الإسلامي ومنها إيران، التي أنتجت خلال المرحلة الممتدة من نهاية القرن الثاني عشر إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر، بلاطات خزفية مزخرفة بالبريق المعدني تتميز بمستواها الفني الرفيع. وهي اليوم تـشـاهد في العديد من المباني الدينية والتاريخية وكذلك تُحف بديعة موزعة على عدد كبير من المتاحف العالمية. وكانت مدينة كاشان المركز الأساسي لإنتاج هذه البلاطات، لذلك سُمي بـ« البلاط القاشاني ». وكانت هذه البلاطات تستخدم لتغطية الجدران وخـاصة جـدران القبـاب والمآذن والمداخل والمحاريب.
وقد استخدمت البلاطات في العهد الصفوي بكثرة في تغطية الجدران الخارجية. ومثال على ذلك مسجدالشيخ لطف الله ومسجد الإمام في أصفهان. وتتكون هذه الزخارف من تفريعات نباتية متصلة ورسوم الأزهار ذات الألوان الجميلة. وقد استخدمت البلاطات ذات البريق المعدني في مصر أولاً في العهدين الطولوني والفاطمي.
وتعتبر الزخارف الخشبية وخاصة الشناشيل (المشربيات) إحدى سمات فنون العمارة الإسلامية.وقد انـتـشرت الشنـاشيل – وهي الشرفات الخشبية المزخرفة البارزة عن البناء – في العديد من المدن الإسلامية. وتتميز بجمال نقوشها الخشبية، وهي شاهد على جمالية العمارة الإسلامية وتقدّمها خلال فترات من تاريخها الحضاري العريق.
أما الزخارف الأخرى في الأعمال الخشبية فقد أظهر النجارون الذين صنعوها تفوقاً في الدقة والمهارة في أعمال التكسية الخشبية والنوافذ، خصوصاً في بعض الألواح والمشبكات التي ظهرت بخصائص متميزة في الواجهات الداخلية للأبنية.
ومن أهم الإنجازات الحضارية التي حققتها العمارة الإسلامية هي تأكيد توظيف مواد البناءالمحلية في البلدان الإسلامية كالطابوق (الآجر) والمواد التزينية كالبلاط القاشاني والفسيفساء والأخشاب وغيرها، واستخدامها بطريقة فنية رائعة في تشييد المباني وزخرفتها حتى تلائم الظروف البيئية والمناخية وتنسجم مع الحياة الحضارية والاجتماعية لكل بلد.
وهكذا نجد من هذا العرض مدى تأثير فنون عمائر مختلف الحضارات على تطور وازدهار فنون العمارة في البلدان الإسلامية.
الموضوع في صور